فراشات مرح البقاعي ترفرف بين شانه ده ر ودمشق

زاكروس عثمان 
من سفوح عَرَفَ فيها القلب أول خفقة ينحدر جدول نبوة في مويجات شجن انثوية المعاني، خرير يسقي السامعين دم عناقيد قُطفت من كرم امرأة تحمل في جوارحها ما تبقى من جنائن بابل المعلقة نبيذ معتق في كأس شعر نيزكي النكهة ومن يذق خمر القصائد يتذكر مرح البقاعي في انشودة  زرادشتية ويسمعها ترنيمة على لسان  راهبة آرامية.
استوقفني اسم الشاعرة الأمريكية ـ السورية مرح البقاعي التي اتابع نتاجها الشعري منذ عشرات السنين ولكن ما شد انتباهي اكثر هذه المرة هو عنوان مجموعتها الشعرية” زهرة في كهف شانه ده ر” حيث اخذ قنفذ الفضول يتدحرج في نفسي ويتساءل لماذا اتخذت البقاعي الشاعرة الدمشقية كهف شانه ده ر عنوانا لكتابها، أتراها رغبت ان تهدي الزهرة إلى صاحب اول قلب عرف الخفقة ام انها ارادت العودة بالبشرية الى بداياتها للتكفير عن ذنوب قتلة صاحب الكهف ممن شردوا احفاده، ام انها بَحَثتْ عن قصة حب مرسومة على جدرانه، وكان لا بد لي من السباحة من الضفة إلى الضفة في بحيرة البقاعي المضطربة حتى اعثر على مقاصدها من زيارة كهف يمجده الكورد ويزوره من يدور في رأسه كوكب يعج بحقائق مبعثرة عصية على الترتيب، عجبا أترغب الشاعرة في ترويض الافلاك بقصائد الشعر. 
فتحت الكتاب بعين الناقد بحثا عن إجابة وما كدت اتلمس نهدي القصيدة الاولى حتى اُخذتُ بعبق زهرة البقاعي يفوح توقا إلى الذات زهرة تنتف وريقاتها وتترك على كل منها قصة.. صرخة.. احتجاج..  شكوى او خاطرة، هذه هي النشوة أنثى تسخر من مؤرخي السلطان كي تروي هي تاريخها وتاريخ دمشق وكم يكون التاريخ مغريا حين يأتي في قصيدة متلاطمة لا تعترف بالحجاب تنذر بطوفان آخر ترى هل ذهبت البقاعي إلى الكهف حيث ما زال يسكن في الجوار رجل الطوفان الاول لتحذره من (زيتونة تكاد تشتعل ولم تمسسها نار ولا يد)، التنور غاضب يكاد ان يتأجج  في صدر الشاعرة  وهي تبحث عن ربيع لا تسبقه دماء او دموع إذ يكفيها طوفان الحنين إلى دمشق.
اغراني بحر البقاعي على خوض غماره لأجد نفسي امام عاصفة شعرية لها وقع المغناطيس تقول الشاعرة: وكل انشطار لجة من ضوضاء الأرق, ما يلاحظ هو ان المجموعة تزدحم  بتراكيب فريدة بين صورة تشدني واحساس ينبذني وسكون يبقيني بينَ بينْ توتر سحري بين سالب الروح وموجبه يعطي قصائد البقاعي طعم صدمة لذيذة غير متوقعة تلقي بالقارئ في جوف ثقب اسود كوني الاتساع والرعشة لا تكون ما لم تسبقها رغبة في التلاشي هناك تتناثر سعادة وانت تجد الشعر في  ماورائيات البقاعي كائن حي  تراه وتلمسه وتداعبه لكن تعجز عن وصف جماله يستبد بك العطش تريد ان تشرب مزيدا من السراب وانت ثمل على حافة قصيدة لا رغبة لك في الاستفاقة منها تلقي بنفسك في الهاوية تسمو إلى الاعلى، الافق شهي المذاق ثمة قواف تفوح منها رائحة الشواء وسيدة تطحن قصيدة من صرخة السماق وصدى الكاري انها البقاعي تفرش السماء بريش الطاؤوس وتجلس هناك على عرش التجلي ملكة تحمل صولجان الوحي، نعم حين تشرب الشعر من كأس مرح تغدو طائرا مجنونا يحلق عاليا وتمضي في مغامرة تظل تتنوع وتتوالد في مواضع يصعب تحديدها صور متدفقة تجرف سدود الوعي فيضان متلاطم يغمر ضفاف الاحساس وتعود القصيدة مهرة تصعد بك إلى سدرة البقاعي وتأخذك النشوة إلى مجرات لذة متوهجة لا تريد منها فكاكا، تقول الشاعرة: لا اريد العودة من تيه المجرات وحده الغيب ملاذ نفسي، أمام هذه اللوحة النقية تنتاب القارئ لهفة فلكي في العثور على رقعة من الغيب عله يكتشف من اي كوكب تأتي مرح بقصائدها التي تعج بعبق السرمدية، وتمتاز البقاعي في مجموعتها” زهرة في كهف شانه ده  ر” بأنها غزلت اشعارها من صوف القدر ولونتها من دم النجوم ونقشت رسومها من اوجاع الأرض لتكون قصائدها مجموعة فراشات مزركشة تطير في كل حدب وصوب تلاحقها دبابير القلق وكأني بالشاعرة ترسم على اجنحة فراشاتها مخاوفها على دمشق، بل هي رسمت هذه المخاوف في ادق تفاصليها حتى قبل حدوث الخطر إذ تصف المشهد السوري في قصيدة خشخاش قائلة: سأواصل عد النجوم المنشورة على العشب المائل على الدرب إلى بيتك الذي من حريق وحطب… حافية ادوس على زجاج شباك له دم من شظاياك، وما حصل بالفعل هو تحول سوريا إلى شظايا وهذا يفسر ذاك الايقاع الباطني المضطرب المتوهج الذي يشوب نصوصها فترى قصيدة تلقي بنفسها من ابعد كوكب على الارض منتحرة وترى اخرى جاهدة ترفرف بأجنحة دامية هاربة من الارض إلى ابعد مجرة، ولست ادري هل فوضى الحواس هذه كانت مقصودة من الشاعرة ام انها كانت ترجمة عفوية لهواجسها، واي يكن فان هذه الفوضى تركت مشاهد غاية في الجمال منحت القصائد مزيدا من الحركة والحياة إذ تصادف في المجموعة حورية تتقافز او جزيرة نائية القى الموج على شاطئها جثة سوري غريق او خليج يبعث على السكينة او اسماك مجنونة تبحث عن شباك، وقد يمر دلفين دهشة في مخيلتك مرورا خاطفا او تنفتح امامك محارة تهديك لؤلؤة رجاء.
 بكلام آخر حين تكون صارية مركبك مكسورة وتجد من بعيد اضواء منارة حينها تأكد انك عالق في قصيدة للبقاعي تتفرج على ثنائيات الحياة بشغف، فهذه سيدة تنقش مزمورا ممنوعا على جلد البحر كونها تحمل في جعبتها اسرار حروف قابلة للاشتعال فمن يجيد قراءة ابجديات الضياء يا آهورمزدا ليصل إلى” ذروات الشعر” ما بين صحوة واغفاءة.  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…