إبراهيم اليوسف
والآن، ها نحن ننظر إلى الوراء، نستجلي النظر في أوضاع الكائن الآدمي، في خريطة العالم، قبل مجرد أسابيع، من نقطة التحول التي شهدناها بعد طوال معاناة،. بعد أن هيمن الذعر، وبات المرء يخاف من ظله. من نفسه. من أسرته، وثمة عادات وتقاليد شخصية، وبيتية، وأسرية وكونية كثيرة تغيرت، إذ افتقد جميعهم الثقة بعالمه، وكيف لا لطالما إن الخطر في هذه المرة لم يكن عبر طائرات محلقة ترمي البراميل، أو حتى القنابل الذرية، ولم يكن قد استخدم السلاح الشامل، بل إن كل أسلحة الدمار أعلنت عطلتها، بعد عطبها، وذهولها أمام سلاح أمضى. سلاح لامرئي، لا أحد يعلن بعد عن مصدره، أهو بركان الطبيعة. بركان الكرة الأرضية.
رسالتها إلينا، أم أنه مجرد تجربة أولى من قبل من بين أيديهم أزرار مخابر الأسلحة البيولوجية ومفاعل سواها؟ لا أحد يدري، كل ما في الأمر ثمة خريطة لمقابر الضحايا حول العالم. لكل من هؤلاء رقمه، وعنوانه على كمبيوترات هيئة الصحة العالمية، أرقام معلن عنها، وأحاديث سرية، مسربة، وجدت طريقها إلى النشر أو الانتشار حول أمر خطير وهو أن لا أحد في العالم لم يصب بهذا الفيروس الذي أودى بحياة عدد كبير لم يعلن منه إلا القليل، بينما الفيروس يعمل في خلايا رئات الناس، وباتوا يشككون باللقاحات وأدوية العلاج التي أعطيت لهم، بعد أن أرهق كاهل العالم خلال سنة كاملة، وعاد هذا العالم، القهقرى، إلى القرن الثالث عشر ميلادي، وتغيرت نظم كثيرة، بل تغيرت علاقات كثيرة، وعاد شبح الجوع إلى الكرة الأرضية، وبات المواطن الأوربي يتذكر أنه كان في بلده صندوق إعانة اجتماعية، إلا أن كل ذلك قد توقف، بسبب مديونية العالم كله، حيث جميعهم خاسر، في حرب عظمى ضحاياها موزعون بين مقبرتين: مقبرة الموتى ومقبرة الأحياء.
لقد كان ثمة وعد من قبل قادة العالم الجديد، بعد أن خرجوا من مخابئهم، وهم لما يزالوا “مكممون”، مقفزو الأكف، بإقامة احتفال مركزي كبير في مدينة” إكس” التي ظهر منها ذلك الطبيب الشجاع وقال: إليكم هذا العقار، وما إن أعلن عن مواصفات دوائه البسيط حتى تم خطفه من بيته، وثمة شهادات كثيرة من قبل زوجته وأطفاله بأنهم وجدوه ساهراً في غرفته الصغيرة حتى وقت متأخر من الليل، ولقد سمعوه وهو يرد على أسئلة مذيعي الشبكات الإعلامية بثقة كبرى. لقد ترك غيابه أثراً كبيراً في نفوسنا، بل إن البشرية كلها فقدته، فهو منقذها. منقذ أرواح المليارات، ولا نرى أن وضع صورته واسمه على علبتي لقاح كوفيد19، ودوائها الذي يتم العلاج بوساطته بعد ساعة فقط ما يكفي لإنصافه. إننا نطالب بإعادة أبينا إلى بيته، فنحن لن نقطع أملنا في عودته إلى البيت سالماً.
وأصرت زوجته قبل إعلان موعد احتفالية العالم بيوم النصر على فيروس كورونا، أن أسرتها لن تشارك في أي احتفال مالم يعد زوجها وأبو طفليها إلى بيته، وهي تؤكد أن الأسرة مصرة على تصريح زوجها بروفسيور الجامعة” t.m.v” بأنه لا يتوخى أي مقابل لقاء اكتشافاته إلا إنقاذ البشرية من هذا الوباء العظيم، فهو فكر بإنقاذ أطفال العالم. أطفال بلده. طفليه. أسرته. محبيه من هذا الهلع، وواصل الليل بالنهار، حتى استطاع اكتشاف عقار بسيط، لا ضرر أو أذى مستقبلياً منه، وهو على نوعين أحدهما يعطى كلقاح لكل فرد. صغير وكبير. ذكر أو انثى، وثانيهما يعطى للمصابين بهذا الوباء، وكان عشرون مستشفى في بلده قد جربوا هذه الجرعات خلال الشهر السابق على الإعلان، فتأكد لجميعهم أن الدواء ناجع، ومجرب!
ثمة أمر جد خطير قيل على لسان كبير الخطباء في الحفل وهو: خلاصنا من بين أذرعة هذا الأخطبوط اللامرئي، العملاق، لا يعني أن انتصارنا نهائي، فكما أننا نستطيع صد هذا الميكروب في أحد حروبه التي جعلها حرباً عالمية كبرى، فإنه سيتأهب لإشعال فتيل حرب كونية جديدة. حروبه التاريخية كانت عرجاء، مشلولة، تكاد لا تتجاوز قارة، أو قارتين، إلا أنه قد استفاد بما فيه الكفاية من تجربته، وهو يهزم قادة العالم كله، بحيث لا أحد صمد أمامه، وثمة من كان يرتعد وهو في غرفة نومه، أو في مطبخ بيته، لا يثق بأحد من الطهاة حتى زوجته. لقد تساوى الناس جميعاً في التخوف منه، وكان الأكثر هيمنة وقوة على الآخرين الأضعف، لاسيما بعد أن وصل العدو اللامرئي إلى البواخر والسفن والبوارج في المحيطات والبحار، و إلى الطائرات وهي في عنان السماء، بل وإلى مكاتب قادة العالم، وهم في مكاتبهم المحروسة، فما بقي أحد خارج سلطته الرهيبة.
الدروس التي أمليت علينا، كناجين، لا بد من أن نعتبر منها. لابد من أن نتعظ. هذه الدروس هي عدة حرب المواجهة لظلال فلول الحرب الكونية الكبرى وهي تمر، بل هي ذاتها، وليس سواها، من أدوات مواجهة اية حرب محتملة قادمة. لم يخرج أحد من الناجين من الحرب إلا وهو عارف ما عليه أن يقوم به، وما عليه أن تجنبه، وكأن هذا الميكروب كان في الوقت ذاته أحد عظماء أكاديميي التاريخي، وقد اطلع على مختلف العلوم والفلسفات والآداب، بل نهل منها، كي يمحو أثرها. آثار صانعيها، وتلامذتها، وأساتذتها، وما علينا إلا أن نعد كتاب النجاة- و-كتاب المواجهة- لأن التاريخ هو هنا، ولأن الجغرافيا هنا، ولأن الماضي والحاضر والمستقبل كله: هنا..، حيث لا أحد يعرف خارج ذاته!؟
* كتب النص في أواسط آذار
وهو من المسودات غير المنشورة!