يسرُّنا جداً في جريدة يكيتي لو اتّسع وقتكم قليلاً للردّ على أسئلتنا ، ولتسمح لنا بمحاولتنا المتواضعة في صياغة أسئلة – نتصوّرها مكمّلة ربّما – للعديد من المقابلات واللقاءات التي تناولت مجاميع أنشطة مترافقة لمسيرة حياتكم وتشعّبات اهتماماتكم المتعددة، والتي تختزلها ولربّما لن نكون مجحفين إنْ قلنا إنّ قاعدتها الأساس هي الإحساس ذاته بمشاعره النبيلة وروحية الشاعر التي لا يختلف فيها اثنان ومجرّد التطرّق إليها لا بدّ من ذكر اسمكم وتجربتكم ، يُضاف إلى ذلك دراسات عديدة وكانت – ربْما المفاجأة – هي في ذلك الزخم الذي كشف عن ذاته حين دخولكم الى محراب الرواية من أوسع أبوابها ومستنداً على إنتاج زاخرٍ و كاسمٍ لامعٍ فيها .. وعليه لو سمحتم لنا :
– المكان وذاكرته حيث يُلاحظ أنّ غالبية كُتّابنا يرتكزون عليها ، فتبدو شبيهة بافتتاحيات الشعراء العرب القدماء والوقوف على الأطلال، إلا أنكم تنبشون فيها كذاكرة وذكرى وتجعلونها تنطق وتروي حواديتها في دفق وسريالية لا توقفها أيّة كلمة وإنْ كانت خُتِمت ب – تمّت – أو النهاية .. ما السرُّ في ذلك؟
*لم يعد المكان تلك المساحة الجغرافية التي طالما كان يجيء ذكرها، كمسرح لوقوع حدث، أو سلسلة أحداث، بل إن الدراسات الجديدة-لاسيما البنيوية- منها- باتت تتحدث عن المكان الفني. عن المكان كجزء من الفضاء العام للنص، والهوة واضحة بين المفهومين، لذلك فإننا في الكثير من الأعمال نكون أمام مجرد مكان جغرافي لا أكثر، من دون أن يكون تناول هذا المكان محققاً لشرطه الشامل.
إن مكاننا بالرغم من تناول سليم بركات له في بعض أعماله الأولى- على نحو خاص- ومن ثم تناوله من قبل بعض السابقين عليه ممن قدموا إليه، أوحتى بعض أبنائه من الرعيل الأول من كتابنا، والأجيال التي تلتهم، لما يزل بكراً، ومن الممكن الكتابة فيه، وتناوله ضمن فضاء سردي لافت.
ما أود الحديث عنه- في هذه الوقفة- أن حالة المنفى، وفي ظل اشتعال أتون الحرب التي تحرق تفاصيل المكان، بل تجهز على فضاء المكان: المكان وكائنه، جعلت الذاكرة، والخيال، يتقدان لنكون أمام عالم آخر، هوعالمنا ذاته، كما أنه يكاد أن يكون سواه.
أما عن انسيابية النص، بالرغم من تموجاته، لأكثرمن داع، فهوما أردته حقاً، ويفرحني أن يكون هذا العمل كما ترون، بالرغم من أن أية مقارنة بين روايتي: شارع الحرية- شنكالنامه فهي لاشك ستترك انطباعاً بأن هناك انتقالاً بين قراءتين: الأولى منهما تحاول منح مفاتيحها للقارىء، بينما ثانيتهما تكون مختلفة نتيجة سردية- التراجيديا- في أعلى درجات توترها وسعيرها، في نسختها الواقعية التي هزت العالم، لتحمل النسخة الفنية بعض ذلك الوهج والأتون.
-من جديد حول المكان وحواديته والذكريات بدقائقها؟ ألا تشي أحياناً بنوعٍ من السرد الذاتي أو ما يشبه التوثيق الشخصي، ومن ثم عليه إعادة أو صياغة التاريخ في تلك الفترة الزمنية وطبيعي سيكون من حق الكاتب أو سيكون هو أسير تصوّره، والسؤال: شارع الحرية بكلّ مفاصله وشوارعه و بأزّقته ..
أين هو إبراهيم اليوسف منه وفيه؟
*ما تشير إليه- هنا- هو من صلب استراتيجية كتابة نص: شارع الحرية- لقد تم توظيف: المذكرة- الشهادة- مايشبه الوثيقة التاريخية- الحدث- بعض أسماء العلم- السيرة- الخيال إلخ. هذه التقنيات وظفتها من أجل عمل مختلف، غيرمستنسخ، عن أي- كاتالوك- خارجي، ومن يقرأ شارع الحرية ير أنه عمل يتناول حياة بيت في شارع. شارع في حي. حي في مدينة. مدينة في وطن، في لحظة طارئة في مواجهة الإرهاب، من جهة، وكلاليب الاستبداد، من جهة أخرى. ليس في الرواية إلا ماهوعالمها. إلا رؤاها الجمالية. إلا آلام وآمال ومكابدات أهلها.
اسم-إبراهيم اليوسف- تم توظيفه في هذا العمل: إنه الراوي والروائي، وأعني بهذه التسمية/ المصطلح اسم الناص المدون على الغلاف الأول، أما الراوي فهو الذي يمسك بفصول هذا العمل، كما هي حبات سبحة، ليضعها، في خيط واحد- كما تم الرسم لذلك من قبله- إلا أنه طفولة هذه الشخصية. أحلامها. انكساراتها. حبها. تطلعاتها، إلى الدرجة التي رأى بعض قارئي ممحاة المسافة- كتابي السيروي- وشارع الحرية، ومنهم الناقد د. خالد حسين بأنهما متماهيان- بالرغم من الحدود الفنية بين العملين وهو كلام دقيق- بل إن روائياً سورياً رائداً و مقدراً هو نبيل سليمان قد رأى- ممحاة المسافة- أي مذكراتي هي بوابة لشارع الحرية، إذ إن إشارته هذه أبهرتني.
-الكتابة بكلِّ أشكالها تفرض على الكاتب نمطها الخاص ، وفي المجال الأدبي تتماوه الصياغات ، وفي الشعر تفرض قيودها عكس الأنواع الأخرى ، ولكنها في لغة الشاعر بغير مجاله تفصح عن ذاتها كما في بعضٍ من فصول روايتيك ، وهذه هل هي بالسليقة أم ؟ ..
*في أكثر من كتاب صدر لي، خلال السنوات القليلة الماضية لاسيما: مخاض المصطلح الجديد- استشرافات على عتبة التحول- إبرة الذهب في شعرية النص الفيسبوكي- استعادة قابيل: صياغات جديدة للوعي والأدب والفن- ركزت على أمر رأيته مهماً ألا وهو أنه نتيجة جملة عوامل فإن الأجناس الإبداعية باتت تتداخل، على نحو أكثر من قبل، ومن بين ذلك: شعرية الرواية وسردية الشعر- مع إن الفصل الأوتوماتيكي بين هذين النمطين إشكالي إلى حد ما- ناهيك عن الحدود بين أكثر من ضرب سردي: القصة والرواية، والمسرح، وهكذا بالنسبة إلى القصيدة، بل والسينما، والموسيقا، والتشكيل.
أوافقك. هنالك بعض الفصول في الروايتين هي ترجمة لمثل هذه المقدمة التنظيرية، إذ إن إعادة قراءتي لها- الآن- تبين حضور أكثر من شكل كتابي فيها، بالرغم من أن هنالك فصولاً كتبت تحت وطأة سرديتها الصرفة. أما عن حضور لغة الشاعر، أو الشعرية فهما أمران متروكان للقارىء الفطن، والناقد النبيه، بما لا يمكنني خوض غمار الحديث فيهما البتة، باعتبار الناص-من وجهة نظري- لايمكنه أن ينفصل عن نصه، حتى بعد قطع حبل سرته. شأن الطفل وأمه!
– في رواية شنكالنامة وكقرّاء كُرد يكفي للعنوان وحده أن يفرد في الوعي سرياليات الألم المولج بالدم والتي رافقت وكصورة مطابقة لحدث شنكال الألم والغدر والاغتصاب ، صيغ وتوصيفات قاربت لا بل اندمجت مع التوثيق أدبياً وبلغة راقية جداً .. الفضول يدفعنا ،كلُّ مَنْ قرأ الرواية ، أو حتى من تابع بعض الإضاءات أو التعريفات بها، دقة التوصيف وإنْ لم نبالغ ، الاندماج في الحالة من جهة والناطق / المتكلم من عميق أحاسيس الشخص / الشخوص .. كيف تفسّرون لنا كقراء هذا الاندماج الكُلّي في الحدث؟
*حلم أي ناص هو أن يحقق نصه المعادلة التي تربط بين ثنائي: النص والمتلقي، وإن كان هو الآخرليس خارج المعادلة، بل وإن كانت المؤثرات المتعددة، ومنها: ثقافة هذا القارىء، واهتماماته، الغوايات الخارج نصية “العنوان” جهة النشر- بل اسم الناص.. إلخ، ليست خارج هذه المعادلة. ماأعرفه أن شنكالنامه التي طبعت خلال مدة سنتين من إصدارها طبعات عدة، ومن بينها طبعات في بلدان عربية استطاعت أن تصل إلى دائرة قراء لابأس بها، وإن كنت أحلم أن يتحقق لها أن تكون بين يدي كل من يريد قراءتها. أشير-هنا- إلى أنني أرسلتها إلى أعداد كبيرة ممن قرؤوها، كما أنه-وللأسف- ثمة من سربها عبر بعض المنتديات” ولم أكن أرغب بذلك” بطريقة لا تعجبني، فاعترضت على سرقتهم للعمل.
أجل، لقد تم تسليط الضوء على هذه الرواية، إما من قبل مقربين إلي، أو من قبل سواهم ممن لم تكن بيننا أية معرفة سابقة، وذلك إلى الحد الذي قد يرى بعضنا أنه تم تناول العمل بشكل كاف. أكرر: هذا العمل تم تناوله على نحو جيد، إلا أنني كنت أتوق إلى قراءته أكثر وأكثر، فثمة جوانب كثيرة فيه تحتاج إلى المزيد من الإضاءات، إذ إنه بالرغم من تعدد طبعات الكتاب إلا أنه لم يصل منها إلى مهادي. مسقط رأسي أكثرمن بضع نسخ ورقية- فحسب-
ثمة ما أعلنته أكثر من مرة، وهو أنني أرى نفسي شاعراً، قبل أي اعتبار، ولكن هذا لا يعني أن الشاعر لا يكتب الرواية، وثمة أمثلة كثيرة في الأدب العالمي تؤكد نجاح الشاعر في هذا الحقل أوسواه، وإن كنت أعاجل-هنا- بالقول: الرواية ليست هدفاً كبيراً لدي. إنها إحدى أدوات إيصال رسالة جمالية رؤيوية، كما أرى، وثمة أمر آخر لطالما أعبر عنه.
-لن نبالغ إنْ قلنا بأنّ نتاجاتك لها مالها من صدىً في الشارع الكُردي، إلا أن شنكالنامة تميّزت باهتمام كبير ورواج أفضل لا بل ، إن كثيرين وصفوها بأنّ إبراهيم اليوسف يتبدّى فيها بقمّة الإبداع وتدفّق في الأحاسيس .. ماذا تقولون في ذلك؟ و هل علينا توقع نشر الرواية جماهيرياً وبشكلٍ أوسع في كُردستان سوريا؟
*لايستطيع أي كاتب الحكم على أي عمل ينتجه. التقويم الحقيقي يتم من قبل القارىء. القارىء الذي أعول عليه حتى قبل الناقد، لأن الناقد الناجح هو قبل كل شيء: قارىء ناجح، يمتلك أدوات تنظيرية، وإمكانات تطبيقية على نصوص لآخرين، سواه. من هنا، فعندما انتهيت من كتابة شنكالنامه” وهكذا فعلت بعيد انتهائي من كتابة-شارع الحرية- “أرسلت مخطوطها إلى مجموعة من المقربين الذين أثق بهم: منهم القارىء المتابع، ومنهم الناقد، ومنهم القارىء العادي. الروائي. الروائية. الشاعر. الشاعرة.الإعلامي.الإعلامية، وأرسلتها أيضاً إلى أصدقاء وصديقات إيزيديين متفاوتي القدرات متبايني الرؤى، وجاءت ردودهم جدّ مشجعة. نعم، كان من بين كل هؤلاء من وجه إلي ملاحظات مهمة، منها ماكان يتعلق بجوانب حساسة، أو أخطاء محددة يقع فيها حتى كبارالكتاب. كما جاءت الآراء مشجعة جداً، وهوما شدني للتفكير بطباعتها. اتفقت مع دارنشر أجلت طباعة الرواية سنة وبعض السنة، إلا أنني اتجهت إلى دارأخرى، وتمت طباعتها. ما أفرحني أن أكثرمن دار عربية بل وكردية طالبت بإعادة طباعة هذه الرواية. أعرف أن جزءاً كبيراً مما يسجل لها يعود إلى كثافة الألم الذي يستفز القارىء، إلى الدرجة التي كتب الصديق قادو شيرين على صفحته مامعناه: توقفت عن القراءة عند الصفحة كذا فأنا لاأتحمل كل هذا الألم!
وهو ماقالته خبيرة- بقراءة الروايات- إذ قالت: إنني أقرؤها على مراحل بسبب كثافة الألم”
ليس من عادتي أن أتحدث عما أكتب، إلا أنني أريد القول هنا: إن في عالم هذه الرواية مايشد القارىء، نتيجة ألم ربما خارجي، حاولت أن أعيد صياغته داخل فضاء هذا العمل. ماحاولت أن أفعله هو أني اعتمدت تقنيات عفوية-لأول وهلة- إلا أنها تندرج- كما أزعم- ضمن رؤى جديدة فنية جديدة، لاأدري مدى نجاحي في عالمها، وإن التبس الأمر على بعضهم، وخيل إليه أن هذه الرواية عبارة عن مشاهدات الكاتب، نتيجة تشابك الخيال بالواقع، في مفاصل عديدة!
أعود وأقول: لربما إن صدى هذه الرواية- وبالشكل المقبول- يعود إلى عمق الجرح المتناول، وإن كانت هناك أفلاماً وثائقية وكتباً ودراسات في مجلدات، واعترافات هائلة من قبل بعض أهالي الضحايا، والشهود، أو السبايا أنفسهم قد قالت ماهو أبلغ ألماً مما تناولته، إلا أن الرواية تمت قراءتها من قبل أوساط واسعة من الإيزيديين، وكانت ملاحظات بعضهم- وهم أصحاب مواقف سياسية- تدورحول أمور طفيفة، إلى الدرجة التي قال لي ناقد إيزيدي كبير: الرواية جد مهمة، وكنت أرغب أن أنصفها نقدياَ، إلا أن فيها نقطة أيديولوجية” هذه النقطة لاتزيد عن أسطرفقط!”، جعلتني أكف عن ذلك، وكنت أريد منك أن تنقد بضراوة الجهة الفلانية. هذا النقد من لدنه هو- في الأصل- نتيجة أيديولوجيا سابقة على مأساة شنكال نفسها. كتبت ما أعرفه مما يتعلق بشنكال من ألف مأساتها حتى ياء جحيميتها. ما أنا متأكد منه، لا كمايريد هذا الطرف أو ذاك.
-ماجديد إبراهيم اليوسف
*ثمة رواية لي بعنوان- جمهورية الكلب- كانت ستطبع عن طريق دار الآداب، ولأن العمل تأخرت طباعته سنة كاملة، ولأن الظروف التي يمربها لبنان كان من شأنها تأخيرطباعتها إلى وقت آخر، إلا أنني لجأت إلى أكثرمن دار لأجل إطلاق طبعتها، ضمن العام الحالي، إذ إنني-حقيقة- حزنت لتأخر طباعة هذا العمل، كما حدث مع شنكالنامة، من قبل.
شكراً لكم في أسرة جريدة-يكيتي- لالتفاتتكم إلى أصدقائكم!. أسئلتكم مدروسة-بعناية- وقد استفزتني حقاً.
——-
المصدر: جريدة يكيتي