عن دار “هنّ”، للنشر والتوزيع في القاهرة، صدر كتاب الشاعر الكردي السوري محمد عفيف الحسيني، المقيم في السويد، كتابه السردي: (بهارات هندو ـ أوربية)، والكتاب يدخل في مقام السيرة الذاتية، مابين الحياة القديمة في مدينته عامودا، وأوربا وكردستان، واقاماته في العديد من الجغرافيا، العربية منها والأوربية؛ يختزل الكتاب الضخم 522 ص، من القطع الوسط، المناخات التي عاشها الكاتب حياتياً وعاطفياً ومشاهدات روحانية.
يغلب على الكتاب الطابع التصوفي المتقشف، وفي الآن ذاته الحسي الواقعي، ويتفرع في فصول متعددة. من الجدير ذكره، قلة من الكتاب الأكراد من كتب سيرته الذاتية ـ باللغة العربية ـ باستثناء سليم بركات في السيرتين، بسبب وعورة المواضيع وحساسيتها.
من أجواء الكتاب:
(الصاعد من قامشلو، نحو عامودا، سيرتطم برواية “معسكرات الأبد”، وتحديداً في “هليلكي”، حيث لازالت الأختان الشقيَّتان، تنتظران عودة الإوزات الشرسة، من النهر إلى البيت، وستنتظر الأختان، الرجل الغامض، صاحب المثاقيل الغامضة، ثم ستتراكضان خلف دورية فرنسية، وتراقبان المطار الذي بناه الفرنسيون في الجهة الثانية من قامشلوكي، أيضاً على هضبة الجهة الجنوبية؛ بنى الفرنسيون المطار، ثم جاء الشمول، فنصب عراء أحمر ـ نقطة تفتيش ثقيلة ـ بالقرب من المطار، كل سنة تحط طائرة على مدارجه الكليمة. كانت الأختان في هليلكي، تكبران، اندلعت ثورة سعيد آغا الدقوري، تاهت الثورة، كبرت هليلكي، وعلى مصاطبها، ارتفعت بيوت المهاجرين الكرد، من القرى الكردية، إلى ضاحية مدينة الكرد، جفف التركُ النهرَ الذي كانت تخوض في وحل أطرافها، إوزات “سليم بركات”، كما خضنا في أوحالها: محمدنور، رضوان، عبدالحكيم، وأنا، لنصطاد لاشيء، في الضحالة. وظلت هليلكي تكبر، وتتسع، الشمال ملغوم، وفي أسفل القصبة ـ المدينة الصغيرة، تستقر حنجرة المغني الذي مات قهراً من المخابرات: محمد شيخو. في جانب القصبة ـ الهضبة الفقيرة، ثمت بضعة شجيرات حزينة، أتلفها البعث الشمول، في طلاء المدينة بلون الشمول، المحلات يجب أن تكون أبوابها بنصف بني، ونصف حليبي ـ البيج القلق.
تصعد السيارات من كاراج قامشلو، إلى عامودا، وعليها أن تخوض الوحل من على الجسر الذي بنته الحكومات الوطنية، ثم تصعد نحو هليلكي، تتهالك السيارات الروسية الأممية الصفراء “صالون، ثمانية ركاب”، تأخذ استراحة، في أعالي الهضبة، حيث مدرسة “صقر قريش” الابتدائية، فيسمع السائقون والركاب، وطيور الركاب، النشيد البعثي، يردده طلاب كرد، في مدرسة الصقر الكبير. يتأفف السائق، وتتأفف عجلات روحه، تتعطل السيارة الأممية “صالون صفراء بثمانية ركاب”، صالون حلاقة بالقرب من المدرسة، صالون يديرها، متعطل، ومخبر، يراقب لحى زبائنه المرتجفة، وهو يمرر بشفرته الزرقاء عليها، ويحدثهم، بأن ثمت ضيوف، غرباء قادمون، سيحرثون الأرض بمحاريث متفجرة، سيحرثون أرضاً نبيلة، بفولاذ غير نبيل. الأرض فسيحة، الأرض كثيرة على أهاليها، وفائضة على حيواتهم وحيواناتهم، الأرض هي مباحة!!.
***
في السبعينات، كان سد الفرات، على نهر الفرات، قبل ذلك بعقد، دوّن “محمد طلب هلال” تدويناً ـ نبوءة، سداً، بأن الجزيرة الكردية، يجب تغييرها ديمغرافياً، جلب شاحنات من العرب، شاحنات روسية أيضاً، الزيل العسكري، وإملاء فراغات الكرد، إملاء أرضهم بغيرهم. جاء بهم البعث، بالغرباء الفقراء “المغمورون”، من قرى ضفاف الفرات، التي غمرها ماء الفرات، فكانوا بلاء وغمراً على القرى الكردية، في الشريط الحدودي، من القيامة إلى القيامة، فصحح الشمولُ وضع الكرد، فصادرت أراضيهم ودجاجاتهم وإوزاتهم وأسماء قراهم، ومنحتها، هبة كريمة للضيوف الغرباء. بنت لهم قرى نموذجية ـ لاأعرف ماهي القرى النموذجية ـ، بين أرض عراء، وعراء أرض، اكتملت بناءات أساسات نموذجية، أسطحها من القرميد المشوي بنار الكرد، وعلى أبوابها، يجلس القرفصاء بضعة من ملولين، يشربون الشاي، ويدخنون تبغاً جديدا عليهم ـ التبغ المهرب من كردستان تركيا ـ القريبة من أنفاس شواربهم الصفراء، وتستقر تحت أقدامهم الرشاشات الكلاشينكوف، الأممية الصنع، تطقطق أرواحهم بحنينهم إلى القاتل صدام حسين، الذي كان يبزغ نجمه، في مساءاتهم الغليظة البعيدة عن ضفاف الفرات. كانت الجمهرةُ بعثيين، وكانت الجمهرة، تؤوب في المساء إلى غرفها النموذجية، فلاينامون. “هؤلاء الجيران هم أكراد”. كانوا يرددون، بين أنفسهم وشحاطات مساءاتهم الغريبة).