هيثم هورو
-١-
كان يعيش في إحدى قرى مدينة عفرين ، شاب يدعى لقمان مع عائلته الفقيرة ، ولديهم حقل خضروات يقع على ضفة نهر عفرين ، حيث يسقونه ، منه عن طريق مضخة ليستر ( Listar ) .
ولدت لدى لقمان موهبة حب الإلكترونيات ، بالتزامن مع دراسته في المرحلة الثانوية ، لتفوقه في المدرسة أهداه والده جهاز راديو صغير بحجم كف اليد ، يعمل على البطارية ، ولم يكن يوجد كهرباء في تلك القرية والقرى المجاورة آنذاك .
لقد كان لقمان يتناوب مع أخيه عادل في سقاية المزروعات ، لكن أخوه كان يتأخر عليه دائماً ، فخطر له فكرة بأن يشتري جهاز راديو أخر ، كي يصنع منه جهازاً لاسلكياً ، ليتحدث من البستان مع أحد أفراد أسرته ، ويرسل له عادل لينوب عنه .
-2-
فعلاً تمكن لقمان من إنجازه بشكل جيد ، فقرر أن يفاجئ والده بذلك وهو معه في البستان ، حيث قام بتشغيل جهاز راديو المعدل إلى جهاز اللاسلكي ، ثم سأل والده : هل تريد أن تستمع إلى ما يقال في البيت من هنا ، أجاب الوالد : بدهشة وكيف ذلك ؟ وضع لقمان جهازه فوراً على أذن والده ، تنصت الأخير إلى حديث زوجته مع جيرانه في المنزل ، الذي يبعد عنها مسافة 500 متراً تقريباً ، فتفاجئ الوالد من هذا الأمر العجيب والغريب في ذلك الزمن، ثم قام لقمان بمناداة والدته عبر الجهاز ، فالتقطت والدته الجهاز وإذ تصدر منه صوت لقمان ، ويطلب منها بأن ترسل عادل إلى البستان لينوب عنه ، لكن كاد أن يطير عقل الوالدة من هذا الجن الذي يتحدث بعيداً ، وكأنه إلى جانبها ، وعلماً لقد كانت تلك الاختراعات في ذلك الزمن لدواعي أمنية ، محظورة منعاً باتاً .
-3-
انهى لقمان دراسته الثانوية ، ثم أنهى المعهد فرع الإلكترونيات متفوقاً ، وبعد فترة قصيرة عين مدرساً ، في الثانوية الصناعية في مدينة عفرين .
لم تمضي سنوات كثيرة ، ألف لقمان كتاباً كبيراً عن الدارات الكترونية ، والتي تخدم الانسان في كافة مجالات الحياة ، ثم توجه لقمان إلى مدينة حلب ، بغية نشر كتابه وهو مسرور جداً بنتاجه العلمي الصناعي ، حيث ذهب لزيارة أحد عمداء الكلية في جامعة حلب للحصول على موافقته ، وذلك تمهيداً لنشر كتابه ، لكنه لم يحظى بذلك ، حيث أقترح عميد الكلية على لقمان أن يسجل اسمه كمؤلف للكتاب ، حينئذٍ ستنال الموافقة ، أستفز لقمان من هذا التصرف المشين ، ثم ترك عميد الكلية خائباً وفاقد الأمل ، عاد لقمان أدراجه إلى قريته ، يائساً تلاشى حلمه ، وأصبحت الدنيا أمام عينيه قاتمة ، ثم قرر في قرارة نفسه أن يترك هذا البلد لكن الحالة المادية والدولارات لا ترحم عليه .
-4-
لجأ لقمان إلى عمه ، الذي يحبه كثيراً فقص عليه قصته ، وما جرى معه ، ثم طلب منه مصاغ الذهبي العائدة لزوجته ، وبالرغم كان صعب المنال ، لكن وعد لقمان عمه بأنه سيرد الأمانة ، حين وصوله إلى ألمانيا وبعد العمل مباشرةً ، في بادئ الأمر ، تردد العم من طلب لقمان ، لأن المصاغ الذهبي تخص زوجته ، لكن عمه كان طيب القلب وكريماً ، ثم شرح لزوجته قصة ابن أخيه وطلبه مؤكداً لها بأن الأمانة ستعاد إليها دون أدنى شك ، وعلى الفور ودون أن يلعب الشيطان بقلبها أجابت قائلةً لزوجها : لا أعترض على رغبتك ، ثم قدمت ما لديها من قطعات الذهب ، وتمنت له سفراً سعيداً .
وصل لقمان إلى ألمانيا ، حصل على الإقامة ، ثم تعلم اللغة الألمانية وأجادها ، بعد ذلك حصل على الموافقة بالعمل في إحدى شركات لصناعة التلفزيونات ، وهنا أبدع ثانيةً ، في صنع دارة الكترونية بتكلفة زهيدة ، وتوجه حالاً إلى مدير الشركة ليطلعه على انجازه فقال له : لقد صنعت هذه الدارة ، التي ستخدم شركتكم بأقل كلفة ، لم يصدق المدير للوهلة الأولى، فقام بتجربة نظرية لقمان ، التي تم اثبات صحتها ، أثنى المدير ، لقمان وتم تعينه رئيساً للقسم وبراتب يحسد عليه .
-5-
طيلة سنوات متعددة ، ذاعت في القرية ، بأن لقمان أحتال على عمه وزوجته في أخذ مصاغها الذهبي ، ولا سيما لم ترد الأخبار عن لقمان ، بسبب عدم وجود الهواتف حينذاك وأغلب الرسائل البريدية تُفقد لعدم وجود صناديق البريد في المنازل ، كانت زوجة عم لقمان ، تحزن وتزرف الدموع غضون خمسة عشر عاماً ، على فقدانها للقطع الذهبية وغدر لقمان…..
لكن في هذه الفترة ، تطور الأحوال المادية للقمان ، ثم تزوج وصار له أطفال ، بعد ذلك جاء بسيارته المرسيدس المهداة له ، من قبل رئيس الشركة تقديراً ، على ابداعه العلمي واخلاصه في العمل .
وصل لقمان إلى قريته ، لكنه لم يذهب إلى بيت والده فحسب ، بل توجه فوراً الى منزل عمه ، واستقبله عمه بالأحضان فرحاً وسروراً ، قبْل لقمان أيادي عمه وزوجته ودموع الفرح تنهمر من عينيه ، لم يدخل لقمان إلى الغرفة إلاّ بعد أن ردّ الأمانة الى زوجة عمه وهي كانت علبة مزخرفة جميلة ، وفيها عدد من السنارات الذهبية وتفوق أسعارها على المصاغ الذهبي الذي أخذه ، ثم قدم الهدايا الثمينة إلى عمه تعبيراً عن حبه له ، مع تقديم الأعتذار الشديد على تأخيره في رد الأمانة .
-6-
دخل الجميع إلى غرفة الضيوف ، وبينما هم يحتسون القهوة ويتبادلون الأحاديث حول طبيعة الغربة ، والحياة فيها ، وقعت أنظار لقمان على صندوق خشبي الواقع قرب عتبة الغرفة ، ونسي لقمان أحاديثه حول ألمانيا ثم سأل عمه : هل يمكنك اعطائي هذا الصندوق لأجعل منه تلفزيونياً جميلاً ، ضحك عمه ، ولم يصدقه بتاتاً استهزء الجميع بكلامه دون جرح مشاعره ، ثم ودع عمه وذهب مع أفراد أسرته إلى بيت والديه ، أما الفرح والسرور عمت ارجاء الدار وتعالت زغرودة ام لقمان ، واحتضنت احفادها وقبْلتْ وجه ابنه وبعد هيهة من الراحة والبهجة ، وجه والد لقمان سؤالاً إليه : لماذا تأخرت علينا كثيراً يا بني ؟ هل تعلم انك كنت متهماً من قِبل عمك وزوجته باللص الكبير و المخادع اللعين؟
أجاب لقمان لا يا والدي إن الظروف هي التي تحكم، الإسراع في اتخاذ القرارات، وإلصاق التهم دون قراءة الوضع ومعرفة الأسباب ، تجر الانسان إلى الوقوع في المغالطات الكبيرة ولربما تدفعه إلى ارتكاب الجرائم ، لا تتسرعوا في الأحكام !
إن الأمانة وصلت والموازين تغيرت….