غريب ملا زلال
من عاداتنا السيئة نحن الكرد على نحو خاص و شعوب الشرق على نحو عام أننا لا نعرف قيمة مبدعينا إلا بعد رحيلهم ، لو منحناهم جزيئات من الحب الذي نذرفه عليهم بعد هذا الرحيل و جزيئات من قيمة الورد الذي نرشه على نعوشهم ، لو منحناهم غرامات من الإهتمام الذي يستحقونه لأنقذنا الكثير منهم ، محمد شيخو ( 1948-1989 ) الموسيقي ليس أولهم و محمد عارف ( 1937 – 2009 ) التشكيلي الذي نحن بصدده في هذه المادة ليس آخرهم ، فالقافلة طويلة ، طويلة ، طويلة جداً تنطح السموات .
هالني الوجع و أنا أقرأ كلمات نجل محمد عارف و هو يسرد وجعه أيضاً من الإهمال الذي تعرض له والده في إحدى مشافي كردستان العراق : ” كنّا في المشفى الجمهوري ، ساء وضع والدي ، نادينا على طبيب ما لكن للأسف لا حياة لمن تنادي ، و من ثم طلبنا العون من الممرضات في المشفى لإلقاء نظرة على والدي و هو في غرفة العناية المشددة و لكن لم يأت أحد منهن بل و أبدين إنزعاجهن من طلبنا مساعدتهن ، هل تعرفون لماذا ، لأنهن كن جالسات في صيدلية المشفى و كنّا نسمع من هناك صوت قهقهاتن و هن يتجاذبن أطراف الحديث دون حياء أو وازع من ضمير . ” و يقول أيضاً بحرقة تقطع نياط القلب : ” طلبت العون من ممرض هناك و عندما وصلوا كان والدي يسلم روحه لبارئه ، بلا أمل و بلا طبيب و ضعيفاً مستسلماً تطلع إليّ و أمسك بيدي و وضعها على جهة قلبه ثم تنفس للمرة الأخيرة و أسلم الروح . ”
محمد عارف نال شهادة الدكتوراة في فلسفة الفن على أطروحته ” جماليات طبيعة كردستان و أثرها في الرسم العراقي المعاصر ” و له عشرات المعارض في الداخل و في الخارج ، و له ( 48 ) كتاب تأليفاً ، و ( 23 ) كتاب ترجمها من الروسية إلى العربية و الكردية ، جلّها عن الفن و الفنانين ، و من الجميل أن نذكر بأنه من مؤسسي كلية الفنون الجميلة بأربيل ( 2004 ) ، و يعد أحد أهم أعلام الفن التشكيلي الكردي و العراقي ، بل و من أهم روادها، و له جذوره الممتد في تاريخ هذا المشهد .
محمد عارف يتكىء على الواقعية كمنطلق لسيرته التشكيلية ، بدءاً من الواقعية الإشتراكية التي استمدها من قربه من القاع الإجتماعي و من حياة البسطاء و عفويتهم ، و رسخ هذا المنهج في أعماله حين درس الماجستير في إحدى الجامعات الروسية حيث كان هذا الأسلوب مؤثراً و فاعلاً لا في التشكيل فحسب بل و في معظم الفنون الأخرى / الرواية ، الشعر ، الموسيقا ، ….إلخ / و على إمتداد الأحزاب و الدول التي كانت تنبض بالإشتراكية كحلم يراودهم جميعاً ، و كذلك اقترب بحب من فن الأيقونة الروسية و بقي لها الأثر الكبير في أعماله لاحقاً ، لا كتمثيل ذهني عام أو خاص ، بل كبنية إدراكية متولدة عما توفره تلك العلامة الأيقونية ضمن نسق تمنح عمله القدرة على إنتاج دلالاته ، التي تمكننا كمتلقين من تأويل دوائره و هي في علائقية مميزة مع عناصرها في حدود تسمح لدوافعه بالتآلف مع تجربته الفعلية في الواقعية نفسها حيث العلامة الأيقونية أحد أهم إشاراتها .
ينتقل محمد عارف من عالم الأيقونات الروسية إلى الواقعية التعبيرية إلى الإنطباعية ، فجمال كردستان و جمال طبيعتها له الأثر الفاعل و الكبير في تجربته ، بل هو ينبوعه الذي لا ينضب ، فعشق المكان من أهم نبضات قلبه و بالتالي من أهم نبضات ريشته ، و هذا ما دفعه إلى الغوص عمقاً في التراث و الفولكلور الكردي و يرتشف من ملاحمه و أساطيره و حكاياته الكثير ، فإذا كانت جمال كردستان و سحر جبالها و سيمفونياتها اللونية مصدرا لكبار الشعراء و الأدباء و المستشرقين و الفنانين كيف لا يكون مصدراً عذباً له حسب تعبيره ، فهو مفتون بالمكان إلى حد الوله ، و هذا جلي في أعماله ، و هذا سر عزفه معزوفات واقعية و إنطباعية ، معزوفات فيها من الضجيج اللوني لصالح الفعل الجمالي ما يومىء بتاريخ أشيائه و توافقها مع حجم الإيماءات و ذاكرتها ، فصوت محمد عارف يختلف عن مجايليه حتى بهمساته المرسلة كنداءات في جسد عمله ، فهو يبحث عن رفع مستوى مفرداته ضمن فضاءاته كعنصر معرفي جمالي ثقافي إيذاناً بغياب ما سيفصح عن ذلك ، و إن كان هناك ما يقوّض الزهو في تدفق عناصره بجلابيبها ، فمحمد عارف هو الحالم هنا بصياغاته وفق كل موقع من داخل صرح فضاءاته الفنية التي هي إمتداد من صرح فضاءاته الإجتماعية و الوطنية ، فهو يتطلع لرفد مشهده البصري بإنفعالات بالغة الخصوصية و التي ستمرر الكثير من مظاهر السلوك الإنساني كطقوس لدلالات صوته في تحولات عمله من مرحلة لمرحلة أخرى ، فهو القادم من عالم الحكايات و الأساطير و التاريخ و الطبيعة ، فكيف لا يكون لكل ذلك الحضور الأميز في تجربته ، مع ضمور مطلق لأصوات الآخرين و بعيداً عن المؤثرات الخارجية ، وحده المكان ملهمه ، فإنحيازه للبسطاء و للواقع يجعل منهما إتكاءه الأهم في عملية بنائه الجمالي ، كما أنه أولاً و أخيراً يبحث كثيراً في إرضاء متلقيه على عكس الآخرين بألوانهم و تياراتهم المتنوعة الذين يجعلون لحظات الخلق و ما سيخلق تخصهم بالدرجة الأولى و الأخيرة ، و قد نكون معهم في ذلك ، فقط أحببنا أن نشير إلى متانة علاقة محمد عارف بمتلقيه و بالتالي متانة إلتصاقه بالمكان الذي تنفس و عاش فيه حيث جماليات الطبيعة و جماليات الناس وموروثاتهم هي مقاماته على إمتداد أكثر من نصف قرن .
ختاماً هل ستكون هذه المادة ناقوساً لنا جميعاً لنلتفت إلى مبدعينا الأحياء منهم لنبدأ بتكريمهم و هم يرتشفون الحياة بيننا ، هل ستكون نافذة منها نرسل النسيم في قلوبهم و نزرع معهم باقات من الحب و التقدير ، هل سنشير إليهم و نعترف بجهودهم و إبداعاتهم الكبيرة و نبدأ بتكريمهم بصوت عال ، هل سنقر بأنهم ثروتنا على هذه الأرض و علينا تقدير هذه الثروة ، أسئلة أتركها لكم و لنا علنا نجيب عليها معاً .