جان بابيير – النمسا
صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع/ عمان – الأردن المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر «رشيد جمال»، والتي تحمل عنوان «موج شاحب»، بعد مجموعته الثالثة «رسائل منسيّة على هوامش الحبّ والوطن». حيث غُصت في المجموعتين معاً، وارتأيت أن أدمج القراءتين كمقارنات بينهما، إذ تقع مجموعة «موج شاحب» في (117) صفحة من القطع المتوسط, تحمل بين طيّاتها أكثر من (29) عنواناً، فيما تقع مجموعة «رسائل منسيّة على هوامش الحبّ والوطن» في (112) صفحة، موزّعة على واحد وثلاثين قصيدة, وبين المجموعتين هناك نضج واضح من حيث بناء الصورة والابتعاد عن المباشرة وإسقاط اللا محسوس واللا مرئي، وتجسيده عبر الصورة أنسنة الأشياء، فقصيدة الحداثة هي انزياح عن السائد، لتسمية مقاصد القصيدة, وإيجاد جمالية المعنى ورؤية أشياء لا يراها الآخرون, وإلا أصبح كل شخص شاعراً.
وإن «قصيدة النثر» تختلف من شاعر لآخر في اللغة والمعرفة والإسقاط التاريخي، وتختلف من حيوية الإيقاع إلى الصورة والتشبيه، أما المدافعون عن القصيدة لا يعتبرونها البديل عن الجمود الشعري، وأحياناً روّاد النثر يكونون عرضة لانتقادات وهجوم عنيف من قبل الحرس القديم، ولا تخلوا ردودهم من السخرية، لكن لنعترف بأن النثر موجود منذ عصور طويلة، ولا نستطيع أن نتجاهل هذا النوع من الشعر، الذي بات يفرض نفسه بقوة.
سوف أبتعد عن اللغو، ولأقارن بين أول نص من مجموعة «موج شاحب» مع أول نص من المجموعة الثالثة «رسائل منسية على هوامش الحبّ والوطن»، أقتطف هذا الجزء من قصيدة «مقعد آخر للغبار» الواردة في الصفحة التاسعة:
كأسان من الدخان
ونبيذ معتّق على شفةِ امرأة
ومقعد ينفض عن ذاكرته الغبار.
في هذا المقطع نجد الصورة التي تستوقفنا في قفل المقطع وإغلاقه، بينما في المقطع الأول من «موج شاحب» في الصفحة التاسعة من قصيدة «حلم تحت القصف»:
تستفيقين من تعب القصيدةِ
كصباح ناعسٍ
بينَ مُقلَتي غيمةٍ
كانَتْ تودُّ احتساءَ قهوتِها
مع ضجيجِ كلماتِك
الغارقةِ في ابتهالات الوقتِ
الضائعِ بينَنا.
نجد في هذا المقطع تزاحم الصور وانسيابها وتصوير الأشياء المتخيلة كصورة حسّية, والكثافة هي التقنية الأساسية في الجملة الثانية, حيث لا يعتمد على علامات الترقيم في المتن ليتحدث المتن عن نفسه دون توقف, أحياناً يفكر القارئ «ماذا لو كتب هذه الجملة بهذه الطريقة؟ وماذا كان سيضيف؟ أو ماذا كان سينقص؟».
أوردت هذا المثال؛ لأبيّن للقارئ بأن الشاعر في حالة تطوّر, وما كان يبجله ويقبله في الأمس يرفضه اليوم، لأن الشعر في حركة تقدم دائمة.
سوف أضعكم بين مقارنة أخرى من «رسائل منسيّة على هوامش الحبّ والوطن»، من نص بعنوان «ذبول على قارعة المساء»، الصفحة (39)، نقرأ منه:
للحظة لنكن هنا…
أو
نمضي مع قارعة المساء
كلُّ الذين مضوا يَئِسوا
وكلُّ الذين عادوا تَعِبوا
أنا… وأنت
ما زلنا نتخبّطُ
بينَ المسافةِ والفراغ…
إن الإيقاع الداخلي للقصيدة هو الذي يوشي بملامح النص, وتكتسب شروط النص المحاط بسور كلماته وجنود معانيه أنه عنصر غير قابل للتعويض إلا من طينته ومادته, لا يمكن تعميم هذه الرؤية على كل النصوص، لكنه يظهر لنا بشكل جلي الإيقاع الموسيقي الداخلي، وهذا تأمل إيجابي لرؤية النص الشعري الحداثوي من الداخل.
سأكتفي بهذه المقارنة التالية، من الصفحة (49) من «موج شاحب»، وفيه يقول جمال:
أدمنْتِ جرحاً على نزيفي
يبعثُ النبضَ فيّ
أشرقْتِ كوجه إلهٍ يُخلّدُ الصمتَ
بينَ جدارين من التعاسة،
ومضيْتِ…!
بين الجدارين تطور الإيقاع، إلى حدّ الدهشة بين التجليات والتوريات، النزوع النثري من منطلق البنية ونقيضها في الحداثة الشعرية، والشعر بطبيعة الحال هو سوء تفاهم, ما تجده جيداً يجده الآخر رديئاً, أي بمعنى آخر ما يلامس شغاف القلب والمشاعر لديك لا يحرّك ساكناً في الآخر، قلما نجد في النصوص كلمات معجمية، وهذه تحسب للشاعر وليس عليه، ليكتب عن التفاصيل اليومية بعيداً عن لغة مخشبة، فالمعجم هو عائق يحد من الوصول إلى متذوقي الشعر؛ لأن المعجم صار عائقاً في حد ذاته، لا تنحصر معالجة الشاعر لموضوع واحد، نجده يكتب عن الحب واللوعة وكذلك الحلم والوطن, إذ تتنوع المواضيع ولا تخلو النصوص لديه من مسحة فلسفية أحياناً في الإطار التاريخي؛ وأحياناً في الواقع اليومي لمنجزه الشعري.
ويشير الشاعر رشيد جمال في هذا المقطع من مجموعة «موج شاحب»:
خلفَ تلك التلال
طفولةٌ تئنُّ
على طريق عودتها
كلّما لمحَتْ نارَ «نوروزَ» تشعُّ
بخيوط الأماني. (الصفحة: 51).
الإسقاط الرمزي لنوروز والوطن، ثم يغوص في ذاته (الأنا)، ذاته التي تنطق بأبجدية وطن منسٍ على تخوم الربّ، ليترقع ثوب الوطن بترابه، وتفتح الأبواب على مصراعيها ليلتقي هو والأرض وجهاً لوجه، وينسى نفسه لحظات كحقيبة على رصيف محطة ما، ثم يحمل ذاته في تلك الحقيبة ويحضنها كشيء ثمين لكي يفرّ من الموت المبرّر باسم الحياة.
تطبيق آخر من «رسائل منسيّة…»، من الصفحتين (57 – 58) قصيدة «الغرفة» كاملة، لأجري هذه المقارنة، وأرتكب النقد بحق الغرفة، وكم من الصور الشعرية التي أخذت مكانها في أركانها:
المسافاتُ المزدحمةُ على طريق الموتِ
ترتكِبُ الحماقاتِ بوجه الناي
والغرفةُ المقابلةُ للطريق
في قلق تفتحُ نوافذَها مرّة
وتغلقُ البابَ مرّات ومرّات…
الفناجينُ المرميةُ على الرصيف
تراقبُ خطواتِها
والمشهدُ ما زالَ يخفي ذاتَه
بينَ بقايا الموتِ،
ووجهُه الذي لا يعرفُ ذاتَه
يهربُ نحو اللاشيء
المكدّس في ذاكرة الطريقِ
الذي يحترقُ
في الغرفة المجاورة
للحياة.
أولا سآتي على ذكر القصيدة, إنها مبنية على النقيضين: الحياة والموت، لكن معالجة الموضوع الذي اختاره الشاعر كان أقرب إلى الوصف والسرد من اللغة الشعرية, حتماً, بالنسبة لهذا الموضوع ما من داعٍ لجعل ما تكتب على العروض والقافية, فالحياة والموت متساويان, للحياة والموت وزنان متساويان على نقيض الإيقاع، كما تدل العبارات الاختزالية لتكوين شعر حرّ «المكدّس في ذاكرة الطريق» صورة ضبابية غير واضحة المعالم، في كل هذه القصيدة لم تستوقفنا أية صورة شعرية لتشعرنا بالدهشة والصدمة، لكن مقارنة بالمجموعة الشعرية الثانية هناك تطور ملحوظ، من حيث الصورة والمكون الصوتي، في المتن زخم وتراكم داخلي وخارجي.
من «موج شاحب» نأخذ نصاً كاملاً، تحت عنوان «محاولات»، كما أخذنا نص «الغرفة» من مجموعة «رسائل…»:
كلّما حاولْتُ الكتابةَ
يسقطُ بقربي
برميلٌ من الموت
فأتوقّفُ للحظة؛
لأستأنفَ ترتيبَ طقوس جنازتي،
وكتابةَ قصيدةٍ
تليقُ بقبري. (الصفحة: 67).
هي محاولة لبنية لغوية تحال الى أكثر من تأويل عن موسيقى الشعر والكم الصوري والإيحائي النوعي والتعبيري, عبّر عن نسق حركة الكتابة وإظهار الجانب التعبيري، ببحثه عن المعنى الشعري البسيط وإبراز الدلالات بكثافة وعمق للبحث عن الهوية والانتماء.
في قصيدة «موج شاحب»، التي عنون مجموعته الرابعة بها، نأخذ المقطع الأخير منها:
هم العبثيةُ
لونُ الانتحارِ…،
وشيءٌ يشبهُ الحبَّ
أو
شيءٌ قريبٌ من الحياة.
هم مجرّدُ أغنيةٍ
لطفل يرسمُ
على وجه العابرين إلى منفاهم
أملَ عودة.
هم البحرُ بكلّ تناقضاتِه،
وضحاياه…
هم كلُّ المشرّدين،
والمنفيين،
والموتى العائدين للحياة
من جديد…
هم نحن
بقايا جرحٍ
على موج شاحب.
خمس مرات يكرّر جمال كلمة (هم) في المتن الذي لا يحتمل هذا التكرار، وإن استخدم الكلمة في جمل مختلفة إلا أنها – الكلمة – أثقلت كاهل النص القصير، وكان بإمكان الشاعر أن يلتجئ إلى مرادفات وكلمات بديلة.
لنعد الآن إلى هذه التجربة الشعرية الخصبة، حتى مع مواقع الخلل والضعف في بعض النصوص، إلا أنها سلسة وتنساب كجدول ماء لجريان خصب، يسير بنا الشاعر «رشيد جمال» في درب تظلله الكلمات، وتارة للدمع حكاياته، وللسهر ماضيه. ما كتبه الشاعر ليس شعراً منبرياً، إنما هو شعر يقرأ بهدوء وتمهل، ووطن اغتصبت أحلامه في وضح النهار, فلقصائده حدود افتراضية تلجم الواقع المفرط، وهو مجال خصب للتجربة الشعرية الحديثة.