الأسد الذي جن جنونه

إبراهيم محمود
 رغب أسد لا على التعيين، إذ من الصعب إسناد صفات مميّزة لأسد دون آخر، كون الأسد هو الأسد، والفارق بين أسد وآخر، لا يمكن له أن يكون نوعياً. ولهذا قلت ” رغب أسد ما “، في أن يروّح عن نفسه، وقد أمضى الكثير من الوقت في برّيته. باختصار، لقد أراد أن ينزل إلى المدينة، يدفعه فضول لا يخفي غرابته، غرابة مدينتنا طبعاً، وهو أن يقيم فيها، كما لو أنه أحد أهليها، تاركاً الغابة خلفه. ولا بد من القول أن هذا الفضول المسيطَر عليه، كان حصيلة استشرافه للمدينة من عل، وتصورَ ما سيكون عليه مكانةً، أي كيف سيحتفى به، حين يحل فيها، وكيف ستجري معاملته دون البقية، بوصفه أسداً طبعاً، ولن يدّخر جهداً في أن يكون كأي منها، جهة القيام بواجباته، قبل أن يسمّي حقوقه، بما أنه من تلقاء ذاته أحب الإقامة فيها.
كان دخوله المدينةَ لافتاً، من قبل أهليها، وهم ينظرون إليه من على جانبي الطريق، من لحظة الدخول حتى محل إقامته التي حُدّدت له، من قبل مسئول الإقامات فيها .
جاء إليه جاره الأول، وهو يسلّم عليه، ويرحّب به، وعزمه إلى بيته في اليوم التالي.
كانت المضافة صغيرة وقد احتشدت بالوجوه، وأعطي له المكان المحفوظ، لكنه بدا محرجاً، لأنه كان عليه أن يسنِد كامل ج سمه على مؤخرته، وليس أن يريح جسمه متربعاً.
رحّب به من قبل صاحب البيت، وقال له موضحاً:
لا بد أن ضيفنا العزيز مستغرباً مما يراه، حيث كل منا يقتعد مؤخرته. إنها عادتنا في الجلوس، لكي نضبط أنفسنا، ونمارس رياضة روحية، وهذه القاعدة نطبّقها على أي كان.
وجد الأسد صعوبة في الجلوس، حيث مؤخرته الضخمة لم تمنحه الراحة المطلوبة، ولم يشأ الاعتراض على قاعدة الجلوس هذه، فحشر مؤخرته في المكان المخصص له، وكان ضيقاً، وكان عليه أن يلتزم بآداب الجلوس والضيافة، أي أن يظهر ابتسامة وألا يتململ بسبب وضعه.
كان جائعاً، وينتظر الطعام الذي توقعه، وهو لحم، كما يُعرَف به.
امتلأت المضافة برائحة حادة، تنبّه لها الأسد، وأقلقته، فهو لم يعتدها، واستغرب مما يجري.
تلك كانت رائحة البصل. البصل وليس سواه، وقد وضِع في أطباق ضخمة، بحيث يكون لكل منهم طبقه، ولم يكن طبق الأسد يختلف عن بقية الأطباق.
حار الأسد في أمره، واضطرب، ولم يدر ما سيفعله، فوجّه الجار المضيف إليه كلامه:
أهلاً بمن يريد أن يكون منا. أيها الأسد، ربما تستغرب من وجود طعام كهذا. لا تستغرب. البصل طعامنا المفضل، ونحن نقدّمه في اليوم الأول لأول ضيف يأتي إلينا، أو يحل بيننا، والأمر الآخر، هو أننا نباتيون. إننا لا نأكل اللحم، وهو طعامك المفضل، وبهذا نحافظ على صحتنا.
لم يكن في مقدور الأسد الاعتراض، وهو يرى الجميع مقبلين على تناول البصل، وصوت قرض البصل يملأ جو المضافة، وحاول التهام أول بصلة، وهو ضاغط على نفسه، ويا لها من محاولة صعبة، حيث لم يكن قادراً على قرضه أو مضغه، وقد ملأ البصل الفراغات بين أنيابه .
بصعوبة، تناول بصلتين، واكتفى بهما، وهو يشكر صاحب البيت على كرم ضيافته، مبرّراً أنه مقتصد في تناول الطعام. بصعوبة بلغ بيته، ولم يدر ما سيفعل، ورائحة البصل تؤلمه .
كان عليه في اليوم التالي أن يحضر عزيمة جار آخر. عزيمته كانت أخف وطأة، حيث لم تكن بصلاً هذه المرة، إنما فواكه، وهذا ما أثاره، ولكن كيف له أن يتناول الفواكه، ولم يعتدها.
كان تناول قطعة من التفاح، وأخرى من الإجاص، أسهل من تناول البصل، لكنه في داخله كان يتألم، فمعدته لم تستقبل يوماً طعاماً كهذا.
تكررت الحالة في اليوم الثالث، وقد ازداد جوعاً، ليجد العزيمة مكونة هذه المرة من البطيخ، وفي قطع ضخمة، وموضوع في أطباق كبيرة .
يا لغرابة هذه المدينة. قالها ومن ثم رددها في نفسها. أسد وبطيخ ؟ لكنه لم يشأ الاعتراض، كما أنه لم يكن في مقدوره عدم تناول البطيخ المقدم له.
فكّر الأسد بينه وبين نفسه، وهو في بيته المخصص له، وجن جنونه، وقدّر أنه بالطريقة هذه ميت لا محالة، إذا بقي يوماً آخر أو يومين، ولا بد أن الوضع سيستمر هكذا، وكان يشم رائحة اللحم من على بعد، وبقوة شمه قدّر أن هناك لحماً في المدينة، ولم يستطع استيعاب عدم تقديمه له .
بصعوبة بالغة تمكن من الخروج من المدينة، وهو يتضور جوعاً، وعيناه على عظمة مرمية، أو حتى جيفة، حتى يقوى قليلاً.
أبصره نمر من على مبعدة. كان يراقبه، وهو يخرج من المدينة. قدّم له فخذ غزال شهي الرائحة، وقال له:
-أردت أن تقيم في هذه المدينة، أليس كذلك؟ 
بصوت واهن، رد الأسد:
-نعم، وها أنت ترى حالي، أيها النمر الكريم !
علّق النمر:
-لقد سبقتك أنا أيضاً، هكذا تعاملوا. لا داعي لأن تعلِمني بما أطعموك: بصلاً، وفواكه وبطيخاً، أليس كذلك؟إنهم هكذا، ولو استمريتَ يومين آخرين، لانتهيتَ، كما تصرفت أنا. إنها مدينة لا تشبه أي مدينة أخرى في الجوار، يستخفون بالضيف، ويفرضون عليه قواعدهم، ولهذا لا يشبهون أحداً، يتناولون اللحم فيما بينهم، ويطعمون ضيوفهم ما لا يمكنهم تناوله .
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…