ماريا عباس
تسكننا الأماكن وترافقنا الذكريات مع ساكنيها، وترحل معنا أينما ذهبنا. الأماكن التي شكلت بدواخلنا صروحاً تأبى الإنهيار، زرعت في أفكارنا بذوراً تنمو وتبحث عن حيزٍ جديد، عن التغيير الذي نرنو، عن طرق تمكننا من المحافظة على ذكرياتنا بأجمل حلة، ولعاداتنا وتقاليدنا المحببة لنفوسنا.
ما أعتقدت يوماً بأن الأشياء المادية كفيلة بشدّ وثاق يربطنا بالحياة، والأماكن، أوالشخوص، وقد يكون جوهر التعلق بكلها، هو ذاك البناء العفوي المتناسق بوسيلة ما، اذاك الذي يبنى يوماً بعد آخر، دون أن نبذل مجهوداً في ذلك. حين نرى أنفسنا تحت ظلال حبنا للأشياء تلك، لا نحتاج لأي مبررات، ونكتفي بأنه موجود، ونحن سعداء به، هي لذةٌ طبيعية كالماء والهواء الذي يحيط بنا فيحيينا. حيث شاء القدر أن ننتمي لجغرافية ما، لمسقط رأسنا “الوطن”.
وها هو عيد آخر، في هذه البلاد التي أحببناها، بلاد الاغتراب التي لا تأبى إلا أن تذكرنا بأننا غرباء. يطل علينا العيد شحيح البهجة، مغدقاً علينا بذكرياته المستيقظة، بارداً كثلوج الجبال هنا.
وتقف سيارتنا عاجزةٌ تماماً من الانطلاق في الموعد المعتاد، إلى حيث العيد يكون في كامل حلته، هناك في تلك البقعة الجغرافية التي كانت تحتوينا يوماً بين ساكنيها، جغرافية انتهكتها الحرب “سوريا”.
فما بال هذا القلب يأبى فتح بابه لبهجة العيد، ألا يملك القلب عيناً ليرى ويعشق جمال هذه البلاد بأشجارها الخضراء الوريفة، وطبيعتها الخلابة، جبالها وسهولها وأنهارها، وشوارعها الغارقة في الترتيب والأناقة، دور السينما والمسارح، دور الموسيقا والأوبرا، مدن كاملة لألعاب الأطفال، المحلات والمتاجر، تزدان بأصناف فاخرة من الحلوى والشوكولاتة التي نحبها، واللحوم الوفيرة على صنوفها، طيوراً، أسماكاً، حيوانات أخرى.
الملابس الجميلة بأجود الماركات الأوربية والعالمية، الحلويات والمأكولات الشرقية والغربية وهي متوفرة وفي متناول الجميع الشراء، دون خوف من أسعار قد ترتفع بحلول هذا العيد، أوتحسر لضيق الحالة المادية.
عالم مشرع الأبواب، مدن غارقة في الرفاهية، لا ينتاب أحد هنا شعور اسمه القلق من انقطاع الكهرباء والماء، أو غلاء الأسعار، أو تفجير قد يودي بحياة الناس في كل لحظة.
لكن الذاكرة عتيدة تأبى الانفكاك من عقدة الذكريات، تعلقنا بالأماكن هناك، بالأصدقاء المشتتين، بمن افتقدناهم، بحالة البلد التي تسوء يوماً بعد آخر، طرقاتنا التي تفوح منها رائحة البكاء والوداع، فراغ العناق يكاد يحاصرنا، وزاد منه اجتياح كورونا والحجر الصحي، صور ومشاهد وأصوات لا تغادرنا، إنها صور تتراقص في المخيلة.
في كل مرة نتذكر العيد هناك حين، كنا ننطلق بسيارتنا الرينو، التي ضاقت بعد أن كبر الأطفال، لنبدأ مشوار العيد من مدينة القامشلي، متجهين صوب الشرق تماماً، حيث الشمس أكثر صفرةً، والغبار أكثر كثافة حين تحتك إطارات السيارة بالأرض الترابية وتحدث زوبعة هائلة!
يضحك لها الأطفال بصخب، فالصيف هناك حار وجافٌ جداً، وفي الشتاء تكون الطريقُ غارقةً في الوحل جرّاء الأمطار، وحده الربيعُ كان سيد الفصول الجميلة في تلك القرى والقيافي البعيدة. لكن لم يكن لأي فصل، أو لأي حدث سطوة قد تمنعنا من الاحتفاء بالأعياد في القرى أو المدن، حتى بعد أن أصبح الطريق موسوماً بالحواجز العسكرية، على صنوف مسمياتها، إن كان الطريق الدولي، أو الطريق العام، فنحن متجهين إلى القرية التي فيها منزل العائلة، وكان هذا بمثابة جواز سفر للعبور.
ولم نكن نهتم يوماً لوعورة الطريق، ولا لبعد المسافات، ولا لراوائح الغاز المنبعثة من آبار النفط المترامية على طول الطريق المارة، حيث تقع حقول النفط في منطقة الرميلان المعروفة بمنبع سوريا للنفط والغاز.
وعلى امتداد المسافة لأكثر من مئة كيلو متر باتجاه الحدود العراقية، حيث سهول القمح والشعير على امتداد البصر، قرى مترامية بعشوائية مفرطة، حيث وجهتنا صوب قرية qulduman قريتنا التي يقطنها الكورد، أو كما صار اسمها “النجف” ضحية التعريب في عهد نظام البعث. حين يسألنا الناس عن اسمها يعتقدون إنها مدينة عراقية،( لوجود اسم مماثل لمدينة النجف في العراق) في تلك القرية حيث يعيش الجدّ ابراهيم الميراني الغارق في كورديته”الكوجرية” الأصيلة، مع زوجته الثالثة وهي الجدة ذات الأصول العربية قلباً وقالباً إنها الجّدة “الشيخة عنود”.
يحمل الأطفال أكياس الملابس الجديدة بحيطةٍ وحذر حتى لا تنتزع، أكياس الفاكهة والخضار، الحلوى والهدايا، الخبز، بعض الطلبات لهذا وذاك. ومن المُحال أن ننسى أكثر الأشياء أهميةً، كيف ننسى وهما أكثر ما يدخلان البهجة لقلوب الجدين” القهوة العربية المغمورة بالهيل المعبق، التي نشتريها من سوق عذرا وهو اسم لرجل يهودي عرف السوق قديما باسمه في قامشلو، والسجائر المستوردة ” إنهما على رأس القائمة.
وما أن ندخل مشارف القرية، حتى تظهر قافلة الأحفاد، تسبقهم لهفةٌ واشتياق لاستقبالنا، مع نساء وفتيات العائلة، حيث ينقلب المكان لساحة لعبٍ وضحك وأنس، إنها ليلة العيد.
وفي صباح العيد، تبدأ الطقوس، الاستيقاظ صباحاً على الأصوات التي تتعالى من الحناجر من مكبرات الصوت في مسجد القرية، فالجميع يكبرون باسم الله إعلاناً بحلول العيد، ثم ينهض الجميع ويتبادلون التحايا والتقبيل والمعانقة، والكل يتبارك بتقبيل أيادي الجد والجدة، أطفال، نقود العيدية، سكاكر بصنوفها المتفاوتة، والضحك يشق عباب الهموم، التدخين خلسة كان متعة بحد ذاتها.
الأطفال يحملون الأكياس الحبلى بالسكاكر، التي التقطوها من هنا وهناك وهم يجوبون المنازل، الكبار يزورون بيوت الأهل والجيران، تذبح الخراف لتُطهى وتوضع على مناسف الأرز بجانب أصناف الخضار، يا إلهي كم كان ذاك الطبق يحمل لذةً مختلفة عن المناسبات الأخرى!
كانت الطقوس تفرض أجواءً من البهجة، حتى الدجاجات والكلاب وقطط البيت لها حصة من الطعام الخاص بالعيد.
طوال سنوات الحرب ببشاعتها لم تستطع أن توقف طقوس الأعياد، فالعيد يطال حتى الشبابيك والأبواب فتغسل ابتهاجاً، والجدران تطلى بالبياض، والأحواش الكبيرة كلها تحتفي بالعيد وتخضع للتنظيف. إنه القادم السعيد إنه العيد.
وبين جدران المضافة تختلف طقوس العيد فمنذ ساعات الصباح الاولى يقوم الجد مزهواً بملابسه التقليدية بتحضير القهوة المُرة، وفق طقوسه القديمة التي ورثها عن أسلافه، وهي تعبق برائحة الهيل التي تنعش الأنوف، وعيناه تتشدقان دروب القرية في انتظار العابرين، والقادمين ليرتشفوا ما صنعت أنامله من قهوة رائعة المذاق!.
وما أن تعلو الشمس قبة السماء حتى تبدأ طلائع الوافدين المهنئين، فرادى وجماعات من أزقة القرية نحو المضافة، والبسمة تعلو الوجوه، وهم يتبادلون التحايا وتهاني العيد، ولا تمر اللحظات حتى يعلو صوت الجد ويخترق الجدران الفاصلة بين البيت والمضافة، وهو ينادي: يا أهل الدار أين سكاكركم؟ …. أين فاكهتكم إنها للغوالي، فهؤلاء هم من يزينون العيد، ويضيفونها بهجة وسرور وماهي إلا لحظات حتى يكون كل ما في المنزل، من سكاكر وحلويات وفواكه في المضافة، وفي متناول الجميع، يتلذذون بمذاقاتها المتنوعة.
وبينما الجميع مشغولون بالتهام أطايب الفاكهة المتنوعة، يهمس الجد في أذن الراعي يأمره بذبح شاةٍ، كان قد حددها في الأيام السابقة للعيد، إكراماً لهذا اليوم المجيد، ثم ينادي بصوتٍ مسموع مخاطباً الضيوف: سأكون سعيداُ ان تناولتم الغداء في مضافتي، فيبقى البعض ويغادر البعض الآخر لاكمال مراسم العيد في دروب القرية.
وبينما الراعي مشغول بذبح الشاة، يتحولق الأطفال حوله، و يتهافتون لمساعدته، وما يزيد اللوحة جمالاً؛ هو ذلك الكلب الذي استلقى بجانب الراعي، وهو يهز بذيله وكأن لسان حاله يقول للراعي :استعجل يا أبا عبدالله، فأنا والقطة الجميلة متشوقان لما ستجود بها اياديك الكريمة.
ولازلنا هنا نتأمل، ونشتهي تلك المشاعر المفقودة لنحتفي بالعيد الذي يأتي ويرحل غريباً مثلنا.