إبراهيم اليوسف
في سوناتات المكان والأنثى والوجوه الأثيرة
يقدم نصر محمد عبر باكورته الشعرية” للعشق أحلام مجنحة ” نصوصاً هي أقرب إلى السوناتات، تكاد تشكل- في التالي- نصاً واحداً، متوائماً. قصيدة واحدة، موزعة على لوحات، أو مقاطع تصل المئة، أكثرها في المرأة والحب، والوطن، والأهل، وإن كانت المرأة تكاد تحتل الشريط اللغوي للمجموعة من أوله إلى آخره. إذ إنها-أي المرأة- تشكل محور عالم هذه المجموعة- حقاً- وهي الحاضرة، بأكثر من توصيف، يناجيها، لتكون شاخصة، بجبلتها، من أحاسيس و وروح ، على مقربة من حبر الناص وأصداء صوته -أحياناً- متخيلة، بعيدة، في أحايين أخرى، إلا إنه لايفتأ يمحور حول تفاصيل رؤيته لها، نصوصه، من دون أن ينتظر صوتها- هي الأخرى- لنكون أمام قصيدة حب مائزة. قصيدة حنين. قصيدة حزن. بل تكاد تكون إحدى المجموعات الشعرية الأكثر انحيازاً إلى عالم المرأة الأثير، من خلال رؤى، ومنظور، ووجدان شاعر، منكسر، وعاشق.
يستهل نصر باكورته الشعرية بهذا الإهداء الذي نجده على علاقة وثيقة بعوالم النصوص، إذ جاء فيها:
إلى تلك الغيوم
إلى تلك الوجوه الباسمة
إلى كل من يرغب روح اللقاء
/ إليها /
…. …. …. ….
إلى من أحن
لعطفها
لدفئها
لحضنها
إلى أمي
…. …. ….
إلى المدينة
التي كنت
أسكنها وتسكنني
إلى عامودا
التي لا تشبه أية
مدينة في العالم
ببساطتها
أصررت أن أورد الإهداء، على نحو كامل لأنه يكاد يكون العتبة الثانوية- الأكثر إضاءة لعالم نصوص المجموعة. إذ نجد ثمة غيوماً، ووجوهاً باسمة، وأنثى، ومدينة، وإن كنا سنجد لاحقاً أن المرأة تحتل الشريط اللغوي في هذه المجموعة، بل وإن كانت-عامودا- مسقط الهوى، وملاعب الذكريات، تحتل دورها اللافت-أيضاً- في ثالوث عناية الناص: هي-” إليها”- الأم- عامودا، بل سنجد لاحقاً، الأب، الغائب، وذكراه المتأججة، في نص جد مؤثر، أعده من أهم ما ورد بين غلافي هذه المجموعة:
مات أبي
والموت أضخم
الحقائق
مات تماماً
كما اعتاد
أن ينام
حينما كان يرخي
رأسه الصغير
ويتوسد ذراعه
اليسرى
وبعد مرض
أليم مات
غير أني
ما وجدت في
خزانتي
من الدموع
ما يكفي لبكائه
مثلما يليق
برحيل رجل ناضج
من أجل لقمة العيش …!!
يمكن اعتبار المجموعة نوستالجية بالمقام الأول، وهي نوستالجيا إلى ذلك الثالوث والوجوه الأثيرة، وإن كان المكان هو الفضاء الذي تدور فيه الأفلاك التي تشد روح الناص، لاسيما إنه يبدو بعيداً عن مكانه، ولايفتأ يؤكد أن لامسافة تحول دون عودته، ثانية، إلى عنوانه الأثير، وأنه لابد للأسيجة، والأسلاك الشائكة، والرعب، وغيرذلك من الزوال الأكيد، لنكتشف أن عامودا هي فضاء ذلك الحلم، أو إنها رمز أمكنته. أمكنة الناص، بجلاء، متسلحاً بتفاؤل جد كبير، يعيد إلى الذاكرة ذلك التفاؤل الذي كانت تحض عليه ثقافة الثقة بالإنسان، في وجه كل أدوات السلب والاستبداد. يقول في نص بعنوان” عائدون”: ،
عائدون
عامودا
نحمل المستقبل
على أكتافنا
التي أحناها
الانتظار
عائدون
إلى الأشجار
ونقش الذكريات
عليها
عائدون
بصناديق أحلامنا
وحروفك …
التي ما برحت
مكانها
في القلوب … !!
ثمة هندسة متقنة- كما أرى- يمكن استقراؤها، خلال تصاعد الشريط اللغوي للمجموعة الذي أشرنا إليه، وهو ما يكاد يذكرنا بهيمنة السارد، وتقنياته التي يتبعها، بعيداً عن فوضى الشعر التي قلما يفلح في هندسة عنوانات النصوص، ومتونها في إطار عمل شعري، ولعل حضور مساحة ما من السرد، في النص الشعري- المكتوب في إطار التكثيف أصلاً- منح الناص ذلك الهامش لتمكنه من الإمساك بدفة- فلاشات- أو ومضات- نصوصه، بكثيرمن الترتيب في كرنفالات حبرها. يقول في نص” انتظار”:
واقف أنا على
قارعة الحياة
لا برق أضاء
لي الطريق
إلى مرافئك
البعيدة
أكاد أبصر
صوتك المغسول
بالأسرار
كم أحتاج
في حزني
إلى قمرك
وكم أحتاج
في فرحي
إلى شمسك
منذ رحيلي
أضعت شمسي
والقصيدة … !!
قارىء نصوص المجموعة لابد أنه سيلاحظ بأن الناص يرصد لحظات تجرعه الألم، على نحو مازوكي، من دون أن يتذمر مما هو عليه. مما هو فيه من مكابدة، وألم، بل إنه يكاد ينشغل بلذة الألم، مؤثراُ إياها على لذة اللقاء، بالغائب البعيد:
أنتظر الآن
على نافذتي
يقولون
إن القمر آت
سيقترب
سيطوي المسافات
بعثروا أفكاري
أحقا ..
سألمس خديه
أحقا ..
سأداعب شفتيه
أم مجرد
حكايات … !!
…. …. …
على نافذة الصباح
سأنتظرك
منذ الفرصة الأولى
لطلوع الضوء
كقصيدة عشقٍ جبلية
تحررت
من كلّ قواعد الإعراب
وأدوات الشرط
وحروف الجزم والجر والعلة
ولم يبق
غير الضمة خلف الباب
أو أي مكانٍ آخر يُساعد
في تركيب جملٍ مفيدةٍ للقلب… !!
وإذا كنت قد ركزت على مواطن الشعرية، في نصوص عديدة، ضمن هذه المجموعة، إلا إنه وكما أشرت ثمة حضور للسرد، في أكثر من مكان، ولعل هذا نتاج رؤية الشاعر الذي لم ينس أنه صاحب رؤى، بل صاحب قضية، وإن لم يسمها على نحو مباشر، إذ سرعان ما يبدي موقفه تجاه مايحدث، مموقعاً ذاته في مواجهة من يراهم لايشاطرونه رؤيته، أو في الاتجاه المقابل من دون أن يسميهم، وإن كان يشط بذلك عن الإيقاع العام، أو الفضاء العام للمجموعة:
1-
ماذا بعد
ألم يحن
يوم القيامة
ألن ترحل
زعامات الخيانة
إني أسمع
من بعيد
ضجيج المقابر
وتحرقني
دموع الثكإلى
والشيخ
في المحراب
مازال
يبكي ويكابر
والوطن
يشكو عزوة
الأحباب
والشعب
أنهكه النوم
مازال ينزف ويكابر … !!
2-
علمونا
أن الصمت مقدس
والكتابة نزيف دائم
علمونا
أن الصمت حل أوحد
حتى لو أن الحق
في سفور
أنا أعلم
أن الصمت
لا يحتاج لجسد
فدعونا أيها
الصامتون
أن ندفن أجسادنا
في التراب … !!
حقيقة، وجدتني متفاعلاً مع نصوص المجموعة التي كتبت بلغة جد بسيطة، بعيداً عن أية فانتازيات، أو إدعاءات خارج حدودها، لئلا تتسلح ب”قدرات مستعارة”، حسب صاحبها أن يقول ذاته. أن يقدمها، بكل حالاتها، ومن دون أن يصرَّ على تسمية الومضات التي يكتبها، أو تصنيفها، وهوما يسجل له، وإن كانت نصوصه تندرج في إطار أحد ضروب- قصيدة النثر- وتحديداً: قصيدة الحالة، التي تتراوح بين شفهيتها المهيمنة، ومشهديتها التي تظهر تترى، هنا وهناك، ليكون للنص إيقاعه الداخلي الذي ينفلت- أحياناً- من بين حدوده، لنكون- في التالي- أمام نص جمالي، لايعدم رؤيته، وموقفه، بل يتمكن من جذبنا، لقراءته، بما أمكن له من- كهرباء- ب”استطاعات” أو”قدرات” متباينة، تومض، وتخفت، وتغيب، لتظهر، وفق متوالية واعدة، بالكثير من الضوء، في ما إذا واصل الشاعر الاشتغال على نصوصه؟