أحمد عزيـز الحسيـن*
الشّعرُ أحاديُّ الصّوتِ، وحين يُجرّدُ الشاعرُ من نفسهِ (ذاتاً) مُتخيَّلةً فهوَ يجعلُ لغتَهُ وسيطاً بينهُ وبينَ ذاتهِ؛ وقد يخفقُ في إقامةِ مسافةٍ بينهُ وبينَ خطابِهِ، كما يقول باختين، في حين أنّ هذه المسافةَ تغدو واضحةً بينَ كاتبِ النّثرِ ونصِّهِ.
وفي الأغلب، تعبِّرُ لغةُ الشّاعرِ عمّا يُريدُ إيصالَهُ إلى المُتلقّي بذاتها ومن دون وسيطٍ؛ ولذا يبدو الشّاعرُ غارقاً في لغتِهِ بشكلٍ كليٍّ، ولا يمكنُ فصلُهُ عنها، على خلافِ النّاثرِ الذي يُقيمُ مسافةً بينهُ وبين مايكتبُ، ويجعلُ شخصيّاتِهِ تتكلّم بالنّيابةِ عنهُ، ممّا يجعلُ لغتَهُ تبتعدُ عن فمهِ، وتخرجُ من أفواهٍ أخرى، وتعبّرُ عن ذواتهمْ لا عنهُ بشكلٍ مباشرٍ؛ ولذلك فإنّ اللغةَ في الشعرِ تعبّرُ عنْ ذاتِ الشّاعرِ، أمّا في النّثرِ فتعبِّرُ عن ذواتِ الشخصياتِ، وحين تصبحُ هناكَ لغةٌ واحدةٌ في النّثرِ تتحدّث بها الشّخصيّاتُ يكونُ الكاتبُ قد صادرَ حقّها في الكلام، وحلّ محلّها، وأخرجها من مرجعها المُتَوَّهم، ونسقها المُبَنْيَن، وقوَّلَها ما يتجاوزُ قدرتَها على النُّطقِ، كما هو الحالُ في روايتي ( رامة والتّنّين) و( ترابُها زعفران) للرّوائيّ المصريّ إدوار الخرّاط.
وقد يفتكُ التّناصُّ بلغة الشّعرِ، ويجعلُ الشّاعرَ يتوهُ في اللغةِ أكثرَ من النّاثرِ؛ فيظنُّ أنّ لغتَهُ تعبّرُ عن منطقه، في حين أنّها قد تُدِيرُ ظهرها إليه، وتعبّرُ عن ذواتٍ أخرى، لأنّ ذاتَ الشّاعرِ قد
تكونُ محاصَرةً بالخطاباتِ والأقاويلِ والكلامِ، وقد تذوبُ في اللغةِ، وتمّحي في نسيجها، ولا يبقى منها ما يدلُّ على حضورِ صاحبها.
وفي ظنّي أنّ الكاتبَ الحقيقيَّ هو شخصٌ يعرفُ كيفَ يشتغلُ على اللغةِ بينما يبقى هو خارجها، لأنّه يمتلكُ موهبةَ الكلامِ غيرِ المباشرِ، كما يقول باختين.
إنّ كلّ روايةٍ هي نظامٌ حواريٌّ من تمثيلاتِ اللغاتِ والأساليبِ وأنماطِ الوعيِ المختلفةِ؛ ولهذا تعكسُ تعدُّدَ اللغاتِ والخطاباتِ والأصواتِ بوصفها صورةً لتنوُّعِ الشّرائحِ الاجتماعيّةِ الموجودةِ في المجتمعِ، في حينِ أنّ الشّعرَ يعكس موقفَ (الأنا) وصوتَها الشًاهدَ لا غير.
· ناقد سوريّ