تشكِّل «الكتابة»([1]) لدى سليم بركات ــــــ بوصفها حدثاً ـــــــــ فعلاً استراتيجياً، بمعنى أنَّ «الكتابة ــــ الحدث» لا تقع، ولا تحجز حيزاً لها في العالم فحسب، وإنما تمارس كينونتها مدفوعةً بشهوةِ تقويضٍ عارمٍ للنظام الدلالي للعلامة، بل إنَّ هذا التقويض يغدو لعبةً لذاتها إلى حدِّ أنَّ العلامة لاعمل لها سوى الرقص طريقةً لمهاجمة «المعنى» ونفضه، هذا «المعنى» الباحث عن مكانٍ يستقرُّ فيه، ليمارس لعبته المفضّلة في تنميط العلامة دلالياً بوحيٍ من الميتافيزيقيا، ولمــا لا يجدُ ــــ المعنى ــــ هذا الأمل، فلا مفرَّ أمامه سوى الإعلان عن استسلامه والانخراط في الرقص الأبدي للعلامة وممارسة النوسان تبعاً لانزلاقات الدَّال في حركته.
واستناداً إلى هذه الاستراتيجية في «الكتابة» نلاحظ أنَّ «النًّصَّ» لدى بركات يسكن فضاء الاخــ(ت)ــلاف([2])، كما يطرحه جاك دريدا، من حيث إنَّ «الكتابة» تزدوج في حركتها وفقاً لهذا المفهوم، فهي من جهةٍ مشغولةٌ بالمغايرة والتباين عن الكتابات السائدة بإثبات حرف «التاء»، أي: الاختلاف، ومن جهة أخرى تمارس تأجيل المعنى وترجئه دون أن تمنحه فسحةً للاستقرار وذلك برفع حرف «التاء»، أي: الإخلاف . هكذا تمضي الكتابة لدى الكاتب ــــ إذا ما استعرنا مفرداتٍ تفكيكيةً ــــ في طريق الاختلاف بمواجهة الكتابة المتماثلة والمتشاكلة، تبتغي التَّبَعْثُرَ والتَّشَتُّتَ([3])، غايتها محاربة الاستقرار الميتافيزيقي للمعنى عبر مزاولة التأجيل، فهي كتابة مُرْجئة، تخالف كلَّ مواعيدها مع تحقيق المعنى للدَّال اللغويِّ.
إنَّ كتابة بركات في البحث عن كينونتها تتخذ من أنين المهمَّش هدفاً؛ لتكون صراخَهُ، ألمهُ في مسارها نحو تخوم الإشراق والقلق. كتابة تستوي بنار القلق، وتتكشَّف تحت سطوة الإشراق؛ ليجد القارىء نفسه إزاء «بركانية النصِّ وأتون المعنى»، فما أنَّ يَهِمَّ القارىء بالنصِّ حتى يهمَّ النصُّ به، فيقذف حممه في جميع الاتجاهات، ليتوه القارىء في متاهات النصِّ ودهاليزه، وهو يخوض ليلَ النصِّ وعتمته إذ تنعدم الجهات، وتختفي نقاط العلام، فما أنَّ يضع إشارةً/ علامةً لتحديد خريطةٍ للفهم حتى يتفاجأ باختفائها، فالنصُّ ــــ البركان لايفتأ عن الثوران، ولاتفتأ أتونه عن قذف سيول المعنى؛ لينتقل القارىء بفعل دينامية النصِّ من تأويلٍ إلى آخر، ومن تأويلٍ إلى تأويل مضاعفٍ، فمع كل انعطافٍ للقراءة ثمَّة مضاعفة للتأويل.
II ـــ استراتيجية العَنْوَنة في سردية «الرِّيش»:
بموازاة هذه الاستراتيجية في الكتابة «نصَّاً» يؤسس سليم بركات استراتيجيةً خاصةً في الكتابة «عنونةً»، وهي استراتيجية لاتنفصل عن الأولى من حيث مقوماتها التي تقوم عليها، بل إنها تُبَئِّرُهَا أكثر، طالما أنَّ «العنوان» هو الشرفة التي يُطِلُّ منها «النصُّ» على «العالم»، والعالم(= القارىء) منها على فضاء النصِّ جغرافيةً وتضاريسَ ومتاهاتٍ، فالعنوان « مجموعة من العلامات اللسانية.. يمكنها أن تتموقع في بدايةِ نصٍّ ما، وذلك لتعيينه(إجناسياً)، وتبيان محتواه بشكلٍ عامٍ، ولإغواء الجمهور المقصود»([4])، وبناءً على ذلك يؤدي العنوان:«مجموعة وظائف وأدوار تخصُّ أنطولوجية النصِّ، ومحتواه، وتداوليته في إطارٍ سوسيو ــــ ثقافي خاصاً بالمكتوب»([5])، هذه الموقعية للعنوان هي ما فَطِنَ لها سليم بركات على نحو خاصٍ عبر ممارسة استراتيجية بعيدة المدى لحدث العنونة، العنونة كحدوث من خلال إظهارها لــ«العنوان» الذي يَحْدُثُ عبر الكتابة، فيُحْضِرُ بحضورِهِ «النصَّ» إلى العالم وينشره فيه، فالعنونة، بوساطة العنوان، تدع النصَّ يصل إلى العالم ويظهر، إذا تعاملنا مع العنونة بوصفها كيفيةً أنطولوجيةً . إنها تجعل نصاً ما ينفتح وينكشف:« إنها تتركه يتقدّم إلى الحضور، وتفسح له الطريق إلى الحضور، وبذلك تتركه يجيء بالوصول، وبالضبط يجيء إلى وصوله المكتمل»([6]). هكذا تنشا علاقةٌ مزدوجةٌ في اتجاهين بين النصِّ والعنوان إذ كلٌّ منهما دائنٌ ومدينٌ للآخر؛ فبقدر ما يحضر النصُّ عبر العنوان ويكتسب كينونته وهويته واختلافه، فإنه يغدو الحقل الذي يسمح بانكشاف العنوان وتفتُّحه، فإذا كان العنوان هو الممرُّ الذي ينكشف النصُّ فيه للعالم، فإنَّ النصَّ يحتض العنوانَ، في الوقت نفسه، ويمنحه مبرر كونه تسميةً للنصِّ ذاته.
إنَّ «العنوان» ــ في المحصلة ــ هو ذلك الممرُّ الذي يشقُّ طريقَ القارىء إلى النصّ(علامات قابلة للقراءة) من حيث هو النص(حدوث القراءة) إلى النصِّ ( إنجاز القراءة بوصفها نصاً)([7]). وإذا كانت الاستراتيجية العامة لكلِّ عنوانٍ تتجسد في البعد الوظائفي للعنوان متمثلاً بــ: التسمية والتجنيس والإغواء، فإنَّ الاستراتيجية الخاصة للعنونة لدى سليم بركات تبزغ بالانتقال من البعد الوظائفي إلى البعد النَّصيِّ، وبذلك يمكننا الحديث عن نصية textuality العنوان، أي خطاب العنوان بوصفه نصاً. لكن ماالمقصود بالنصية قبل الشروع في كشف شؤون العنوان في سردية «الريش»؟
وللوصول إلى تخومِ «الهدف» المرتقب ومواقعه: نصيّة العِنوان، سوف تتوسَّل القراءةُ «التفكيكَ» استراتيجيةً نظريةً، ذلك أَنَّها تتلاءَمُ وطبيعةَ المكتوب، حيث «العنوان» السَّليل الشَّرعي للكتابة جرّاء تحطُّم «الموقف الحواري» الذي يَسِمُ «المنطوق»، ومن هنا القول بأنّ: «العنوان ضرورةٌ كتابيةٌ، فهو بديلٌ من غياب سياقِ الموقف بين طرفي الاتّصال»([8]). وإذ العنوان يخلقُ ضرورةَ حضورِهِ كينونةً ووظيفةً، فإنَّهُ لا ينفكُّ يتمتَّعُ بنصيّةٍ، تؤهِّله ليؤدّي أدواراً خطيرةً في عملية الاتّصال بين المرسِل والمرسَل إليه، فبينما يُشفِّرُ المرسِل رسالتَهُ، يتولّى المرسِل إليه تفكيك هذه الرِّسالة المشفَّرة منطلقاً من «العنوان» بوصفه المفتاح الأول في فكِّ طلاسم الشيفرة الذي يرسلُهُ المرسِل مع الرسالة.
ولكن كيفَ يمكنُ تحديد «نصية» العنوان؟، لهذا، ما علينا إلاّ توسيع فضاء السؤال: ما النَّصية تحديداً؟ وإذ نتحدَّثُ عن «النَّصية»، لابُدَّ أنْ نستدركَ أنَّهُ ليس ثمة من «نصية» تُوْجَدُ وتحدُثُ إلا في «النَّص»، حيث الأخير هو «الفضاء» الذي تنهضُ فيه «النَّصية»، وتنتجُ الدلالة والمعنى. وهكذا تكون «النصية» مرهونةً بحضور النص، النَّص من حيث كونه بنيةً، فضاءً لألاعيب «العلامة». وإذا كان الأمر كذلك، فما النص تبعاً للتفكيك؟.
يحدِّدُ ديريدا «النَّصَّ» بالقول: «لا يمكنُ أنْ يكون ثمة نصٌّ إلاَّ إذا حَجَبَ عن القارئ الأوّل، عن النظرة الأولى، قانونَ تركيبه وقواعدَ لعبته. وعلاوةً على ذلك، يَبْقَى النَّصُّ وباستمرار، صعبَ المنال من حيث إمكانية الوصول إليه. ولكن هذا يشيرُ من جهة ثانية، إلى عدم اختفاء قانون النّص وقواعده في سرٍّ يتعذَّرُ بلوغَهُ، وإنما لا يمكن ــ لهذا القانون وهذه القواعد ــ الظهور، في الحاضر، لأيِّ شيء كان، يمكن أنْ يدّعي بأنَّهُ القدرة على الفهم [ فهم النّص] على نحو محكمٍ »([9]) . إنَّ التأمُّل في خطاب ديريدا حول النَّصِّ يكشفُ عن النَّصّ بوصفه ظاهرةً كتابيةً غير محسومة على المستوى البنيوي والدَّلالي نظرياً وعملياً، فلا يمكنُ بحالٍ القطعُ بدلالةٍ نهائيةٍ لنَّصٍّ ما، لكونه لا يكشفُ أسراره: قانوناً وقواعدَ، وإن لم يكن ذلك مستحيلاً أو يتعذر الوصول إليه، وإنما الأمر يعني أن النصَّ لا يمكنُ الحسمُ فيه بتحديد مقاصده وأهدافه وبنياته ودلالاته تحديداً قاطعاً. هذا الامتناع عن الحسم، هذا الاحتجابُ، هذا الطمسُ Disfiguration الذي يمارسُهُ النصُّ هو الممثلُ الشرعيُّ للنصية Textuality، وبذلك تكونُ «النصيةُ هي الشرطُ الذي يكون النصُّ، طبقاً لها، نَصّاً» ([10])، النصية هي قانونُ النص، لأنها تَحْدُثُ فيه، وبها يراوغ النصُّ متلقيه ويفلتُ من الحسم والقطع والحصار. وبذلك تكون النصية هي «إمكانية عدم الحسم»([11]) التي يتوفّر عليها النشاط النّصي في حضوره. ولما كان النصُّ هو موطنُ النصية وانكشاف تجلّياتها فــ«النصُّ هو ما لا يمكنُ حسمه Indecidable. و«عدم إمكانية الحسم» في النَّص تُبرَّزُ بموجب نصيته، و«عدم إمكانية الحسم» هذه هي سمةٌ إجرائية لهذه النصية. وفي الحقيقة، فإنَّ نصية النصِّ هي «عدم إمكانية الحسم» فيه»([12]).
وبناءً على ذلك، يسكنُ «النصُّ» فضاء «التردد» و «التأجيل» حيث تمنعُ النَّصية النصَّ من الانزياح إلى حدٍّ دون آخر: الوضوح دون الغموض، الداخل دون الخارج، المرئي دون اللامرئي، الحضور دون الغياب، الوضوح دون الغموض، فالنَّصية تمنعُ النَّص من الانحياز، حيث « يتموقع عند السطح البيني»([13]) للثنائيات المتعارضة حول المعنى، يكتب سلفرمان:« فالنَّصُّ هو ما لا يمكنُ حسمُهُ. ولا يقعُ النصُّ على أيِّ جانبٍ من جوانب هذه الثنائيات، ولا يمكنُ حسمُ وقوعه على أيِّ جانب. فعدم إمكانية النَّص على الحسْمِ هي نصيةُ النص»([14]) وهكذا تتمثَّلُ «النَّصية» في كونها تنقذُ النَّص من التراتب الذي يفتكُ بالنشاط الذَّهني للكائن، لينتقلُ «النَّصُّ» بموجبها من محور التضاد: داخل ≠ خارج، …..إلخ، إلى محور تحت التضاد: لا داخل ــ لا خارج، أو داخل وخارج معاً، حيث لا يمكن اختزال النص.
إنَّ «إمكانية عدم الحسم» النصية تتجسد في الكتابة الأدبية بامتياز، ولهذا فــ «النصية» بالتوصيف الآنف الذكر، حاضرة أو تتسم بحضورها العنيف في الحقل الموسوم بالأدبي. غير أنها تأخذ بالحسبان مساحة الاختلاف بين حقلٍ وآخر، فالنصُّ الأدبي يغاير اللاأدبي، وتحت يافطة الأدبي ينتفي التَّشاكل وتندرج الاختلافات: النص الشعري، الروائي، القصصي،…إلخ.
من هنا يمكن الحديث عن نصيةٍ لنصٍ شعريٍ، وأخرى لنص روائي،…، ولذلك تحدّد «النصية» شعرية الشعر، وروائية الرواية، وقصصية القصة، ودرامية الدراما، ونقدية النقد. أمَّا الاختلافات الكائنة بين نصيةٍ وأخرى، وبالتالي بين نصٍ وآخر، فتتوقف على أبعادٍ متعددةٍ، أبرزها تلك التجعدات والطيَّات والفجوات التي تتخلل تضاريس لغة النص، فتجعل عملية الاتصال في مهبِّ الفشل، حيث يتعرض فضاء الاتصال إلى انكساراتٍ وتصدعاتٍ مستمرة، لاتلتئم جراءها عملية الاتصال، بل تظلُّ تعاني من العطالة بفعل نصيّة النَّصِّ حيث تتوفّر قوى تمنع الحسم دلالياً. وعدم الحسم «هذا» يُنْتَجُ في الواقع بفعل آليات التناص و الاخــ(ت)ــلاف والتَّشَتُّت(الانتشار)، التي تتكىء إليها نصيةُ نصٍّ «ما» حتَّى لايُحْسَمُ دلالياً.
وهذه الإمكانية ــــ عدم الحسم ــــــ تجد ذروتها، وعلى نحوٍ عنيفٍ في خطاب العناوين المعنون لسرديات سليم بركات: فقهاء الظلام، أرواح هندسية، معسكرات الأبد، الفلكيون في ثلثاء الموت: (ج1) عبور البشروش، (ج2) الكون، (ج3) كبد ميلاؤس، أنقاض الأزل الثاني، الأختام والسديم، دلشاد:فراسخ الخلود المهجورة….إلخ. وعدم إمكانية الحسم ليس بأمر غريبٍ في هذه العناوين ما دامت استراتيجية الكتابة لدى الروائي قائمة في الأساس على انعدام الحسم دلالياً. وإذا كان الأمر كذلك، فيمكننا الولوج إلى فضاء سردية «الريش» لمطاردة العنوان بوصفه نصاً مستقلاً أولاً، ونصاً متجاوراً عبر علاقته بالنَّصِّ الأساس ثانياً، ونصاً متناصاً من خلال اشتغاله على التناص ثالثاً.
وقبل البدء بالقراءة تستدعي الضرورة الحديث عن رواية «الريش»، حيث يتخذ «سليم بركات» من الكينونة الكردية ــــ بما تنطوي عليه من زمكانٍ وأحداثٍ وتواريخ وعوالم مشتركة ــ هيولى أوليّة لروايته، لتكون «الريش» سرديةً تعكس مصائر شعبٍ ينوس مثل «الريش» في مهبِّ القوى والإرادات المختلفة؛ ولذلك كانت «الريش» هي السردية التي تمثِّل ذلك الأثر الفني الذي يتفتَّحُ فيه عالمٌ يخصُّ كينونة الكرد، عالمٌ يحضرُ إلى القارىء بعبثه ومآسيه وأحلامه، فالأثر الفني هو الذي يُتِيحُ لهذا «العالم» أن يبزغ بوجوده الأصيل، ويفتح عالماً أصيلاً لشعب ما؛لكونه يتخذ شكلاً، لأنَّ هذا الانفتاح « هو في الوقت نفسه دخوله إلى شكلٍ ثابتٍ ، عندما يقوم الشكل يكون قد وجد كونه في الأثر»([15])، بيد أنَّ هذه الهيولى لاتتموقع في النَّصِّ بشكلها الأفقي؛ إذ إنها تخضع لقراءةٍ عموديةٍ عبر تفعيل العجائبيِّ والتناصيِّ والشعريِّ؛ ليجدَ القارىء ذاته إزاء سردية بمكوِّنات فانطاستيكية بامتياز، فكلُّ مكوّن من مكوناتها يمارس كينونته في التعجيب والتغريب ونزعة الألفة defamiliarization ومن هنا، الانتماء المحض لهذه السردية إلى الصيغة الفنتاستيكية من حيث هي:« طريقة في التعبير تعتمد إبراز التناقض والمفارقة، استناداً إلى مكونات اللاوعي ومخزونات «الهو» وكل الظلال الخبيئة بمكبوتاتها وما علق بها من غرابة مقلقة، فتكون الكتابة الفانتاستيكية وسيلة لحكي هذه الأسرار المنبثقة من فوق الطبيعي والتي تقلق وتولِّد إحساساً مخالفاً لما يمكن أن يولده أيُّ نصٍّ واقعي أو غيره »([16])، واللجوء إلى الفنتاستيك في سردية «الريش» يعكس الحجم المريع للعبث الذي مرَّت به هذه «الكينونة» وتمرُّ به من تشظٍ لها بفعل الإرادات الداخلية والدولية والأقليمية وإكراهاتها؛ لترى هذه الكينونة ذاتها إزاء المستحيل في مغامرة البحث ــــ بل الحلم ــــ عن زمكانٍ يستجمع مصائرها المتناثرة هنا وهناك، ولذلك يغدو العجيب ممكناً وواقعاً، وقادراً إلى حدٍّ كبيرٍ على تفسير شؤون هذه العبثية التي تندلق في فضائها نكبات هذه «الكينونة»؛ ولذلك انجرَّ وينجرُّ سليم بركات إلى بنينة و/ أو قراءة الكينونة الكردية فانتاستيكياً عبر آليتي « الحلم» و «التحول» اللتين تخضع لهما شخصيتا الرواية المركزيتان: مَمْ ودينو آزاد الشقيقان التوأم، المنحدران من صلب حمدي آزاد الرجل الباحث عن زمكان الكرد المستحيل.
وتتمفصل الرواية إلى جزئين حيث الأول منهما يؤسس فصوله تحت سطوتي «الحلم» و«التحوِّل»، فــــ «مَمْ آزاد» يجد ذاته على نحو مفاجىء في «قبرص» تمهيداً لملاقاة «الرجل الكبير»، الشخصية التي لن تظهر في الرواية أبداً، وهو في الوقت نفسه أمل حمدي آزادي ــــ كما يتصوَّر ابنه «َممْ» ــــ في تحقيق حلمه المستحيل في تفتُّحِ فضاء الكرد وتحررهِ من إرادة الآخر؛ ليستجمع مصائرهم أسوة بكيانات الأمم كافةً. وفي هذا الجزء كذلك يبدأ العجيب بممارسة نفوذه عبر تحوِّل «مم آزاد» إلى ابن آوى، ليعبر المنطقة الممتدة بين «القامشلي» والحدود التركية، حيث سيلقي حتفه في هذا العبور، كما سيكتشف القارىء ذلك في الجزء الثاني الذي يخصُّ شخصية «دِيْنو» توأم «مم»، فيتقمص دوره؛ ليحقق حلم أبيه ــــ حمدي آزاد ــــ المستحيل، هكذا يعبر بدوره حقول الشمال متوجهاً إلى المكان ــــــ الحلم. هذه هي رواية «الريش» إذ « يتداخل الحلم بالواقع. يتداخلان ليخلقا فضاءً كتابياً موشوماً بالجنون» ([17])، فعبر هذا التداخل بين الحلم( أحلام الكرد المهدورة) والواقع( وقائع حياتهم الفادحة) تفتحُ كتابة بركات عالماً يتأسس على تلاحم السردي بالشعري،مفخخاً بالعجيب والغريب والمكبوت والمسكوت عنه، فيختلط الأمر على القارىء إن كان إزاء رواية ــــ قصيدة أم قصيدة ــــــ رواية أم كتابة لاتعترف إلا بالجنون والتحدي قانوناً للكتابة.بهذا التوطئة لرواية «الريش» يمكننا المضيّ قدماً نحو تفكيك شفرة العنوان تمهيداً لتفسيرها وتأويلها.
1ــــ العنوان نصاً:
إنَّ انتقال العنوان من وظيفة التسمية بتحديد أجناسية (هوية) النَّصِّ إلى موقع النَّصيَّة textuality يجعله بالضرورة نصاً، وإذ يغدو العنوان كذلك؛ فإنَّه يصبح برسم المعتكف على أسراره وقوانينه وقواعد لعبته مع القراءة، ولهذا ما على القراءة عندئذٍ إلا العمل على تفكيك هذه الأسرار وإضاءة العتمة التي تغمر علامات «العنوان»، ومحاولة استقدامه إلى فضاء النور، ليلمع في حضن القراءة. وإذا كان الأمر كذلك، فلنثْبتَ دوال العنوان التي يرتهن بها النَّصُّ الراهن كينونةً:
البراهين التي نسيها «مَمْ آزاد» في نزهته المضحكة إلى هناك أو: الريش
بدايةً، تنبغي الإشارة إلى ثمَّة مفارقة يُحْدِثُها هذا العنوان في وجه القراءة متمثلةً بطول العنوان من جهةٍ، وأخرى بتبادل المواقع الفضائية بين العنوان الرئيسي(الريش) والعنوان الفرعي (البراهين التي نسيها «مَمْ آزاد» في نزهته المضحكة إلى هناك)، فالروائي،هنا، يروم تقويض التلقي السائد للعنوان من حيث اعتيادُهُ على تموقع العنوان الرئيسي، ليليه العنوان الفرعي ثانياً.
من هنا تأتي رواية الريش: «وتقلب المعادلة بحيث إنَّ عنوانها هو (البراهين التي نسيها «مَمْ آزاد» في نزهته المضحكة إلى هناك أو الريش). فالمفروض أن تكون كلمة الريش هي البداية لأنها عنوان رئيسي، فيما أن العنوان الفرعي الذي هو «البراهين …» تقدَّم جملة العنوان، وهو ما يطرح أسئلة كثيرة في هذا المضمار عن علاقة هذا العنوان بالنَّصّ» ([18]). لكنَّ الباحث المغربي لايسوِّغ هذا التقديم للعنوان الفرعي على العنوان الرئيسي إلا بكلامٍ عامٍ.
ومن جهة القراءة الراهنة؛ فإنها ترى أن التبادل المكاني بين العنوانين، يتعلق بحصيلة النزهة المضحكة التي خرج بها الفاعل السردي(مم آزاد) وهي اللاشىء(الريش)، فتقدَّم العنوان الفرعي: «البراهين التي نسيها «مَمْ آزاد» في نزهته المضحكة إلى هناك»، لكونه يصوِّر أحداث هذه الرحلة من جهة. ومن جهة أخرى ربما يأتي هذا «التقديم» ليتوازى مع الصيغة الأجناسية التي يتجلَّى بها السَّردُ، أقصد الكتابة الفانتاستيكية نوعاً، القائمة على المفارقة والتغريب، حيث تتجسَّد المفارقة في قلب المعادلة التراتبية لعناصر العنوان ويتوطَّن التغريب فيه، فما دام النَّصُّ ــــ المتن يحفر وجوده في الفانتاستيك من وقائع حلمية وتحولات تصيب كائنات النصِّ وعوامله؛ فالأجدى بعنوانِ سرديّةٍ فانتاستيكية ــــ مثل الرِّيش ــــ أنّ يتفجَّر بهسيس القلق والغرابة طالما أنَّ العنوانَ يُعَدُّ هويةً للنصِّ ونواة دلالية مكثَّفة له. ومن جهةٍ ثالثة فإنَّ التقويض الذي يمارسه سليم بركات إزاء التلقي السائد عبر بنْيَنَةِ عناوين صادمة، مثيرة، يتساوق مع كتابة بركات ذاتها التي تتخذ الطابع التفكيكي عبر تحرير الدَّال اللغوي من إرثه الدلالي.
فهي كتابة تتوخَّى دفع العلامات اللغوية إلى مناطق غير مرتادة مسبقاً؛ لتفاجىء المتلقي المعتاد على المنطق السليم في تلقي النصوص. وهكذا فالنصُّ الراهن ــــ الريش ــــ بدءاً من عنوانه يطلق رصاصة الرحمة على القراءة السائدة في فهم النصِّ وتأويله:« وتأتي أهمية أعماله(بركات) من كونها قد عملت على ما يمكن تسميته « الرواية العربية بامتياز»، متجاوزة الأنماط الكتابية المستهلكة التي تحمل لقارئها الضجر. وقارىء أعمال بركات يلاحظ ما تمتاز به كتابته وبخاصة عمله الأخير الريش: كتابة عاشقة، الإشراق فيها سلطان. كتابة موت وهذيان. فضاؤها المرآة. ترى مالايرى»([19])،وبناءً على ذلك؛ فهذا العنوان لايخرج عن استراتيجية الروائيِّ في نسف الحس السليم إزاء الكتابة الجديدة. ويضاف إلى ذلك أنَّ منْحَ الهامش(العنوان الفرعي) موقع الصدارة، أو بالأحرى دفعه إلى فضاء النور يدخل ضمن احتضان نص بركات و/ أو تفتُّحه لــ «كينونة مهمشة»، إذ يعمل بركات نصياً على إحداث شرخٍ، شقٍّ يتكشَّف فيها عالم هذه الكينونة، لتصرخ بكلِّ ما تمتلكه من شكيمةٍ إزاء الإرادات التي تتناسى وجودها في العالم.
وبذلك يمكننا المضيّ قدماً نحو بنية العنوان بتجلياتها السيميائية تركيباً ودلالةً ورمزيةً، تمهيداً لقذف العنوان في فضاء التفكيك. ويقوم العنوان نحوياً على البنى الصغرى الآتية:
1ــــ المركب الاسمي الإسنادي: البراهين … كائنة (جملة بسيطة).
2ــــ المركب الموصولي: التي نسيها مَمْ آزاد (ملحق ممتد بالمركب الاسمي).
3ــــ المركب الفعلي: نسيها مم آزاد (جملة ممتدة).
4 ــــ مركب الجار والمجرور: في نزهته المضحكة إلى هناك (ملحق بالجملة الممتدة).
5 ــــ المركب العطفي:أو الريش (معطوف على[1]).
ما يلفت الانتباه في هذه البنى أنها تختار الجملة المتشابكة مسكناً لدلالاتها وانفتاحها، والجملة المتشابكة هي«المكونة من مركبات إسنادية مشتملة على إسناد» ([20]). فالجملة المتشابكة التي تفسح لكائنات العنوان بالحضور، والتعالق تنفرج عن بنية معقدة تعكس إلى حدٍّ بعيدٍ البنية المعقدة للنصِّ ذاته، كما لو أنَّ الاكتفاء بعنوان مختصر مثل (البراهين أو الريش) لن يدُلَّ على حقيقة النصِّ بوصفه بنيةً تركيبيةً معقدةً؛ ولهذا يتفجَّر العنوان في جملةٍ متشابكةٍ، ويحضر، من ثَمَّ، إلى فضاء التلقي متفتِّحاً في القراءة، ليبوح لنا شيئاً عن النص ِّ ذاته، وبمعنى آخر فإنَّ العنوان الراهن في مستواه التركيبي يحاول «الالتزام بالنَّصِّ الذي يعيّنه»([21]) تركيباً ودلالةً. فما هي الدَّلالة / الدلالات التي تَحْدُثُ في العنوان بوصفه حَدَثاً تجري أحداثه على الخط الواصل بين القارئ والنَّصِّ؟
إنَّ العنوان الراهن يحوزُ على «النصية»، وبهذه النصية يحقِّقُ كونه الدلالي حيثُ الحدثُ الأساسي فيه يتمثَّلُ بالنسيان، نسيانُ البراهين «البرهان الحجة الفاصلة البيّنة (…) البرهانُ: الحجة والدليل» ([22])، فثمة فاعلٌ نصيٌّ ( مَمْ آزاد ) في حالة اتصال مع البراهين، وحالة انفصال عن الموضوع المخفي عن القارئ ( في نزهته المضحكة إلى هناك)، فالعنوان هنا يبئّر لنا فضاء الموضوع، ولكنه يدعُ الموضوعَ ذاتَهُ رهين الكتمان، ذلك أنَّ العنوان يؤدِّي هنا لعبة الوضوح والغموض، يكشف حيناً ويكتم حيناً آخر، وهذا يتساوق مع قانون النَّصِّ ذاته الذي مهما كشفَ عن أسراره وقواعد لعبته يُبقي بعضها بمنأى عن اللاخفاء، فإذا أدركنا أنَّ «البراهين» هي الحجج والدلائل التي تسلّح بها فاعل النص (مَمْ آزاد) في نزهته، فما هي طبيعة هذه النزهة ولماذا؟ هذا يومئُ من جهة أخرى إلى أنَّ ثمة موضوعاً ينبغي الاتصال به والاستحواذ عليه من قبل «مَمْ آزاد»، ومن هنا؛ فأنَّ الكشف عن طبيعة النزهة يمثِّل إنارةً عن موضوع الرحلة / النزهة التي سيقومُ «مَمْ آزاد» بها إلى «هناك»، فالطرف المكاني «هناك» يستدعي بالضرورة مقابلَهُ «هنا» وبذلك يَسْهمُ في تبئير وتوجيه الانتباه إلى المشار إليه أي المكان الذي سيمضي مَمْ آزاد من «هنا» إلى «= هناك»، وبذلك فالعنوان يتأسَّس فضائياً / مكانياً على تقاطب مكاني:« هنا ¹ هناك» أو «قريب ¹ بعيد»، غير أنَّ العنوان يتكتم على المشار إليه من خلال الظرفين المكانين، الأمر الذي من شأنه أن يُبقي موضوع النزهة طيَّ السّرية.
ولابُدَّ من استكمال التحليل الدلالي بالكشف عن العلاقة الدلالية بين «البراهين» و «الريش»، فمن جهة نجد أنفسنا إزاء تضادٍ دلالي بين المفردتين، فــ «البراهين» ــــ تبعاً للفعل «نسيها» أمور معنوية / مجردة، في حين أنَّ «الريش» شيء مادي، فلماذا إذن العطف بين المفردتين؟ يمكننا في هذه المرحلة من التحليل القول بأنَّ التضاد بين المفردتين يُشيرُ إلى أنَّ أداة العطف «أو»: «تُشرِكُ في الإعراب لا في المعنى»([23]) ، ولكن إذا رُفِعَ التضاد بين المفردتين وَحَلَّ الترادف بينهما، فإنَّ «أو»: «تُشرِكُ في الإعراب والمعنى»([24])، وعندئذٍ ثمة تكافؤ بين المفردتين على الصعيد الدلالي، فتكون «البراهين» هي «الريش» التي نسيها مم آزاد في رحلته، غير أنه ليس ما يسند هذا التأويل لغياب قرائن نصية في نصِّ العنوان، وعلى العلاقة بين العنوان والنص أن تقوّي من فرص إقامة هذا التأويل أو تقوّضه من الأساس. ويمكن للقراءة الدلالية أن تضعنا إزاء كون دلاليٍّ متمثّلٍ بالمربع السيميائي الآتي:
2 ــــ «سردٌ لابُدَّ منه لتكتمل نشأة «مَمْ» كابن آوى»([26]).
3 ــــ «دورةٌ من المزاح لتأكيد مصائر كثيرة ليس لها مكانٌ في هذا الفصل / أو: مَهمَّةُ «مَمْ» غير المحتملة»([27]).
يتقاطع العنوان الرئيسي مع عناوين الجزء الأول لفظياً عبرَ اسم العلم «مَمْ» ودلالياً في علامات أخرى، وهذا التبئير لاسم العلم «مَمْ» يمكن تفسيره بكون المشار إليه: شخصية مَمْ هي الشخصية الرئيسية التي تتولّى القيام بالأحداث ومنها «النزهة المضحكة»، أو الفاعل النَّصي الذي يوكل إليه القيام بالنزهة المضحكة إلى «هناك» لإنجاز عملٍ اقترحه «المرسِل» الذي يظلُّ وجودَهُ غامضاً في العنوان الرئيسي، هكذا وعبر التناص الداخلي بين العنوان والعناوين الداخلية يتخلّى الأول عن أسراره وتظهر غوامضه للقارئ. إنَّ عنوان الفصل الأول يكشف بذاته عن حَدَثٍ يَصدِمُ القارئ متمثلاً بــ «انتحار مَمْ» وهو لمّا يزل في بدايات النصّ، كما أنَّ تخطيط الوقت «غير متجانس» والتفاصيل «معلنة على عواهنها»، حيث نجد أنفسنا إزاء تنادٍ دلاليٍّ متماثلٍ بينَ االتركيبين: فــ«غير متجانس» تومئُ إلى «الفوضى» وكذلك «معلنة على عواهنها» تُشيرُ إلى عدم التروِّ في القول: «وألفى الكلام على عواهنه: لم يتدبره (…) وهو أنَّ يتعسَّف الكلام ولا يتأنَّى» ([28])، ألا يمكننا أن نتمثَّل في هاتين الدلالتين معنى «الفوضى» التي تثيرها دلالة مفردة «الريش» من حيث رمزيتها إلى الحركة غير المنتظمة بفعل الريح.
أمَّا عنوان الفصل الثاني فيتفتَّح عن حدثٍ غرائبيٍّ بتحوّل «مَمْ» إلى «ابن آوى»، ليمنح بذلك الصفة الغرائبية ــــ العجائبية للسرد، ومن شأن ذلك أنْ يفسِّرَ الطابع الغرائبي للعنوان الرئيسي المبدوء بمفردة «البراهين» والمنتهي بمفردة «الريش»، حيث تغدو «البراهين» في لحظةٍ إلى «ريش» حيث النزاع بين «الثبات والاستقرار» و «الحركة والخفة». ويأتي عنوان الفصل الثالث ليؤكد الطابع الكوميدي لنزهة «مَمْ» المضحكة من خلال «دورةٌ من المزاح» و«مهمة «مم» غير المحتملة» وبالتالي غير الممكنة بل المستحيلة التحقيق، الأمر الذي يحيلنا إلى التقاطب الفضائي: لا هناك ــــ لا هنا، أي ليس ثمة من «نزهة مضحكة» أصلاً، وما جرى قد حدث في «لا هناك ــــ لا هنا» أي في «الحلم».
أمَّا الجزء الثاني بفصوله الثلاثة أيضاً من الرواية، يقدّمُ عناوينه الداخلية الآتية:
1 ــــ «دِيْنوْ» يستعيد الدَّور الذي كان مرصوداً لــه، والحكايةُ تستعيدُ المكان»([29]).
2 ــــ «شكوك «دينو» في أن تكون مصائر أخرى قد ألقتْ بظلالها، من مكانٍ آخر، على ساحة البيت»([30]).
3 ــــ «دينو» في الطريق إلى موعدِهِ»([31]).
ينغلق العنوان الرئيسي على كائناته ويمتنع عن البوح بأسراره في علاقاته مع عناوين الجزء الثاني، حيث يَغِيْبُ التنادي اللفظي بين الطرفين، كما لو أنَّ العنوان الرئيسي يخصُّ الجزء الأول من الرواية فحسب، غير أنه ثمة سبيلٌ إلى إضاءة العلاقة المعتمة بين الطرفين من خلال البحث عن العالم المشترك بين «مَمْ» آزاد» و «دينو» اسم العلم الذي يحضر في عناوين الجزء الثاني، إذ إنَّ العالم المشترك بين اسمي العلم هذين يخصُّ «الكينونة الكردية»، فــ «دينو» كاسم علمٍ يحيلنا إلى ثقافة التسمية لدى الكرد مثل «مَمْ» تماماً، لكنَّ دلالة اسم العلم «دينو» أي «المجنون» ربّما تعكسُ دلالات العنوان الرئيسي عبْرَ مفردتي «النزهة المضحكة» و «الريش»، فلو استبدلنا «مَمْ» بــ «دينو» في العنوان الرئيسي لوجدنا الأصداء الدلالية تتنادى فيما بينها:
البراهين التي نسيها «دينو» في نزهته المضحكة إلى هناك أو: الريش.
وما يلفت الانتباه هنا في السياق الجديد للعنوان أنَّ دلالة اسم العلم «دينو» تحدثُ تضاداً مع دلالة مفردة «البراهين» التي تحيلنا إلى «العقل» حيث نُسيتْ في النزهة المضحكة، فالنزهة المضحكة لا تعترف إلاّ بالنسيان ــــ نسيان العقل ــــ والانفتاح على الجنون والحلم والخفة، فالانتقال من «هنا» إلى «هناك» ليست في واقع الحال سوى نزهة مجنونة (مضحكة) للبحث عن موضوعٍ مستحيل، فهل هذا يعني أن اسمي العلم: مَمْ ودينو متكافئان أو أنهما اسمان لشخصية واحدة؟ هذا التكافؤ على المستوى الدلالي يعضده الحضور اللفظي لاسم «دينو» في عناوين الجزء الثاني، إذ يتكرر ثلاث مراتٍ على نحوٍ مساوٍ لاسم «مَمْ» في الجزء الأول، هكذا يتبادل على القيام بأدوار الشخصية المركزية في النَّصِّ فاعلان هما: مَمْ ودينو.
ومن هنا ينبئ عنوانُ الرّواية بمفاصل النّص على نحوٍ تكثيفيٍّ، فبعض العناصر التي ظلّت مضمرة في العنوان تتفتَّح في النصِّ وتتوضح ملامحها وبرامجها السّردية، كما أنَّ العناصر الحاضرة في العنوان تكتسبُ حضورها النصيّ. إنَّ العنوان الذي يعلو الرواية ما هو إلاّ نواة سردية مكثفة تفجّرت ليكون ثمة نصٌّ. ومن هنا نلمح في خطاب العنوان النويات الأساسية لمكوّنات الرواية من شخصية، وزمن، ومكان، وراوي ….إلخ، فالعنوان يغدو بذلك رسالةً مُشفَّرة تحتاج إلى تفكيك عناصرها للقبض على دلالاتها في علاقتها بالنَّصِّ. وفكُّ التشفير بالعلاقة مع النص يمنحنا العناصر المضمرة والحاضرة:
«الأمور تتشظى. تواطؤات هائلة ضد شعبٍ يحاول إيجاد مكان مريحٍ لأبقاره وماعزه، وحنينه، وعظامه أيضاً. وأبي ــــ (…) ــــ كان ينحدر، بزائريه الغامضين تحت الملاءات، إلى شيخوخةٍ عمياء، وهو يرسمون، بأخاديد وجوههم، المقاطعات الكردية التي تتساقط تحت ضربات جيوشٍ كثيرة، من أقاليم كثيرة، لم يكن يجمعها شيءٌ قطٌّ، من قبل، إلاّ اتفاقُها على حلم أبي»([34]).
هذه هي صورة حمدي آزاد الباحث عن فضاءٍ مستحيلٍ للكرد، يبتغي فعل شيء «ما» لكينونتهم التي تكالبت عليها الإرادات من الجهات كافةً، فيرسل ابنه «مَمْ آزاد» كما يتوهم الأخير إلى «الرجل الكبير» الذي لا يظهر في الرواية أبداً، يقول مَمْ عن تجربة اللقاء بالرجل الكبير: «لكنني لم أكن أطهو الطعام في البيت قطُّ، بل آكل في المطعم ذاك، ثمَّ أعود إلى الغرف الموحشة منتظراً رجال «الرجل الكبير» ليصطحبوني إليه، دون جدوى»([35])، دون فائدة انتظر «مَمْ آزاد» في «قبرص» ست سنين ليتدبر اللقاء بالرجل الكبير. هذه العبثية في الانتظار هي التي تفسِّر لنا الصفة «المضحكة» للنزهة التي قام بها مَمْ آزاد إلى «هناك» حاملاً التوصيات والبراهين التي اصطحبها معه:
«لقد عَنَّ لي، مراراً، أن أكتب رسالةً إلى أبي: «لم ألتقِ صاحبَكَ يا أبي» ….(…) وكيف أتدبَّر لقائي بمن لا أعرف عنه شيئاً؟ فتحتُ الرسائل التي كانت معي، والتي ينبغي على «الرجل الكبير» أن يقرأها، فوجدتها فارغة إلاَّ من كلمات قليلة، مكرورة في كلِّها: «لا تُنْصِتْ إليه كثيراً. اهتمَّ به حتى نسترجعَهُ»([36]).
هكذا يكشفُ النصّ عن طبيعة «البراهين» بوصفها رسائل خالية من الكلمات في حين أنَّ لقاءً مع «الرجل الكبير» عَزَّ على «مَمْ آزاد»، ومن هنا تكتسي «النزهة» الصفة «المضحكة»، ولتغدو البراهين ريشاً في مَهبّ الريح. إنَّ السمة الغرائبية للعنوان تأخذ أبعادها كاملةً في المحاولة التفصيلية لمَمْ آزاد في لقاء الرجل الكبير، فمن مكان إلى مكان في تلك الجزيرة ينتهي اللقاء بالرجل الكبير إلى دائرة عبثية:
«ولم يقتضِ دخولنا إلى حديقته الشعثاء إذناً، لأن رجلاً كهلاً كان هناك، منحنياً على عشبٍ يقتلعه، فاقتربنا منه لأسأله بنفسي، بلغةٍ إنكليزيةٍ: «هل لك أن تقول للرجل الكبير، من فضلك، إننا هنا؟ »، فاستقام الرجل في سترته الصوفية، التي تتدلّى من تحتها أطراف قميصه المخطط، في إهمالٍ، ثمَّ نظر إليَّ، وإلى الأربعة، مبتسماً، ورفع إحدى كتفيه: «لا إنكليزية»، يعني أنه لا يتقن الإنكليزية، فتدخل الأربعة سائلينه باللغة اليونانية التي يعرفونها: «الرجل الكبير ينتظرنا»، فردَّ عليهم الرجل بكلامٍ ترجموه لي: «أيُّ رجلٍ كبيرٍ؟»، ولمَّا أشاروا بأيديهم إلى بيت المرأة ذات العينين الضيقتين، وأنها هي التي دلتهم، كما قالوا لــه، قهقه الرجل الكهل فبانت أسنانه المتآكلة، ثمَّ تمتم بكلمات ترجمها أحد الأربعة كالتالي: «إنَّها تدلُّ الجميع على بيتي. أظنها تخبئُ الرجل الكبير في خزانة ثيابها»([37]).
إنَّ «الرجل الكبير» الذي يقيم هناك (= قبرص) ليس سوى المستحيل الذي يبحثُ عنه الكرد/ مَمْ آزاد سبيلاً وحلاً لكينونتهم المحاصرة في فضائها، فعندئذٍ من المنطقي ألا تكون «النزهة» سوى حلمٍ: إذ حَلُمَ «مَمْ آزاد» أنه يبرح «فضاءه» إلى «قبرص» ليلتقي بالرجل الكبير؛ ليفعل شيئاً للكرد في محنتهم، إنه هناك ليضع البرهان تلو البرهان أمام الرجل الكبير عن «حلم أبيه» في استجماع مصائر الكرد في فضائهم ليتنفسوا بحرية. وبذلك فإنَّ خلوَّ الرسائل من «البراهين» واستحالة اللقاء بالرجل الكبير ينعكسان في العنوان عَبْرَ «البراهين التي نسيها ممْ آزاد» و «الريش»، فــ «البراهين» ليست سوى «الريش» ــــ «الحلم» الذي رافق «مَمْ آزاد» في رحلته إلى هناك، حيث وجدها في حقيبته:
«مددتُ يديْ ورفعتُ الريشة، التي لم تَعُدْ رماديةً في الضوء، إلى خارج الحقيبة. تأملتُ ظاهرها وباطنها خليطٌ من الرماديِّ والأبيض. صغيرةٌ جداً. مشعّثةٌ هممتُ بإلقائها جانباً لكنني توقفتُ. أفلتُّ إصبعي عنها فنزلتْ، ثانيةً إلى قاع الحقيبة»([38]). فالريشة هنا، تحملُ رائحة المكان، تجسد «الحلم» / البرهان الذي طالما حَلُمَ به حمدي آزاد، الريشة علاقة تُذكِّرُ مَمْ آزاد بمقصد السفر إلى «الرجل الكبير»، ولمَّا خاب اللقاء وتفتحت الرسائل عن فراغٍ أبيض كان للريشة أن تسكن دهاليز التيه: «وقد درتُ من حول نفسي نصف دورةٍ لأرى إن كانت الحقيبة في موضعها فإذا هي في موضعها. رفعتها إليَّ وأنا منحن لأطمئن على الريشة في قاعها فلم تكن الريشة هناك.
لقد حملتُ تلك الريشة التي كانت نائمة بين ثيابي بأناملي، من قبل، لكنني لا أتذكر إنَّ كنتُ أعدتُها إلى قاع الحقيبة أم سقطت مني في الحديقة الخلفية، …»([39]). هنا تترادف مفردة «الريشة» مع «البراهين» في العنوان، فالبراهين التي نسيها مَمْ آزاد في نزهته المضحكة (حلمه) إلى هناك هي «الريشة» التي لم يتذكر «مَمْ» إن كان قد أعادها إلى الحقيبة أم سقطت منه، إنها الحلم المنسي الذي ربما يحاول «دينو» توأم مَمْ أن يضيئه مرةً أخرى وهو يتحرك «إلى الشمال»:
«ثمّ انحدر (دينو) أعمق في الفراغ، ماضياً يتقدَّمُ الظلامَ ويتقدَّمه الظلامُ»([40]).
3 ــــ العنوان والتَّناص:
إنَّ افتقاد العنوان للسياق النَّصي نظراً لجغرافيته المحدودة نصياً يجعله في حالةٍ حُرّةٍ من التعالق النَّصّ مع نصوصٍ، خطاباتٍ سابقة على وجودِهِ وأخرى متزامنة معه، كما أنَّهُ منذور لفتح آفاقه لنصوصٍ في طور الإنتاج مستقبلئذٍ، فالعنوان بوصفه نصاً مثله مثل أيٍّ علاقةٍ نصيةٍ يمارسُ كينونته بالامتداد نحو الماضي والحاضر والمستقبل عبر لعبة التفاعل النصي (التناص)، ولأنّه ليس في استراتيجية هذه القراءة راهناً أن تتعقب امتداد «العنوان» تناصياً في الاتجاهات النصية كافةً، فإنها سوف تكتفي بما يلمع من نصوصٍ في جغرافية العنوان.
لن يُخطئَ القارئ وهو يُسدِّدَ نظره إلى العنوان ــــ ولاسيما مَنْ كان مطلعاً على المدوَّنة النصية الكردية ــ أنَّ اسم العلم «مَمْ آزاد» يُمثِّلُ فجوةً، أرضاً خصبةً للتعالق النصيِّ بين هذا الاسم وعنوانين آخرين من التراث الكردي أحدهما يُحيلنا إلى ملحمة الشاعر أحمد خاني «مَمْ وزين» أي:Mem û Z î n ، والعنوان الثاني يُشيرُ إلى الملحمة الأصل التي تناصَّ معها أحمد خاني نفسه، وأقصدُ بذلك الصيغة الشعبية أي: «مَمْ آلان» Memê Alan ويظهر أنَّ عنوان رواية بركات تتقاطع مع العنوانين: مع الأول من خلال اسم العلم (مَمْ) وحرف «الزاي»، يقول آزاد مفسِّراً هويته:
«وأبي ــــ الذي سماني «مَمْ» بين دموعِهِ الخرساء التي ذرفها مراراً على بطله «مَمْ» الذي لم يترك شاعرُ الأكراد الأكبر الملا أحمد خاني منفذاً إلى تعذيبه لم يُعذِّبْهُ منه، في حبه لــ «زين»، حتى أنَّ المقتدرين حفروا حفرتين في كتفيه، باقتلاع اللحم، وأوقدوا فيهما الشموع»([41]). أمَّا التفاعل مع العنوان الثاني، وإنْ ظلَّ طيَّ الإعجام، فيتمثَّلُ للقارئ عَبْرَ اسم العلم ذاته والألف الممدودة (آ) القاسم المشترك بين اسمي العلم: «آزاد» و«آلان»، هكذا يرسِّخ سليم بركات عنوان روايته في التراث الكردي كتابةً وشفاهاً، غير أنَّ التفاعل النّصي بين عنوان بركات والعنوانين المذكورين يتجاوز البعد الفونولوجي إلى المستوى الحدثي وأقصد بذلك أنَّ مصائر الفاعلين الممثلين لدور «مَمْ» في الملاحم الثلاث متماثلةٌ، إذ تنتهي مصائرهم موتاً، ريشاً، وبراهين منسية.
في خاتمة هذه المقاربة تنبغي الإشارة إلى هدف القراءة تمثَّل بالكشف عن استراتيجية العنونة على نحو عامٍ وبشكل خاصٍّ في رواية «الريش» من حيث تجسُّد الفعل الاستراتيجي للعنونة في احتياز العنوان الروائي على نصيته عبر انتقاله من وظيفة التسمية إلى الوظيفة النصية من جهة، وأخرى توغله في النصِّ وتوغل النَّص فيه كتجسيدٍ للميثاق العلائقي ــــ التناصي بينهما، وامتدّ البعد الاستراتيجي للعنوان إلى البعد التّناصي الخارجي بمدِّ جذور العنوان إلى التراث الشفوي والكتابي من خلال اسم العلم «مَمْ آزاد»، ليربط الكاتب بين ماضي «مم» وحاضره، بين مأساة الحب وملهاة المصير.
هوامش القراءة: