سلمى جمو
المُتفحّص بدقّة إلى الوضع الذي تعيشه أَلفيتُنا من الفوضى المنتظمة للتكنولوجيا، وهيمنة الفكر الذي ينادي بعيش اللحظة وتذوّق كل الملذات الآنيّة التي يمنحنا إيّاها التطور العلمي بعيداً عن روح التأمل، وافتقارنا لأدنى مستوى من الوعي الجمالي يمكن أن يبادر إلى ذهنه تساؤل أو فكرة، ألا وهي ما يطغى على زماننا من الرغبة في عدم الرغبة لتذوّق الفن وغياب الفلسفة عن أجواءنا.
بكاسو، فان خوخ، بيتهوفن، هوميروس، شكسبير، دا فينشي «الذي يعتبر عالماً بقدر ما هو فنّان»، والكثير ممَن أثرى التراث الإنساني بكم هائل من نتاجهم الفني، تُرى ما الرغبة التي كانت تدفعهم لخلق هذا الكم من الفنون؟ ربما رغبتهم وسعيهم لفهم ذواتهم والعالم الذي يحيط بهم، إثبات أن الحياة لا تقتصر على الحواس الخمسة، وأن هناك ما هو أنقى وأقدس من المجرّدات التي نعيشها، أو كي يعطوا بُعداً آخر لكل تلك الأشياء التي تحيط بنا ولا نكترث لها، سعيهم لإقناعنا أن هناك عالم موازٍ لعالمنا له بُعد نفسي ووجداني لم يُكتشف بعد، أو بكل بساطة شراهتهم لاكتشاف ما هو غير مكتشف والسعي إلى المزيد من المعارف.
الفلسفة…
ما تركه لنا الفلاسفة العباقرة ابتداءً من طاليس المالطي «يعتبر أبو الفلسفة» مروراً بأفلاطون، أرسطو، الكندي، ابن رشد، هيباتيا، نتشه…، والقائمة الطويلة التي لا تنتهي، حاولوا الإجابة عن كثير من الأسئلة، البحث عن تفسيرات ميتافيزيقية ومنطقية لكل الاستفهامات التي لطالما استعصت على البشرية الأولى حلّها.
من أين أتى الإنسان؟ وإلى أين يتجه؟ الغاية من الوجود؟ الروح؟ الإلهة؟ الثواب والعقاب؟ الفضائل والرذائل؟ وماذا نتجت عن هذه الأجوبة من فتح للآفاق نحو اكتشافات وحضارات ومدنيات نحن مدينون لهم بما نحن عليه الآن؟
نعيش الآن زمناً لم يعد للفلسفة من مكانة أو قيمة نسخر من كل تلك القيم التي لطالما تغنّى بها مُفكّرونا حتى أننا تمادينا في غيّنا وأصبح الغالبية منّا يدعو إلى عدم الاكتراث لهذه المُثل وإلغاءها من حياتنا بحجة أنه عفا عليها الزمن ولا تصلح لزماننا لأننا نعيش عصر العلم والاكتشافات العلية ولا وقت لعلمائنا كي يُشغلوا أنفسهم بهذه الهُراءات.
فقدت الفلسفة جوهرها أو لربما أدّت دورها بالإجابة عن كل الأسئلة التي كانت تحيّر البشرية وأصبحنا بغنى عنها، أم أن سيطرة العلم التقني على كل حواسنا بما فيها حاستنا السادسة (الروحية) هي ما أزالت الفلسفة وطرحتها جانباً؟
أعتقد أن تركيزنا الموجه إلى الاستهلاكية، وهنا لا أقصد استهلاك البضائع، كلا. ما أقصده هو استهلاك العلم والتكنولوجيا، حتى تحولنا إلى أشباه روبوتات أفقدنا كل حدس بالجمال والكمال الفني، وبالتالي إلغاء الفلسفة من حياتنا.
العلم الذي وصل إلى القمر والثقوب السوداء، الذي بات يجيب عن أدق الأسئلة من المجرّة إلى الذرّة إلى ما أبعد منها بات يشبع فضولنا ونهمنا لمعرفة كل شيء. المعادلات الرياضية والحسابات الهندسية أعطت أجوبة مقنعة «أو هكذا نعتقد» عن الكون ونشوءه، عن الانفجار العظيم، عن اللحظة التي كان كل شيء عدم «لحظة الصفر» وبعد ذلك حدث ما حدث «الانفجار الكوني» لنبدأ بعدها رحلة الصراع من أجل البقاء إلى يومنا هذا.
لكن قبل الصفر والعدم ماذا كان وأين كنا؟! ماذا عن الروح، وهل البدن في خدمتها أم هي مجرّد آلة نابضة في خدمة البدن، أم هل هناك شيء اسمه الروح بالأساس؟ الموت وعبثيته، هل هو نهاية النهاية، بداية النهاية، أم مجرّد مرض عضال يوماً ما سنكتشف العلاج الفعّال له لنعيش الأبدية التي لطالما تُقنا لها، ثم ماذا لو عشنا تلك الأبدية، هل سنستطيع العيش والمواصلة لللا نهاية في حلقة مفرغة من التكرارات التي شيئاً فشيئاً ستفقدنا الرغبة في السعي إلى الاكتشاف والفضول الذي لطالما كان الماكينة التي تحركنا إلى الأمام؟
أو ماذا بعد الموت، سنتحول إلى شذرات وذرّات في هذا الكون اللا محدود، طالما سنتحول إلى العدم لِم اللُهاث وراء الاكتشافات؟!
كل هذه الأسئلة هل بإمكان العلم الإجابة عليها في ظل غياب الفلسفة، هل يستطيع العلم طمأنة مخاوفنا وهواجسنا تجاه حوادث وألغاز ليس بإمكاننا العيش بسلام دون الحصول على إجابات مقنعة حولها؟
لا أظنّ ذلك؛ لأن العلم يعتمد على التفكير العلمي، الأخذ بالمعطيات المجرّدة، بالتالي حدود إمكانياتها تقف عند هذه النقطة لتأتي بعدها دور الفلسفة أو حتى الدين ليُلامسوا أرواحنا ويُطبطبوا على مخاوفنا بإعطائنا تفسيرات ليست بالرياضية، ولكنها ليست بالتأكيد خيالية وأسطورية لنستطيع بعدها مواجهة حياة فيها من الشيفرات والغموض ما يعجز العلم عن إعطائنا تفسيرات مُرضية لها.
أصبحنا نعيش زمناً – الفن واللغة – أصبحت فارغة من مضامينها الجمالية والسامية، نحشوها بمختلف الهراءات ونُقولبها في قوالب غباءنا الفني واللغوي حتى أصبح بإمكان أيٍّ منّا كتابة نصّ لا هو بالشعر ولا بالفكر، مجرّد صفّ للكلمات.
رسّامون باتوا (يصورون)، ولن أقول يرسمون، كل شيء حتى أنك تخال نفسك أمام صورة مصورة بآلة التصوير من واقعيتها المفرطة. فلاسفتنا المتفلسفون أمسوا أبواق أنظمة ظلامية ليتحولوا سفسطائيين أكثر من كونهم فلاسفة.
ليُصَدّر لنا بالمحصلة نتاج أقل ما يقال عنه أنه رديء ولا يرقى لمستوى إنسانيتنا ووجودنا، فتحوّلنا إلى بشر نفتقر إلى الحدس، نعيش واقعية مخيفة نحارب من أجل الكم لا النوعية حتى باتت عقولنا تئن تحت وطأة كل هذه الفوضى المهنَدسة بدقة مدهشة.
ربما نحتاج إلى ثورة فكرية على غرار نظيرتها العلمية، هذه الأخيرة التي علّبتنا وعلّبت أرواحنا، لننطلق من جديد ونخلق عالماً يعيش فيه العلم والفن على قدم المستوى في وئام وأُلفة، علّنا وقتئذ نعثر على ذواتنا التي هجرناها أو التي هجرتنا غضباً ورفضاً لسيرنا الأعمى نحو هلاكنا المحتّم. ثورة تردّ للفن والفلسفة اعتباره المسفوك و تأكد أنه لولاهما ما كان للعلم أن يصل لما وصل إليه وأنه بالرغم من كل هذه الإنجازات يبقى قاصراً عن إرضاء البشرية روحياً لو لم يستعن بهما (الفلسفة والفن).