أحمد عزيز الحسيـن*
(الكلامُ مع النّفْسِ) هو كلامْ مع ( آخرَ) مُتخيَّل تجرّده (النفسُ) من ( ذاتها)، وتحاوره لتُحسِنَ التخلصَ من حالة القلق والتوتُّر التي تعيشها، وتستطيع الاستمرارَ في حاضرها. ويُمسِي (الحوارُ مع النفس)، في هذه الحالة، قائماً مع ذاتٍ أخرى مفتَرَضة، وليس مع ( الذات ) نفسها. وبقدْر ما تكون الذاتُ مغتربةً في حاضرها، وتنعدم أمامها سبُلُ الحياة الكريمة فإنها تتقوقع على نفسها، وتميل إلى الحوار مع( آخر) مفترَض للتّخلُّص من معاناتها، والتّغلُّب على العقبات التي تواجهها في حاضرها.
وفي زمنٍ أمسى فيه الحصولُ على الاحتياجاتِ الأساسيةِ صعباً يكثر ميلُ ( الفرد) إلى العزلة، وتنعدم رغبته في التواصُل مع (آخر)، وحتى حين يحاوره فهو لا يفعل ذلك ليحصلَ على رأيه، بل ليوصلَ إليه معلومةً أو حُكْماً تبنّاه مسبقاً؛ وأصبح بحُكْمِ (الحقيقةِ) بالنسبة إليه؛ وهكذا يتحولُ (كلامُهُ) مع ( الآخرِ) إلى نوعٍ من (الشكوى) التي تنعدم فيها إمكانيةُ الحوار وتبادُلِ وجهاتِ النظرِ المتغايرةِ؛ فيغدو ( المشكوُّ ) إليه ( ذاتاً) أخرى تنقلُ إليها ( أنا المتكلمِ) حكماً؛ ولكنْ من دون أن ترى أنّ من حقها المناقشةَ فيه؛
إذ إنّ ما تنقله ذاتُ المتكلمِ في هذه الحالة، يصبح هو ( الحقيقةَ) نفسها، وليس مجالا للحوارِ مع ( الآخر) ؛ لأنّ ( الذاتَ ) التي تتكلم قد ناقشتْهُ مع نفسها، ودورتْه في ذهنها عشراتِ المرات، وتاكدتْ من صحته، وحين قررتِ الحديثَ عنه مع ( آخر)، ونقْلَهُ إلى العلنِ؛ كان قد أمسى بحكم (البديهةِ) أو (الحقيقةِ) التي لا تقبل النقاشَ بالنسبة إليها، ولم تعدْ بحاجة إلى التأكُّدِ من صحته، وما يدور بينها وبين الآخرينَ من (حوارٍ مزعومٍ ) في هذه الحالة، إنما هو أداةٌ لنقلِ الحقيقةِ التي توصّلتْ لها هذه الذاتُ إلى (الآخر) بعد أن انتفتْ إمكانيةُ دحضها، وأمستْ بحكمِ (الحقيقةِ المنزَّلة) التي لا تقبل النقاشَ والحوارَ.
وفي المجتمعاتِ المستبَدّةِ والمأزومةِ يمسي من الصعبِ إجراءُ حوارٍ بين طرفينِ يملك كلٌّ منهما وجهةَ نظرٍ مغايرةٍ للآخر، ذلك أنّ الحقيقةَ، في رأيهما، لها وجهٌ واحدٌ لا يقبل النقاشَ أو الحوارَ ، وهذا دليلٌ واضحٌ على أن السلطاتِ المستبدةَ قد أفلحتْ في صياغة فردٍ منمَّطٍ قطع علاقتَهُ مع الآخر، وأمسى حتى حينَ يتكلمُ معه فإنما يتكلَّمُ مع نفسهِ لا غيرَ .
ولأننا انشغلنا عن ( ذواتنا) بلقمة العيشَ المرّةِ انقطعتْ علاقتنا مع الفضاءِ الواقعيِّ الذي نعيشُ فيه؛ وأمسينا عاجزينَ عن التمتُّعِ بمافيه من جمالٍ، ولَم يعدْ يُثيرنا مرأى وردةٍ نابتةٍ في صخرةٍ، أو مشهدِ نبتةٍ متسلقةٍ على جدارٍ، أو طفلٍ يلحق بفراشةٍ، أو يطاردُ عصفوراً لم ينبتْ ريشه بعد، بل أزعمُ أن علاقتنا بما هو خارجَ ذواتنا قد انقطعتْ تماماً، وهكذا أمسينا شعوباً متخشبةً تحلم بتوفيرِ الحاجاتِ الأساسيةِ، وتستغني عن كلِّ ما له علاقة بالرّوحِ من فنٍّ وموسيقا ومسرح وما شاكلها .
ترى : ألا نكونُ في هذه الحالةِ قد سلّمنا الرايةَ، وقبلنا بالهزيمة؟ وكيف يمكننا أن نعيدَ إلى حياتنا ألقَهَا، ونستعيدَ ذواتَنا الضائعةَ وهوياتِنا المفقودةَ بعد أن آلَ حالنا إلى ما هو عليه الآن ؟!
إنه سؤالٌ برسمِ الإجابةِ … !!
—————————
🔹كاتب سوري