أحمد عزيز الحسين
خلط الذين هاجموا سليم بركات، وانحازوا لـ(محمود درويش)، بين درويش الأديب، ودرويش الإنسان، وحاسبوا (بركات)، وهجَوْه؛ لأنّه تعامل مع (درويش) بصفته إنساناً لا أديباً، وافترضوا أنّ (درويش) كان شاعراً حتّى في حياته اليوميّة العاديّة، ولم تكن له حاجاتٌ يمكنه أن يستجيب لها كما يستجيب لها باقي البشر، كما افترضوا أنّه (ملاكٌ) لا يُخطئ، وأنّه يُصيبُ دائماً، وأنّه إنْ أخطأ فيبنبغي أنْ يعترف بخطئه بصوتٍ عالٍ، ويقرّ على رؤوس الأشهاد بما اقترفه من أخطاء، وحين اعترف بركات بأنّ درويش أخطأ، وأقام علاقةً مع امرأة متزوِّجة، وأنجب منها بنتاً أيضاً ثارتْ ثائرتهم، ورأوا أنّ ماقام به بركات يخدش الصُّورة التي كوّنها جمهوردرويش عنه، ويحطّ من قيمته الأدبيّة في الوقت نفسه، مع أنّ مارواه بركات يخصُّ (درويشَ الإنسانَ) لا (درويشَ الأديبَ)، ولا علاقة لـ (درويش الأديب)؛ بما قام به (درويش الإنسان)؛ لأنّ (درويش الأديب) مبدِعٌ كبيرٌ له إنجازٌ تخييليٌّ لا يُشكُّ في قيمته حتّى وإنْ كان كثير الأخطاء في حياته وسلوكه العمليّ، والثّاني شخصيّة واقعيّة من لحم ودم؛ ولا يجوز المساواةُ بين الاثنين؛ لأنّهما مختلفان في التّكوين البنيويّ والدّلالة، ويتحرّك كلٌّ منهما في سياق مختلف عن الآخر، ويتعامل مع العالم المرجعيّ تعامُلا مختلفاً، وأيّ تقييم لأحدهما بمعزل عن سياقه وبنيته، يؤدّي إلى تدمير البنية والدّلالة معاً، ويُقِيم نوعاً من المطابقة بين بنيتين وشخصين لا يجوز المطابقةُ بينهما أبداً.
إنّ درويش الأديب، وفق علم النّصّ الحديث، مختلفٌ كلياًّ عن درويش الإنسان، وقد يكون متقدِّماً عليه فكراً وسلوكاً، ولا يجوز تقييم الثّاني، أو توصيفُهُ إلا بعد وضعه في سياقه، وإلحاقه ببنيته التي يتناسج معها، وأيّ قراءة له في ضوء كونه شخصاً يقوم بتصرُّفات مُعيَّنة في حياته، إنّما هو عزلٌ له عن بنيته التي يتعالق معها، وتدميرٌ له كما قلنا، كما أنّه خلطٌ مُتَعَمَّدٌ بين بنيتين لا يجوز أنْ تتطابقا أبداً: بنية الواقع الموضوعيّ وبنية الإبداع والتّخييل الفنّيّ.
وقد يكون درويش الإنسان أباح لنفسه أن يحلِّق فوق الواقع أحياناً، ويمارس في حياته العمليّة ما يتعارض مع النُّصوص التي قدّمها بوصفه أديباً؛ وهو ليس وحيداً في هذا، فما أكثر الأدباء والفنّانين الذين يدعون، في نتاجهم، إلى فكر تقدميٍّ، وقيم أخلاقيّة محدَّدة، ويجسِّدون نقيضها في حياتهم العمليّة، وهذا لا يُضيرهم بحسب معايير نظريّة الأدب والفنّ؛ لأنَّ هذه النّظريّة تفصل بين النّصّ وصاحبه، ولا تحاسب الثّاني على ما جسدَّه الأول، بل تعدُّ النّصَّ- أياً كان جنسه- مستقلاًّ عن صاحبه، ولا تُجِيزله أن يُقرَأ، أو يُقيَّـمَ ، في ضوء علاقته به. ومن هنا لا يضير درويشَ الإنسانَ حتّى أن يُخطِئ، ويقصّرعمّا طالب الآخرين بتجسيده في حياتهم، بل إنّ هذا يُعطينا مؤشِّراً على التّعارُض بين شخصيّته كأديب وشخصيّته كإنسان وحسب، وهو تعارُضٌ موجودٌ في تاريخ الأدب والفنّ، ويدلُّ على الصّراع المحتدم الذي يخوضه الأديب والمفكِّر والفنّان سعياً إلى الكمال الذي يحلم به، وقد لا يُحسِن تجسيدَه أو الوصولَ إليه بشكل دائم .
ويعرف من قرأ سيرة الفيلسوف الألمانيّ (هيغل) أنّ ما قام به درويشُ الإنسانُ ليس بغريب؛ فـ (هيغل) نفسه عارض الملَكيَّة فكريّاً، وناصرها سلوكيّاً، و كان تقدُّميّاً في فكره رجعيّاً في سلوكه، ومع ذلك بقي فكره يحظى باهتمامنا، ولا نزال ندرسه بوصفه واحداً من القيم الفكريّة الفلسفيّة العظيمة في عالمنا المعاصرحتّى الآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- ناقد سوريّ