ابراهيم محمود
8- كلمة بحق الأصدقاء المعدودين، وما أكثرهم !
لا بد أنهم يعرفون أنفسهم، وغبار السنين يثقِل خطاهم، ومكابدات العمر النفسي، تصعّب عليهم تنفُّسهم،وظلال آمالهم، وأنا بكامل يقيني أنهم يعرفون أنفسهم جيداً، جهة الصداقة التي لها من العمر الكثير، إنما من العمق في الأثر ، أكثر من الكثير. وأن تسمّي أحدهم صديقاً، بعضهم أصدقاء، وفي مدينة لا تخفي مظاهر نكْبَتِها وانجراحاتها طولاً وعِرْضاً، هي قامشلي، ومنذ سنوات ثقال، فليس بالأمر السهل. فليس ما يمنح الحياة اعتباراً سوى هذا العصب المركزي الذي يصل قلباً بقلب، وتفكيراً بتفكير، ما يعمّق الشعور النفسي وينعشه بالمقابل .
هم أكبر من أن أسمّيهم، لهذا، ليسمحوا لي، كما هو تقديري لهم، وهم بأعمار مختلفة، بمشارب نفسية مختلفة، أن أترجِم بعضاً من أحاسيسي، من رؤيتي الحياتية، فيما هم عليه، باعتبارهم أصدقاء، وكلّي شعور أن المسطور المعنَّى هنا، سوف يتنفس الصعداء وهم يقبِلون على قراءته، كما أقدّر، وهم يضفون على المسطور ظلالاً من أحاسيسهم، وهي تتقدّم بالأمكنة التي احتوتنا، وطي قائمة الأحاديث التي فلترت فينا عكر اليومي، وما كان في ذلك من طرب الحضور، وشغف الطُّرف، دون نسيان تشابك الهموم ووحدة الحال فيما نحن عليه، وما يشدنا إليه تباعاً.
بيوت عرِفت برحابتها، رغم تواضعها النسبي، ليكون للحضور الودّي، ما يخرجنا، ولو لبعض الوقت، من وطأة الزمن المتجهم، والحرارة المضاعفة للصيف، حيث لا مجال للحديث عما كان يغذّي ” البطون ” لأن ما كان يغذّي النفوس، وما يطرب السمع والبصر، ويعزّز من فضيلة الشوق المتبادل إلى كلمات لها وقعها المقدَّر، وآراء إزاء ما هو معاش منذ حين من الدهر.
بيوت بدت وسيمة رغم خرسانتها، رغم التقطع في التيار الكهربائي، ومتابعات خارج البيوت، وطمأنات في أمكنة شتى داخلها، وعلى عجَل، في زاوية شارعية، مطعم، محل عمل…الخ .
لا أخفي هنا، وأنا أتحدث عن لمَّة الأصدقاء المضيافين، في بيوتهم وخارجها، كما قلت، ما كان يبقي للكلام الدائر من ملوحة توتر النفس، أو عسْراً في هضم كلمات دون أخرى، ونحن شهود عيان الدائر من ألم وإيلام وتلوع، حتى ونحن نحاول اللوذ بطرائف، أو مساع ٍ لإنعاش المناخ الساخن، ونحن مسافات متباعدة، ونحن مشاعر مشدودة إلى أمكنة نالت منا كثيراً، ونحن هواجس لا تخلو من توجعات لها ارتباط بجهاتها الجغرافية، ونحن مغلولون بمواعيد سفر، وصِلات تمتد إلى آلاف الأميال بحساباتها المتقلبة، حتى ونحن في فسحة مكانية ضيقة، سوى أن قسوة الدائر، وتشظّي المكان بأهليه، لا بل وتناثر الأهل عائلات تترى، والأصحاب زرافات ووحداناً، ومرارة التنائي، رغم كل حديث عن استقرار ما…لا أخفي، أن ما كنّاه، أن ما أردناه لم يفلح كما يجب، في إخراجنا من وحدتنا المتناثرة، إلى وحدتنا الواحدة، وبيننا سنين، وجهات جغرافية، ومتغيرات أحوال، وأنواء نفوس، ومنغصات، وصدمات مكانية- زمانية، أحالت قامشلي أكثر من كونها قامشلي، أقل من اعتبارها قامشلي كما كانت، أخرجت من قامشلي من روحها التي تعزَّزت بجماع أهلها ذوي العراقة المكانية، وحكايات الأمكنة الأليفة، وحنين الأبواب إلى ملامس أصحابها، وقد أصابها الخرس جرّاء الانتظار العقيم، أو انخلعت مفاصلها، ونحن حضور، وفينا طغيان الغياب والتشتت، ووهن الموعود ومردوده. فالمتراكم في النفوس لا يُخفى هنا بنتوءاته وكدماته، وفي الوقت الذي كان كل منا، نحن ثلة/ لمة الأصدقاء يسعى إلى أن يظهر من نفسه ما يريح نفس الآخر، وما يكتم على نفسه الفعلية، لأن اللحظات التي كانت تشدنا إلى بعضنا بعضاً، وملؤها شوق أكيد، تخرجنا من ربقة المعيش اليومي ودبقه المستفز، كانت تنذر كلاً منا، بوعي أو بدونه، أن القادم هو الأمضى، وأن انتظار اللحظة التي تديم في اللقاء الحي، لا يمكن البت فيه. لعله الخوف، التخوف، القلق، من الآتي قد يكون أكثر إيلاماً.
هل عكّرت صفو من التقيت بهم، من تصافحنا، استسلمنا إلى الأحضان، بما تفوهت به آنفاً ؟
أليس علي أن أكون صادقاً، وأنا أتحدث عن هؤلاء الأصدقاء المعدودين وما أكثرهم حضوراً، ما أغناهم نفوساً، ما أرحبهم تفكيراً، ما أعذبهم إصغاء وكلاماً؟
أوليس واجب الصداقة أن تفصح عما يزيد في رصيد الصداقة لقادم الأيام، أبعد من حدود الطعام الذي استغرق مساحة لافتة، أبعد من مقام ضيافة لها رسمياتها، أعمق من علاقة آنية، أو جانبية، أو ممكيجة….جهة تسمية آلام، أوجاع، مخاوف، توجسات، تكهنات، تعزّز من خاصية الصداقة هذه، وتنمّي روحاً مشتركة، وانتظار لقاء تال ٍ، كما لو أنه غداً أو بعد غد وهو أبعد زمنياً ؟
سلاماً لكم يا أصدقاء أنى كنتم، في بلدكم لا بلدكم، وبلاد تتقاسمكم، كأنكم أنتم ولستم أنتم !
……… يتبع
9- الكرد بروليتاريا مهدورة لإسلام قاهر