ابراهيم محمود
صدرتْ رواية كاتبنا الكُردي الكبير سليم بركات ” سبايا سنجار ” عن المؤسسة العربية ” بيروت، 2016 ” في ” 440 صفحة ونيّف من القطع الوسط “. وكغيرها من رواياته ومجموعاته الشعرية وحتى نثرياته، فإنها كانت محل اهتمام الكثير ممن الكتاب، سوى أنني أستطيع القول أنها في مجملها لم تخرج عن نطاق التقريظ والمحاباة، وقد ارتقيَ أكثر إلى مستوى ساحر الرواية / الشعر، وكائن اللغة العجيب. تُرى، كيف يتقابل السحر والعجيب والقراءة النقدية للنص يا تُرى ؟
نعم، عملياً، كمعظم هؤلاء، تابعت هذا السحر في البناء اللغوي، وجموح الخيال، وهو سحر مألوف لمن قرأ أعمالاً سابقة له، سحر ليس كذلك إلا لمن يفتقر إلى عملية استيعاب بنيته.
وأسجّل تقديري ” وهو تقدير طبعاً ” للموضوع المعالَج فنياً ” سبايا سنجار ” وما للعنوان من إثارة وانفجار معان . غير أني أسارع إلى القول في الحال إلى أن الموضوع، كما يعرف أهلوه، وكاتبنا الكبير في الواجهة، يتشكل من مجموعة عناصر، وتبعاً لمادته بالتأكيد، ربما كان إغفال عنصر ما، مخلَّاً ببنيان العمل برمَّته، وحتى مضحَّياً بعظمة المراد منه .
بعيداً عن ” الأستذة ” التي أُتَّهَمَ بها، أسمّي بعضاً من هذه النقاط/ الأخطاء، وأنا أعتبرها قاتلة ” بالثلاث “، ومن خلال المناخ الاجتماعي، السياسي، الديني، والتاريخي للرواية بالذات، ومأساة الفن في المحصّلة .
-في الصفحة الخامسة ” شخصيات ومعالم ” إذ يجري التعريف بأسماء شخصيات روايته ومعالم لها: هناك خمس سبايا إيزيديات، ومن ثم ” سارات ” السارد الرئيس، ومن خلاله تشكّل الرواية أبعادها، أو نسيجها الفني، وخمس شخصيات ” داعشية “: ذكور، ثلاث منها تنتمي إلى كل من ” مدينة الرمادي: العراق “، و” أبو كمال: سوريا، وليبيا ” دون ذكر اسم مدينة ما فيها “، وشيشانية، وخامسة مجهولة الجنسية.
السؤال المطروح هنا: بناء على أي معيار تم اختيار هؤلاء؟ الشخصيات الثلاث الأولى، تنتمي إلى مناطق احترابية ملتهبة. وهو خيار يفتقد الذكاء.لماذا لم يختر شخصية” داعشية ” أخرى من بلد عربي آخر: السعودية، تونس، الأردن ؟ أو حتى من دولة أوربية؟ وليس من داع للتنويه إلى قائمة المنتمين إلى هذه الدولة ” السعودية في الواجهة ” ؟
في السياق نفسه، أما كان إدراج شخصية كردية ضمن هذا التنظيم، معمّقاً لمصداقية الرواية أكثر؟ وليس من خاف أيضاً، وجود عدد ليس بالقليل من الكرد الذي انخرطوا في هذا التنظيم الإرهابي !
وللتذكير، فإن الذين حاولوا دخول ” روجآفا ” من خاصرة ” سري كانيه ” في مطلع 2013، وبدعم من تركيا، كان من بينهم عناصر كردية. أعلينا أن نغضّ الطرْف عن واقعة كهذه أيضاً؟ وحتى في الهجوم على كوباني، وُجدت عناصر كردية بارزة، كما هو معلوم أيضاً. بناء عليه، أنسمّي الصراع كردياً- عربياً، إسلامياً- إيزيدياً، أم ماذا ؟ وفي الوقت الذي أكدت، وأؤكد هنا، أن بركات ما كان في وسعه أن يصبح بركات المعروف بسطوع نجمه الأدبي لولا العرب، رغم كل ما يمكن أن يوجَّه إلى إعلامهم، أو كتّابهم من نقد، لأنهم لم يقدّروه حق تقدير، وأن الذين يطبعون أعماله هم عرب كذلك، وليسوا كرداً أو أجانب.
-في أكثر من صفحة، تحوّلت لغة سليم بركات من خلال سارده في الرواية إلى خطاب تعبوي مقيت، بمفهومه السياسي، الطائفي، المذهبي والقومجي، وأراها سقطة فنية إلى أبعد الحدود، عندما يتحدث هكذا:
( معاول الولي الإيراني، المبشّر بالخراب…معاول الأمريكي الشؤم، المشؤوم، حسين أوباما….معاول قيصر روسيا الأخير، لقيط راسبوتين. ..معاول رجب أردوغان…ص14 )، ( حاكمو بغداد الشيعة، ذوو الولاء للحرس الثوري في طهران… واستدراج مقاتلي ” دولة الخلافة ” إلى امتلاكها حاكمُ دمشق العلوي…ص39 )،
( القذافي…صدام حسين. أسد سوريا الخالد، هم قناصلة كاليغولا الفخريون في عالمنا. ص 164 )، ( سنم الفقيه الإيراني تشريعاً يجيز احتساب المراقد الشيعية مستوطنات له في سوريا…شرَّر الروسي القيصر انتدابه على سوريا…مزَّق الحاكم العلوي سوريا تدبيراً لمفاضلة…ص 179 )، ( سليل راسبوتين، قيصر روسيا الجديد…روث أخلاق حسين أوباما…حاكم سوريا العلوي…ص246 )، ( ذل الحاكم العلوي…انتقام بوتين من حسين أوباما.ص 295 ) ، ( استنجد الحاكم العلوي بكل من يستطيع إنجاده للبقاء حاكماً على كرسي من الرماد. وزع البلدَ على الإيراني وحشود شيعته من كل العالم..ص296)، ( سيضيفون الأرثذوكسي القوميَّ الروسي بوتين، والشيغي الفقيهَ في الخراب خامنائي، والعلوي حاكم سوريا، والخليفة السنّي البغدادي…ص 306 )…الخ.
أليست هذه العبارات فاقعة راقعة؟ وهي بالرغم من بلاغة الجمل التي تسبقها وتلحق بها، تميّع لغة الفن، كما لو أن بركات هذا، محمول على كتف متظاهر وفي ساحة عامة، وهو يمارس تعبئة للمتجمهرين، رغم الفارق الكبير بين ساحة تظاهر، وساحة فن، بين لغة الأولى، وتلك الخاصة بالثانية.
وهل حقاً أن الصراع بات طائفياً؟ أبالطريقة هذه يحوَّل الحدث الدائر فنياً ؟أليست دائرة الصراعات في المنطقة أعمق وأوسع وأعقد من خطابات شعاراتية استهوائية كهذه ؟ وفي الآن عينه، ألا تسيء نبرة فاقعة كهذه إلى ما بقي قائماً، ومن رجل أدب مرموق جهة تجييش المشاعر المذهبية، بدلاً من التصعيد باليومي والدامي إلى أبدي وراق ؟
أثمة انتقام لسليم بركات الشخص المنتمي إلى ” عامودا- قامشلو ” من ” الحاكم العلوي، والسابق عليه “، محيلاً للمطلع على تاريخ عائلته الديني ” السنّي ” المتمذهب ذات يوم، وما لاقته العائلة هذه، وغيرها من أذى النظام ؟ أليست الكتابة، بالطريقة هذه تمضي بنا إلى ماوراء المنشور أو المسطور، وإماطة اللثام عما هو خفي ؟
-في مشهد، يشير فيه إلى حديث سارات ذي الأربعين عاماً، مع شاهيكا، وكيف قضت نحبها، يشير السارد إلى عملية انسحاب ” مقاتلي الدولة الإسلامية “، وليس هزيمة، حيث كانت شاهيكا ، السبية الإيزيدية مملوكة داعشي، في الحسكة، حيث نقرأ ( لقد فتح مقاتلو فصائلَ متحالفة ضد ” الدولة الإسلامية ” ثغوراً في تحصيناتها ، فانسحب مقاتلو ” الدولة الإسلامية ” من الخطوط الشمال إلى الشرق .. ..ص 42 ). بركات، ومن خلال سارده، ولا في أي مكان، لا يأتي على ذكر هذه الفصائل، رغم كونها كردية إجمالاً. أم تراه في موقفها الحدّي/ المتشدّد منها، استصعب أي تسمية مباشرة لها؟ وفي الحالة هذه، أي قيمة تبقى للفن، إذا كان هناك تزييف للواقع، وحين يشير إلى مبلغ تخوف ” الدواعش ” من المحاربات الكرديات، كما شهدت مجابهات كوباني، وثمة إشادة بالفتيات الكرديات اللواتي أرعبن ” الدواعش ” في كوباني ” ص 224 ” . تُرى، وفق أي معيار، يمكن تجاهل التاريخ، في رواية لا تخرج عن نطاقه بأكثر من معنى؟
-في العلاقة القائمة بين الفنان سارت وصديقة الفنان الآخر والأرمني خاتشيك، والمنتمي إلى منطقه، لكنه المقيم تالياً في فنلندا، ليس من علاقة مقنعة، على الإطلاق بين الاثنين، وهما يتحدثان عن الرعب الدائر.
كما في الحوار الدائر بينهما، عما يمكن أن يحصل لو ( أعلِن، مثلاً، أن غداً هو نهاية العالم ..ص 418 )، يمضي خاتشيك في سرد ما هو رهيب ( سيخرج الناس بأسلحتهم السكاكين، والفؤوس، والبنادق، كل ينتقم لنفسه آخر انتقام يقْدر عليه: انتقام بسبب نظرة لم يحبها….سيكون يوم انتقام الكل من الكل: الألإراد من الألإراد، الشعوب من الشعوب، التاريخ من التاريخ، الكتب من الكتب، الرسوم من الرسوم، الآلأهة من الآلهة…ص 419 ) .يستغرب سارات مما يسمع. إلا أن الخطأ القاتل هنا، هو ما كلَّفه بركات بالنسبة لسارات لقوله، وكذلك الحال مع خاتشيك. ففي الفن ثمة تكثيف وقائع، ثم عبارتات تضعنا في مضمار الخفي. ذاكرة خاتشيك الأرمني نازفة، يجدّد ألمها جرح مذابح الأرمن، وتداعياتها، إلى جانب إشكالاتها، وسارات لا يبدو أنه معني بذلك. تلك ليست نباهة، أو فطنة من الروائي في ” فبركة ” علاقة كهذه، فللقارىء أيضاً ما يمكنه قوله، ومساءلة الروائي عما يقوم به في استغبائه أحياناً. هل حقاً أن ليس من توتر قائم في بنية العلاقة؟ أما كان في مقدور ساردنا أن ” يتحفنا ” ولو بجملة عابرة” وهي ليست كذلك دلالةً ” بما يخص هذه العلاقة: بين الكردي والأرمني؟ ولا بد أن استرسال خاتشيك في الكلام على تماس مباشر بتاريخ يبقيه نزيل ماض كان. ولا أظن أن بركات في وضعية نسيان لما كان، ويتردد حول ذلك هنا وهناك، ما يكون خلاف المقروء باسم سارات وخاتشيك، إلا إذا كان هو الآخر في وضعية المنتشي مما يسمعه أو يقرأه بلسان المأخوذين بكلامه وهو على علّاته !