خالد جميل محمد·
في تفاصيل العنوان
يُقْصَدُ بتعمية الدَّلالات في سياق العنوان والدراسة، إخفاؤها وإضفاءُ صيغةٍ غامضةٍ غيرِ مفهومةٍ عليها، في صوغٍ يجعل الرسالةَ اللغويةَ عَصِيّةً على الفهم، مُبهَمَةَ الفحوى، غيرَ واضحةِ المعاني، بحيث يتعذرُ على المتلقي إدراكُ كُنهِها واستيعابُ مقاصدِها ومراميها، واستخراجُ مُعَمَّياتِها التي تلتبس عليه فيقف حائراً عاجزاً عن فكّ رموزها الخارجةِ عن إطار إمكان الفهم.
بهذا المعنى تسدُّ التعميةُ طريق التواصل أمام رسالة النص التي يُفترَض أن تتحول عند المتلقي إلى حالةٍ جديدةٍ يُعاد فيها إحياؤه إثْر تَعرُّفِ أبنيته الصوتيّة، الصرفيّة، النحويّة، الدَّلاليّة والمعرفيّة، ومن ثَمَّ تَعرُّفِ قِيَمِه الفنية، الجمالية والشعرية، ويَنتج عن تلك التعميةِ انقطاعُ عمليةِ التفاعلِ الإبداعيِّ المنتِجِ للنص بعملية القراءة التي تأتي في مرحلةٍ تاليةٍ لعمليةِ الإنتاج الأوّلي للنص الذي يتحول بهذه السِّمة المحيِّرةِ والتعجيزيّة إلى مُنتَجٍ لُغَوي غريقٍ في الإبهام المتعمَّد الـمُتَستِّر تحت اسم الغموض، الإبهام، الرمز، الانزياح اللغوي، هَدْمِ اللغةِ أو نحو ذلك مما يدخل في مجال هذا الحقل الدَّلالي الذي يَعني خروج لغة النصِّ الشعري عن طابَعِ اللغةِ المألوفةِ لتتميّزَ عنها وتسموَ عليها بشعريَّتها وجمالياتها.
أما الدَّلالات فيُقصَد بها في السياقِ نفسِه، ما تَـــنْــتُج عن العلاقة المتلازمةِ ما بين الدالِّ (الصورة الصوتية الخطية للكلمات، وعلى صعيد النص، للجُمل والعبارات) والمدلولِ (الصورة الذهنية لها)، وحين لا تَنتجُ العلاقةُ ما بين الدالِّ والمدلولِ في النصِّ تلك الدَّلالات، فإنه يَفْقِدُ مقاصدَه التي من أجلها أُنجِزَ على شكل بنيةٍ أُطلق عليها اسم (الشعر)، دون أن تُحَرِّزَها السلامةُ اللغويةُ التي يمكن أن تتوافرَ فيها، من سِمة التعمية التي تنقطع فيها العلاقةُ بين الدالّ والمدلولِ، فتنتفي الدلالةُ ويفقِد النص قُدرتَه على إيصال رسالته تلميحاً أو تصريحاً.
كثيراً ما يتحول الغموض، الإبهام أو تعمُّدُ الإلغاز في الشعر، إلى تَعْمِيَةٍ تُـفـقِـرُ النصَّ وتجرّدُه من مفاتيحَ يمكن أن يَعتمد عليها القارئُ لفكِّ شيفرتِه وخَرْقِ ترميزِه العَصِيِّ، متوسِّلاً أدواتِ القراءةِ الفاعلةِ المنتِجةِ التي تَكفَلُ تعرُّفَ مستوياتِ اللغة المستخدَمةِ في بنية النصّ الـمَـعْنِيِّ، بدءاً من حُسْن التلقّي، مروراً بعملية فكِّ تلك البنية وتحليلها لإعادة تركيبها بما يكشف عن القيم التي تكتنزها، وانتهاءً ببلوغ المقاصد المحتمَلة أو المفترَضة أو الــمُــؤَوَّلــةِ من وراء تلك الرسالة اللغوية التي جعلها ذلك الإغراق في الإبهام مستغلِقةً على المتلقّي.
النص المستغلِقُ، لا تتوافر فيه مفاتيحُ تُعِينُ القارئَ على فكِّ شيفرتِه الـمُـمْعِنةِ في الترميزِ المتعمَّد والتلغيز الــمُــتَقَصَّدِ، لذا فإنه يكون ضرباً من كلامٍ مُعمّىً يَحُولُ بين القارئ وبين تلك القيمِ، حتى يبقى ذلك المنتَجُ اللغويُّ عديمَ الفائدةِ من الناحية الشعرية والجمالية، رغم احتمالِ حفاظِه على سويَّتِه وسلامتِه اللغويةِ من النواحي الإملائية، الصرفيّة، النحْويّة والمعجميّة، إلا أن ذلك لا يُسعفُه من هَدْر الدَّلالات المنتظَرة منه وانتهاكها.
نماذج من التعمية في نصوص سليم بركات·
الشعر بنيةٌ لغويةٌ ذاتُ أبعادٍ دَلالية ومعرفيّة، تشتمل على قيم فنية وجمالية تتحدَّد بموجبها شعريةُ النصّ. ولبلوغ تلك القيم وتلك الشعريةِ، وتَعَرُّفِ تلك الأبعادِ، تتطلبُ قراءةُ النصِّ المَعْنيِّ بحثاً عن مؤشّراتٍ تُعلّل توظيفَ علامةٍ لغويةٍ دون أخرى، واستخدامَ صوغٍ لغويٍّ دون سِواه. وبما أن القارئ “شريكٌ” للكاتب الذي يستخدم اللغةَ لإيصال رسالتِه، فإنَّ اعتمادَ نصٍّ بلا دَلالاتٍ أو معانٍ، أو التوسُّلَ بالتغميض المتعمَّد أسلوباً ومقوِّماً له، سيؤدي إلى نفورِ القارئ الباحثِ عن مغزى، موضوعٍ، خلاصةٍ أو فِكَرٍ تَعكِس بعضاً من المعارف والمقاصد.
في نماذج من الشعر الحديث صارت التعميةُ سِمةً مميِّزة تكادُ تشكّل ظاهرةً عَرَفَتْها الحداثةُ الشعرية العربية منذ نهايات الخمسينيات من القرنِ العشرينَ حتى الآن، كما عَرَفَتْها اللغاتُ الأخرى أيضاً، دون أن تجد خطاباً نقدياً جريئاً يشخّص لها طبيعتها تلك، إلا نادراً وببعض الاستحياء، وذلك إما خَشْيةً من سطوة اسم الشاعر نفسِه، خاصة إذا كان رائداً في هذا المجال، أو أخذ نصيباً وافراً من الدعاية والشهرة، وإما خَشيةً من أن يُنعَتَ الناقدُ ومثلُه القارئُ بالجهل أو عدمِ فَهْمِ الحداثةِ في الشعرِ أو الشعرِ في حداثتِه وغِناه المعرفيّ. وعلى سبيل المثال عن هذا النوع من الكتابة، نصٌّ لـ(سليم بركات)، جاء فيه:
“غماليجُ الأثر الفَخْمِ يدحرجون النساءَ الغماليجَ على حافَّة السُّكَّريِّ. بِهم حِرْصُ اللامرئيِّ على إنائه، ووساوسُ النحلِ في بستان المعلوم. يقبِّلون بشفاهٍ صوَرٍ فمَ السَّديمِ؛ بشفاهٍ مراوحَ فمَ اللهب. عُدولٌ في القيامِ بالرَّعاعِ إلى اليقين العصيانِ، وبالدَّهماء إلى المراثي…”
اعتمد الشاعر لغة تختلف عن لغة الكلام اليومي المألوف، وسعى إلى تكوين علاقات مغايرة لعلاقاتها، مستخدماً أسلوباً متميزاً زُجت فيه اللغة في بنى جديدة وتراكيبَ غريبةٍ سعياً إلى خلق ما يمكن أن يسمى باللامعنى للوصول إلى المعنى، أو عدم اكتراث للمعنى ما دامت الغاية هدماً وانزياحاً فحسب، وخرقاً اعتباطياً للأبنية اللغوية المعهودة، لكنه انتهى إلى استخدامِ وحشيّ الكلام مما يَنفِر منه القُرّاءُ لافتقارها إلى بنيةٍ منتظَمةٍ وَفْق قوانين لغويةٍ تـنزاح عن القوانين المألوفة بضروب من الغموض وامتناع المعاني وخرق نواميس المعايير أو الانحراف عنها بهدف تأديةِ وظائفَ دَلاليةٍ، فنية وجمالية أشدَّ تأثيراً في القارئ وأعظمَ قدرةً على نقل التجربة الإنسانية إلى تجربة لغوية تسمى (الشعر). أما إذا كان الخطابُ أسيرَ التعمية والتلغيز على هذا النحو، فإنه لن يكون سوى متتاليةٍ لغويةٍ من مفرداتٍ وجُملٍ وتراكيبَ موغِلةٍ في التعقيد، مُحْكَمَةِ الإغلاق، عديمةِ التجانسِ والفائدة. ومن أمثلة ذلك ما يلي:
“جرّوا ظلالَ التنّوب، والمُرّان، والقِيقب، بكلابيبَ ظِلالٍ إلى المنحَدَرِ، وراءَ المغيبِ المترنِّح في الحَلَبة من نفاقِ الشمس. ملأوا جِرابَ الناموس بخُرْدَةِ الأفق، مطوِّقينَ المدافنَ الجِصِّيَّةَ على الجُرفِ الأعظمِ، حيثُ ينزلق الملاكُ بالكنوز إلى أرَقِ الكنوزِ. أطالوا النظر من برزخ الحسمِ الأكبر، إلى الصدوعِ الأنيقةِ في النبوءاتِ؛ الصدوعِ المهذَّبةِ ببشراها عن نزوح السماء لاجئةً إلى أهوار العصيان، وطووا الوقتَ الزريَّ لِفافةً تحت آباطهم متحقِّقين، في قَضْمِهم كعكةَ المكانِ غيرَ الناضجةِ، أنهم جاءوا بالخسفِ في المدائحِ، وبقضقضاتِ الأغاني مقرورةً في الرَّوعة المُنشِدة بلسانٍ أخرسَ؛ بالجليد الكفيل حيث لا يكفل النهارَ أحدٌ بصَفَنٍ؛ باليقين له نكهةُ البطارخِ على كلِّ شفةٍ؛ بـثُـفْـلِ الحقائق في أقداح الصّورِ.
خُدِع العدمُ بهم.
خُدِعوا مُذْ نُقِشوا نافرةً في اللوح.”
سعى الشاعر في النص السابق وأمثالِه إلى الانعتاق من سلطة المعاييرِ والتراتبيةِ المنطقيةِ والعقليةِ للتراكيبِ والصيغِ التعبيريةِ، لكنه بقي أسيرَ التكلُّفِ الـمُـتَعَمَّدِ واصطناعِ عوالمَ مُنَفِّرةٍ وتعجيزيةٍ استخدمَ فيها تعابيرَ غيرَ مترابطةٍ ومفرداتٍ انتقاها انتقاءً من بطون مُعجَمات فريدةٍ، بهدف إظهار ضَرْبٍ من الغرابة التي جاءت على حساب الأسلوب، حيث خلا هذا الخطاب من أيِّ مؤشر يعكِس موقفاً أو يوحي به، ولم يترجم رؤيا واضحةً، كما لم يحقق وظيفتَه التواصليةَ، ومن ثَمَّ عجزَ عن تحقيق وظيفتِه الجماليةِ في إطار اللغة التعجيزية التي أفقدت النصَّ طاقاتِه الإحاليةَ والدَّلاليةَ، كما أفقدت التعابيرَ طاقاتِها الإيحائيةَ والتأويليةَ، واستسلمت لتشتت كلاميٍّ وعبثٍ عديمِ الجدوى دلالياً ومعرفياً.
إن ممارسة خرقٍ لغويٍّ من هذا النوع لَـهِيَ ممارسة شاذة في الشعر وغيره، لأنه خرق من أجل الخرق فحسب، لا من أجل إعادة البناء التي يُفترَض أن تَعقُب الهدمَ، كما أنه ليس من أجل إعادة إنتاج المعنى التي تعقُب اكتنازَه في أثناء النص. فهذا النوع من الخرق يَعْتَوره غموضٌ شديد وتعقيد لم يحافظ على القيم الفنية والجمالية للانزياح الذي يلجأ إليه الشعراءُ عادةً بهدف خلق صورٍ وأساليبَ تحمل معانيَ جديدةً ورؤيا الشاعرِ وموقفَه. حيث يعني خرقُ اللغة الانتقالَ بها إلى مستوى أرقى مع الاحتفاظ بشيء من المعنى والدلالة للمحافظة على الجمالية المنشودة وبلوغها، لكن تواتر الانزياح وسوءَ توظيفه إضافة إلى التكلّف في الإتيان بغريب اللفظ، كلها سِماتٌ تؤدي إلى خواءٍ دَلاليٍّ عديمِ الفائدةِ بل قد تقدم خطاباً ممسوخاً.
في التجربة الشعرية يُنتهَك النظام اللغوي المألوف، وتُهدَر قوانينُه المعياريةُ شريطة أن يُعاد بناءُ ذلك النظام وَفْقَ قانونٍ يصون الدّلالاتِ التي هي نهاية المطاف في رحلة الرسالة الشعرية اللغوية. وقد كانت بدايةُ هذا النمط المعمّى من الكتابة على يد بعض روّاد الحداثة العربية من أمثال (محمد عفيفي مطر)، (شوقي أبو شقرا)، (يوسف الخال)، (خليل حاوي)، (أدونيس)، (أنسي الحاج) ثم (سليم بركات) في بدايات السبعينيات من القرن العشرين، حيث أغرق في التعمية وانجرَّ وراء اللعبة اللغوية والأسلوبية بصورة جعلت كثيرينَ من قُرّاء نصوصه يَنْفِرون منها ويَعرِضونَ عنها. وعلى سبيل المثال النص التالي:
“الأقْفَال
(مقالة في خواصِّ الظّاهر)
مُهشمةٌ أفرانُ الخَزّافينَ.
مُهَشّمٌ هذا البوق النورانيُّ،
فَلِأيٍّ يستغيثُ قلبُكَ بالأعمدةِ،
وعيناكَ تستغيثان بمنازلِ السَّديمِ وأبوابها الذّهبيّة؟
المعاني مائلةٌ تؤوِّلُـها تأويلَ الماء، لتستقيمَ ضاحكةً في فراغها،
واليأسُ – إسكافيُّك الحَرِدُ يشدُّ بخيطهِ القويِّ مِزَقَكَ التي يتناهشُها المكانُ؛
وعليك ما على الحُمّى من نَقْشٍ؛
عليك قُبَلُ النهايةِ التي غطّيتَها بثيابِكَ كي تَلِدَك النهاية.
ففيمَ ترفعُ اليقينَ البهلولَ على كتفيكَ تحثُّه أن يرى الــمُعْضلةَ هناك، في السُّرادق الكبيرِ للألم، هائجةً تلتهم أحناشَها؟
ظلُّك حزينٌ؛
عظامكَ حزينةٌ.
والرحيل الأكثر مديحاً يمزّق بين يديك أملَ الكلمات، مُنْشَدِهاً بإصغائك إليك كأنك تُعِيْنُه على مديحٍ أخير.
وبإيماءاتٍ مقذوفة كنُوى الكرَزِ تعبر البهوَ ذاتَه، الذي تتقافزُ التصاويرُ من رُخامِه، حيَّةً، تُعيدُ إليك الظلامَ التائهَ، المجلجلَ بخلاخيلهِ الكبيرة على صدْرِ ثورِ نيسانَ، ويُعيدُ الفلكيون نمورَهم إلى الحدائق التي تتبادلُ مكائدَها القمريَّةَ في ندائكَ القَمريِّ.
بإيماءاتٍ كأقدارِ التَّائهِ تُلْهِمُ التماثيلَ التي من جِصٍّ أن تفتحَ الجدارَ لتلمحَ قلبك يُهْدي الظلامَ إلى ألقِهِ؛
الظلامَ المُتْرَفَ،
المُحْيي،
شقيقَ الخُدعة الأكثر كمالاً؛
الظلامَ ذاك، المدقِّقَ في الأرقام الكبيرةِ التي تُوحَى، مختزَلةً، إلى البياضِ العاكفِ بأقلامِه على لوحِ المعماريّين.
لتلمحَ الظلامَ الذي بخيرٍ كالمديةِ يَجُزُّ فِراءَ الكون.”
“الأقْفَال (مقالة في خواصِّ الظّاهر)” عنوانٌ لا يقدم أيَّ إيحاء أو مؤشر يُــعِين القارئ على اختراق الانغلاق الـمُحكم لهذا النصّ/الكائن اللغوي، كما أن القارئ لا يستطيع أن يتوصل إلى فكرة عامة أو خاصة أو دَلالاتٍ ما، من وراء هذا الخطاب الـمُـعَمّى الذي لا يُفهَم المراد منه وقد أغرقَ في الانزياحات لدرجةٍ تُظهِرُ انقطاع العلاقات بين التراكيب في نصٍّ افتقرَ إلى قرائنَ أو مفاتيحَ تُعين القارئ على فكّ تعابيره المبعثرة وانسيابه وراء صيغٍ أسلوبية لا رابطَ يجمعها ولا محتوىً ينبثقُ عن الوحدات الداخلة في بنيته المخلخلةِ دَلالياً.
وبما أن اللغة هي وسيلةُ النصِّ الشعريِّ، فإنَّ أيَّاً من مستويات اللغة ينبغي ألا يكون مُهَمَّشاً بهدف بلوغ الشِّعري، الفني والجمالي فيه، من خلال تلك المستويات، حيث تُدرَك الوظيفةُ الجماليةُ من خلال الوظيفةِ اللغويةِ التي تعكِسُها علاماتُ النصِّ، وحداتُه، علاقاتُه، إحالاتُه الداخليةُ والخارجيةُ، إما إذا افتقرَ إلى المستوى الدَّلاليِّ فإنه سيكون بنيةً لُغَويّةً ناقصةً مبتورةً، وعبارةً عن كلماتٍ وجُمَلٍ مرصوفةٍ بطريقة خاصة، ينتهي القارئ منها خاويَ اليدَين، حيث يُفترَضُ أنْ تستمدَّ الكلماتُ قيمتَها الوظيفية والجمالية من المعاني التي تؤديها ومن خلال السياق الذي ترد فيه، لكن سوء استثمار معطيات الشعور أو اللاشعور والخيال والواقع، بطريقة التعمية يُفقد النصَّ قِيَمَه الدَّلاليةَ، على نحو ما يظهر في النصّ التالي:
“استطرادٌ في سياقٍ مُخْتَزَل
1
إنها البراهينُ الحُمّى،
وأنت تُظلِّلُها بالحبرِ من تَهتُّكِ اليقينِ،
وتُوقِعُ بالكلماتِ لتغفوَ البراهينُ على شِجارها.
لا دِيَكةَ هنا،
لكنها أعرافُ النارِ المتمايلةُ كأعرافِ الدِّيَكَةِ،
والوجودُ المارقُ يروِّعُ السياقَ المكنونَ للظُّهُوْراتْ.
لا بَلاءَ هنا إلا من وَرْدٍ،
لا مِزْراقَ طائشاً إلا مِزراقُ الكونْ؛
والبرقُ زِرايةُ الليلِ بالمكان، ثَمَّ، والمياهُ هُزوٌ،
فما لكَ تتلقَّف المشيئاتِ بشعاعٍ منكوبٍ،
وتُغْدقُ على الألم إيمانَ المساء؟”
ليس في النص السابق عناصر تعتمد عليها القراءة لتسبر أغوارَه وتتمكنَ من استكشاف فكرة أو فِكَرٍ جامعة لتلك السلسلة المتتالية من الجمل والعبارات غير المترابطة، بخرقٍ لغويٍّ لم يُنتجْ دَلالاتٍ مفيدةً تقوم على العلاقة الوثيقة بين الدالِّ والمدلول. وعندما يحيل الدالُّ إلى مدلولٍ لا علاقة له بالسياق الذي وردَ فيه ذلك الدالُّ، أو عندما يتواتر الأمر فإنه يؤدي إلى خَلْقِ فَجْوةٍ بين صورتي العلامة اللغوية (الدالّ والمدلول) في تلك العملية. وبتلك الفجوة ينعدم التواصل ويتراجع الخرقُ اللغويُّ عن وظيفتِه الجماليةِ المتوخاةِ منه، فتخسرُ العلامةُ اللغويةُ قيمتَها التواصليةَ، وتغدو عقيمةً وعشوائيةً، فيخسر النصُّ قيَمَه الشعرية والجَماليةَ، كما يخسرُ قارئَه.
يُنظَر إلى التعمية في نماذجَ من الخطاب الشعري الحديث، على أنها ضرب من الإغراق في تغميض الكلام، والميل به عن وجهه، بهدف كتمان الدلالات والإمعان في ترميزه وتلغيزه، دون توفير القرائنِ الكفيلةِ بإزالة اللبس للكشفِ عن المكنونِ الشعريِّ، وتعرُّف الأبعادِ الجماليةِ، المعرفيةِ والثقافيةِ للنصِّ، من خلال تلك الدَّلالات التي تُغَيَّبُ دونما اعتبارٍ للمتلقي وحاجته إلى بلوغ مرامي الخطابِ المنجَزِ. ومن أمثلة ذلك، نصٌّ لـسليم بركات يقول فيه:
“لَدائِن
(الأكيدُ ذاهلاً)
الفَجْرُ
بِرَاحَتِه-راحةِ المُتبرِّمِ يعتصِرُ الفجرُ الحلّابُ ضرعَ أتانِهِ؛
الفجرُ العضلةُ، العظامُ مُتجاورةً كالخبَّيزِ. الفجرُ المتكتِّمُ على مذبحةِ الدرّاقِ ورِدَّةِ البتولا؛ الصَّدْعُ يتشبَّثُ بحوافه العابرون. أفاويهَ السِّحْرِ إلى فؤوسِ الأثيرِ. الفجرُ الغلاصمُ، والسّبائكُ؛ العَتَلة اللحميَّةُ؛ النَّواةُ مكسورةً في الثمرةِ تلك، المُـكْتَنِزَةِ سَديماً ومغاليقَ. الفجرُ مُبْرَماً بقياسٍ واحدٍ؛ لا يُنْشَرُ ولا يُطوى؛ نزيف الأقدارِ من وريدِ الخفيِّ الماجنِ، الفجرُ الولاءُ؛ المِقبضُ يُدارُ في البوّاباتِ بيدِ الظّنِّ. مُستَدْرَجاً بالشَّفاعةِ الفاكِهةِ إلى الغوايةِ الفاكهةِ، يبشِّرُ القضاءَ بنفاذِ الضرورةِ؛ عُـثْـنونُ التَّيْسِ. الفجرُ العُـثْـنونُ، واللّبَدُ؛ الحلَمةُ والبُظارة؛ القواطعُ المسنونةُ في فم الحيلةِ؛ الشِّجار مستفحِلاً في المراتبِ وعلاماتها..”
يَنتجُ عن مثل هذا العدول عن الكلام العادي والشعريِّ، إساءةُ فَهْمٍ لِما تحمله تلك الرسالةُ اللغويةُ من مضامين، إن كان ثَـمَّةَ مضامينُ، حيث جُرِّدت منظومة الصور والتراكيب والأساليب من دلالاتٍ معينة يجمعها رابطٌ ما، ويؤدي هذا الـمُـنـتَج قلقاً وتعباً لقارئه، ويُضِيعُه في متاهات عبارات خاوية من أيِّ دلالاتٍ ذات فائدة.
في هذا المجال أظهر كثيرٌ من القراء ازدراءَهم لهذا النوع من الكتابة التي لا تستعصي عليهم فحسب، بل تستعصي على المتمرّسين في القراءة، النقد، الدراسة والتحليل الأدبي عامة والشعريّ خاصة، بحيث إذا انتهى أحدُهم من قراءةِ نصٍّ من تلك النصوصِ الـمُـعمّاةِ ثم سُئِل عمّا اكتسبه أو فَهِمَه، لَتَوَقَّفَ حائراً لا يمتلك إجابة مُقنعةً، حتى من وجهة نظر النقد الحديث في معظم مدارسه واتجاهاته ومذاهبه التي أكَّدت على أهمية المستوى الدلالي في الخطاب الشعريِّ وغيره. أما ما تُـنجز من دراسات عن هذه النصوص فتكاد لا تخرج عن إطار المجاملات، المديح أو إطلاق الأحكام العامة التي يمكن أن تنطيق على أيِّ كلام أو نصٍّ آخرَ، أو تكاد تبقى في إطار التنظير النقدي العام، لا تتجاوزه إلى الكشف عن خصوصية النص المدروس، ومفاصل شعريته وجماليته ومواطن قُوَّتِه. جاء في أحد نصوص سليم بركات:
“المعجم
مخالبُ نورٌ، والقنائصُ تتهاوى مرتعشةً من ضربات النِّعمةِ. فلا تَخفْ.
آمنٌ أنت في سريري. رَخْصٌ عضلُكَ. لأعضَّنَّ رسْغَكَ إذ تتَّقي فميَ-فمَ الكيد العذبِ في انبثاقي المهجور جائعاً، أيها الشرُّ.
غدُكَ أمامي، هنا، مرتعداً يعيد إليَّ العظامَ التي نحَتَها الخيرُ نهْشاً بأسنانِ التيهِ. غدُ الخيرِ أمامي، هنا، هائجاً في الحَلَبة التيهِ..”
ثم جاء فيه:
“هُراءٌ صَوابٌ:
لَأُفتِّقنَّ الصوابَ بك في هُمْرُجان الممكنات المُرْتَجَلةِ على باب الفَناءِ. ونازعي، أيها الشر، نازعُ الموعود بمآدبَ تتقاذفُ فيها مغاليقُ الوجودِ بصحون الوجود الملآى هباءاً نيئاً ككبد الثور. بصلُكَ أخضرُ بَعْدُ، عليه شكيمةُ التراب وأنفاسُ المجاهرة الذهبية لأَعيان الأعماقِ. طبعُكَ كتْمانُ المغيبِ لليلِ. سَهْرُكَ عقلٌ. قيامُكَ شَبَعٌ. قعودك شَبَعٌ. كُرّاثكَ ما اجتهدَتِ الحقولُ في تعديله حتى النهاية التائهة في أملِها-أملِ النباتِ…”
بُني النص السابق على عبارات لا انسجام بينها، بل إنه يعكس بنى غيرَ متماسكة، وإحالاتٍ اعتباطيةً لا تفسح مجالاً للفهم أو القراءة السليمة التي من شأنها أن تستجمع جوانب النص لتبلُغ مراميَه ومعانيَه ودلالاتِه، ولا يتسنى للقارئ أن يلتمس الجوانب الجمالية في هذا النص ما دام الكلامُ عصياً على الفهم، ومشتملاً على عناصرَ تعجيزيةٍ تَــحُــولُ بينه وبين نصٍّ افتقرَ إلى شروطٍ كفيلةٍ بإعادة إنتاج المعنى على يد القارئ، لِما توافر فيه من عناصرَ منعتْ من إقامة قناةِ تواصل بين القارئ والنص.
قيامُ الخطابِ الشعريِّ على الدَّلالات، يَفترض قارئاً يعيد إنتاج تلك الدَّلالات، لكن السمةَ المميِّزة لخطاب الشعر المعمّى، هي أنه يخالف سلامةَ النظامِ اللغويِّ، من حيث قابليتُه للفهم، وإحالتُه إلى ذاتِه أو إلى ما هو خارجٌ عنه. كذلك ينبغي ألا يكون الخطابُ الشعريُّ ألفاظاً جوفاءَ خاويةً من الدَّلالات، بل يكونُ رسالةً لغويةً تحمل معانيَ ودَلالاتٍ قابلةً للانتقال من حالة الوجود بالكُمون في النصِّ إلى حالة الانبعاث وإعادة الإنتاج على يد القارئ.
خاتمة
مهما كان الخطاب الشعري خرقاً للقانون اللغوي، أو لعباً بالعلامات اللغوية، فإن الذي يهم القارئ هو توافر القيم المعنوية والدّلالية التي تعكِس البعدَ الجماليَّ لهذا الخطاب الذي تحول إلى عبث وفوضى تذرعت بدعوى اللعب أو دعوى تقويض النظام اللغوي المألوف. فالشعر نظام لغوي متميز عن نظام اللغة اليومية المألوفة، لكن ذلك لا يعني تهميشَ الدلالاتِ أو نفيَها أو إعدامَها، لأن سوء تطبيق قانون هدم اللغة باسم الانزياح ونحوه أدى إلى فوضى تجلت في إعادة بناء اللغة بناء غير قابل للفهم، أو البقاءِ بين أنقاض لغة مهدومة غير قابلة للقراءة والمتعة. ولا تقتصر وظيفة اللغة في النص الشعري على الإخبار فحسب، بل إنها تحقق التواصلَ مع القارئ والانفتاحَ عليه، من خلال نقل المعرفة، وإثارة الذائقة الجمالية، وخلق المتعة، لذلك لا يمكن التقليلُ من أهمية دور القارئ في منح النص قيمةً إضافية من خلال إعادة إنتاجه بالقراءة الفاعلةِ الإبداعية، أما إذا كان النص عَصِيّاً على الفهم في مختلف مستويات القراءة، من أدناها إلى أعلاها، فإن القارئ، في أيِّ مستوى كان، لا يستطيع فكَّ مغاليقِه وتَعرُّفِ دلالاتِه، كما لا يستطيع إدراكَ جماليات نصٍّ لم يفهمْه. فالحداثة الشعرية بحثٌ عن إيحاءات جديدة بطرائق جديدة تَزج اللغةَ في أطر غير مألوفة وتبعثها من جديد، وليست تحليقاً في فضاءات خاوية تؤدي إلى خلق قطيعة بين القارئ والنص، حيث لا يطالَب القارئ بأن يكترث لنص يزيد تعقيدات حياته وذهنه صعوبة، وغوصاً في مجاهيل التعمية التي تجرد الشعرَ من وظيفته التواصلية. بل إن تجريد لغة النص الشعري من وظيفة التواصل يجعل منه كائناً لغوياً مبهماً، مغلقاً، وضوضائياً.
02/02/2019-أربيل