كونى ره ش
كوني مدمناً على المطالعة! الكتب الأدبية والتاريخية وخاصة كتب الرحالة الذين زاروا وطننا, لمعرفة آرائهم وانطباعاتهم حول شعبنا الكوردي والشعوب المجاورة، سواء كانوا مكلفين بمهام خاصة رسمية او سرية. في الايام الاخيرة بينما كنت منهمكاً بقراءة كتاب (مهد البشرية: الحياة في شرق كوردستان) للمؤلفين (دبليو أي ويكرام أدكار تي أي ويكرام )، وهما يرويان قصة زيارتهما الى شرق كوردستان عام 1909م، ويسلطان الضوء على مآسي شعوبها من الكورد والآثوريين وغيرهم، لفت نظري تسليطهما الضوء على عدالة العائلة البارزانية من خلال الشيخ الشهيد (عبد السلام البارزاني/ الذي اعدم في الموصل عام 1914م).
ولأهمية مضمون الزيارة الى بارزان واهمية موقف (شيخ بارزان) الشيخ عبد السلام البارزاني من الكثير من القضايا القومية والدينية والسياسية اخترت مقاطع من كتابهما المذكور، من الصفحة 130-137، حول نضال هذه العائلة العريقة, قبل اكثر من 110 عاماً، ليس في سبيل الدفاع عن الحقوق الكوردية فقط بل في سبيل العدالة والدفاع عن حقوق شعوب المنطقة ايضاً. والكتاب بترجمة جرجيس فتح الله المحامي/ بغداد 1971م.
والمؤلفان أخوان من اسكتلندا، الاول كاهن أنجليكاني. ألف قبل هذا كتابا باسم “تاريخ البيعة الآثورية”، وكان قد عين في العام 1897-1898 عضوا في البعثة التي أرسلها رئيس أساقفة كانتربري إلى آثوري حكاري، حينها جاب كوردستان الشمالية الشرقية وأمّ مدنها الكبيرة وظل فيها أكثر من عشر سنوات.. والثاني “أدكار .تي. أي. ويكرام” مؤلف ورسام، له كتاب “شمال إسبانيا”، زار مع شقيقه شرقي كوردستان لمدة ستة أشهر، وتعاونا معاً على إخراج هذا الكتاب: (مهد البشرية: الحياة في شرق كوردستان). أي كان لهما باع طويل بالمنطقة وشعوبها:
((.. وصلنا قرية (بارزان) وتقع تحت سفح جبل والجبل يحتضنها من جهتين. وهي اكبر من القرى الكردية الاعتيادية. لكنها لا تمتاز عنها بأية ميزة خاصة للتدليل على اهميتها في المنطقة. ان اغلب الشيوخ حتى الاقل من شيوخ بارزان سطوة يعيشون في قلاع ذات منعة، بينما تجد هذا الشيخ “يعيش بين شعبه” وليس قصره الا مجموعة من الاكواخ العادية مندغمه فيما بينها لتؤلف كوخاً واحداً ليس فيه باب خارجي ابداً..
.. وكان تنازلاً عظيماً من رجل عظيم ان يخرج للقائنا على رأس الدرج. ان اغلب الشيوخ البارزين يتعمدون ان يكونوا خارج الغرفة عندما يدخلها الزوار الاوروبيون كيلا ينهضوا في استقبالهم، مؤكدين بذلك تقدمهم عليهم. لكن الشيخ البارزاني كان يدخر لنا تكريماً اسمى من هذا بتنازله لي تناول طعامه معنا وهذا ما اصاب اتباعه بتردد واضح. كيف يمكن ان يأكل قداسته مع اثنين من الكفار (الكاور)؟..
.. “عبد السلام” شيخ بارزان. رجل في مقتبل العمر يناهز الثامنة والعشرين. وهو كمعظم سكان الجبال متوسط القامة ضامر الجسم ممتلئ حيوية ونشاطاً. ذو جه مهيب بشوش. كان يضع على رأسه عمامة بيضاء فوق قلنسوة. ويرتدي صدارا وسروالا بلون ابيض وعليهما جبة سوداء مطرزة بالأحمر وفوق الجميع عباءة خضراء. وتتألف حاشيته من ثلاثين الى اربعين تابعاً مريداً يتميزون بعمائمهم الحمر ذات الاهداب السائبة وكان اكثرهم يحمل مائتي اطلاقة او نحوها من الخرطوش الكروي وبنادقهم التي هي من طراز (شنايدر ومارتيني) كانت قد اسندت واحدة فوق الاخرى على حائط البيلايي. وكان الجميع يظهرون لزعيمهم الشاب اسمى مظاهر الاحترام والطاعة. ولأجل ان نتقدم للقارئ بتفسير دقيق لم نقصده من الاحترام الذي يشعرون به نحوه، علينا ان نذكر انه شخصياً (مزار) أي موطن زيارة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، واوامره التي يلقيها على اتباعه الاقربين تطاع فوراً وتنفذ دون سؤال. وليس ثم غرابة في امر يصدرها بقتلنا بدلاً من استضافتنا لتراه ينفذ فوراً بدون تردد وان كنا اوروبيين..
.. والشيخ في نظر اتباعه ليس مجرد زعيم قبلي كبير، فهم يعتقدون بقداسته الموروثة، ورجال عشيرته هم اتباعه الروحيون (مريدون) وهذه الحقيقة تؤكدها حادثة جرت في وقت سابق على هذا بقليل قصها علينا المار شمعون جاثاليق الاثوريين الذي يتمتع بمكانة مماثلة للشيخ البارزاني بين اتباعه. كان احد الارتال العسكرية يتبع الشيخ، وفي اثناء ذلك قبض على صبي تأخر عن الجماعة الفارين. فطلبوا منه مهددين ان يدلهم على الجهة التي سلكها شيخه، الا ان الصبي كان اصلب من الحديد واجابهم: “اقسم باسم الشيخ اني لن اخبركم”.. كأنه يحلف باسم الله..
.. لا يتكلم الشيخ مع رجاله الا نادراً واذا تكلم مع احدهم هش له وبش وفي كثير من الاحيان ابتسم. ويبدو انهم لا يبادلونه الحديث قط ولا يتكلمون الا اذا سئلوا، اما معنا فقد تحدث بمساعدة ترجمان فهو لا يتكلم غير الكردية وكانت الشؤون السياسية المحلية للريف مدار حديثنا معظم الوقت. وكان يعي فقدان سيادة القانون في كل مكان، وهو في رأيه من سوء حظ المسيحيين والمسلمين واستغرب من عجز بريطانيا وروسيا عن ادخال الاصلاح الى هذه البلاد وتساءل قائلا: لقد ذهبتم الى الهند وبقيتم هناك مع انهم لا يريدونكم. لماذا لا تأتون الى هذه البلاد فأهلها يريدون التعلم منكم. مشاعر كهذه تلمسها بصورة عامة عند كل الشيوخ البارزين ذوي المقام الرفيع. فهم يحترمون أي حكومة صالحة قوية بصرف النظر عن هويتها او مذهب شعبها الديني..
.. بوسعنا اغتفار الكثير في هذه البلاد للشيخ الذي ينهض كقاعدة- بأعباء حفظ الامن والنظام بكل صدق واخلاص ذلك الشيخ الذي يدرك ان السبيل الانفع له هو حماية رعيته لا التضييق عليها وهو ممن يمكن الثقة به في تطبيق “عدالة جدارت” بشكل يؤمن المساواة التامة بين الكردي المسلم والمسيحي على حد سواء، لكننا نخشى ان الموظفين الاتراك على العموم لا يستحسنون منه هذا السلوك.. والاتراك الحزبيون الجدد (جون ترك) يكرهونه لأنه ارستقراطي..
.. كان الشيخ حتى عام 1909 في حرب معلنة مع الحكومة. ولم يكن هو الملوم في هذه الحرب بالذات. والمذنبون الحقيقيون الاساسيون هم الادارة في الموصل. فهؤلاء طمعوا في بعض القرى التي تقع ضمن نفوذ الشيخ. وابى هو ان يفارقها. فما كان منهم الا واختلقوا له تهمة وهي انه يتآمر ضد (الحكومت).. على اية حال فان هذا الاتهام وقع لدى الحكومة موقعاً حسناً، فالقي القبض على اصدقاء للشيخ واودعوا السجن وزحف جيش على منطقته واستولى على قراه واحتلها وسبيت نساؤه الى الموصل..*
.. ولما سمع الشيخ اننا عائدون الى انكلترا بعد اشهر قليلة على الاغلب ابدى استعداده لمرافقتنا (بحاشية كبيرة طبعاً)، لكي يطلب شخصياً من (رئيس اساقفة كانتربري) فتح مدارس في قراه. ثم يقصد الملك جورج بزيارة ويجلس معه للبحث في قضية (كردستان) والبت في امر استقلالها. ولم يكن في وسعنا نحن مع الاسف الشديد ان نؤمله بشيء. لكن اقترحه كان مخلصاً نابعاً من قلبه بلا شائبة..))
*- من الجدير بالذكر ان البارزاني الخالد (ملا مصطفى البارزاني) ذاق مرارة سجن موصل وهو طفل رضيع على صدر امه, بسبب هذه الحملة عام 1909م.
القامشلي 6/11/2019