«استراتيجية المثقف – تكتيك السلطة».. سلاح الكلمة

 جميل إبراهيم
 
يرصد إبراهيم اليوسف في إصداره الجديد “استراتيجية المثقف – تكتيك السلطة” العلاقة بين المثقف والسلطة، ضمن فضاء مرحلة جد خطيرة في تاريخ سورية، بعيد مرحلة الثورة، لتكون معاينته هذه إضاءة تقويمية لواقع وحالة شرائح عدة من المثقفين، كانت لهم مواقف متباينة مما يدور في مهادهم، فمنهم المنخرط في لجة هذا الحدث الاستثنائي، ومنهم المناوىء له، ومنهم الذي لا يبدي أي موقف لهذا السبب او ذاك تجاه ما يدور، ولا فكاك له من سطوته.
كتاب اليوسف هذا صدر مؤخراً عن دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر، وهو يقع في 362 صفحة، تتوزع، كما قسمها المؤلف، على ثلاثة كتب، ومقدمة، وكل كتاب يحتوي على عدة أقسام، يضم الكتاب ما يقرب من 120 عنواناً لمقالات يتألف منها.
عنوان الكتاب – المؤلَف مثير للانتباه وجاذب للاهتمام، يشد القارئ إلى الانكباب على قراءته بنهم شديد، ابتغاءً منه لمعرفة: ما هي استراتيجية المثقف، مم تتكون، وعلام تستند، وإلى ماذا تهدف هذه الاستراتيجية؟ ومن جانب آخر ما هو تكتيك السلطة مقابل هذه الاستراتيجية، كيف تضع السلطة تكتيكها، وبأية أدوات وآليات تمارس السلطة تكتيكها؟، فهذه الأسئلة تشغل بال القارئ للوهلة الأولى، وحال قراءته لعنوان الكتاب، وتثير لديه شغف التعرف والاطلاع، وتستفز فضوله.
“السلطة تعتمد النهج الميكيافيللي في إصرارها على المحافظة على سلطتها والتشبث بها مهما كانت الأساليب والوسائل التي تحقق لها غايتها تلك” في الكتاب الأول (المثقف والسلطة، هوية الكاتب وماهية الكتابة)، يبدو للقارئ، ومن القراءة الأولى، أنه لا تتضمن النصوص والمقالات رسماً لاستراتيجية يمكن أن يتبناها المثقف، فمن جهة يركز المؤلف في هذا الجزء على الكاتب والكتابة، ونادراً ما يعثر المرء في قراءته على صفة المثقف أو الثقافة، ويخيل للقارئ أن المؤلف استبدل المثقف بالكاتب، أو أنه اعتبرهما مرادفين لصفة واحدة، في حين أن المنطق يقول بأنه ليس كل مثقف كاتباً، ولا كل كاتب مثقفاً بالضرورة أو بالحتمية، بينما يفترض أن يكون الكاتب مثقفاً، على العموم، وأن يكون أغلب المثقفين كتاباً، لكن بشيء من التمعن والتمحيص، وبقراءة ما بين السطور، على حد تعبير (شارلوك هولمز)، يتبين لنا أنه يقصدهما بتعبير واحد، لا سيما أنه يحملهما سلاحاً واحداً، إنه سلاح الكلمة، ويضع لهما استراتيجية يستنتجها القارئ من ومضات متموضعة في ثنايا مقالاته، إنه ينطلق في رسم استراتيجية المثقف- الكاتب من مبدأ حتمية انتصار الخير على الشر، مهما طال صراعهما، ومبرزاً سلاح المواجهة الذي ينبغي على المثقف إجادة استعماله، وهوسلاح الكلمة، مركزاً على دور الكلمة في تطور البشرية وصناعة التاريخ، منبهاً إلى أنه: “في انعدام المسافة بين القول والفعل لدى الكاتب أهمية خاصة، فيغدو لكلمته تأثيرها الكبير على متلقيها… ما يدعو الكاتب لأن يكون جد حريص على ردم أية هوة تظهر بين كلمته وممارسته…” ص 53-54.
وفي إطار ذلك، وبناءً عليه، فإنه: “تتطلع الأنظار إلى الكاتب… كي يكون ضمير لحظته، لا يفتأ يرصد آمال وآلام من حوله… يضيء أمامهم الطريق… ينذر نفسه من أجلهم، من دون أي تفكير بالضريبة التي طالما يدفعها في سبيل ذلك…”. ص59 .
 
 
التنوير والتغيير
بعد ذلك ينقل المؤلف، بعنايته المعهودة، الكاتب والكتابة إلى مرحلة أخرى، بل إلى مرتبة أعلى، ليضيف إلى الكتابة والكاتب، كأداة تنوير، صفة أو مهمة التغيير أيضاً، ويصيب بذلك كبد الحقيقة، فالتنوير يفترض فيه أن يمهد للتغيير ويحققه، تغيير واقع مثقل للكواهل، وأوضاع صعبة ومزرية، إلى وضع يجلب الخير والفرج لمن تنوء كواهلهم تحت نير الظلم والاستعباد والقهر، ويحقق لهم حلمهم في غد أفضل، ولهذا يعتبر المؤلف أن: “الكتابة هي جسر الحلم
 
“يقع في 362 صفحة، تتوزع على ثلاثة كتب، ومقدمة، وكل كتاب يحتوي على ما يقرب من 120 مقالاً”
الإنساني صوب تحقيق أحلامه، فقد استطاعت أن تكون أكاديمية الأخلاق والقيم، وناشرة روح التسامح بين سكان العمارة الكونية في مواجهة ما يتم من فتك ودمار وخراب”. ص70.
في الكتاب الثاني المعنون بـ(المثقف والسلطة، ثنائية الخطاب والتزييف)، يستهل المؤلف هذا الجزء بأحد “الشيكات” التي ورثها من والده، على حد تعبيره، شيكات غنية وثمينة لا تستنفد، فيقول: “بادر الناس جميعاً بالتحية، تربحهم، إلا السلطان، لأن في مجرد مصافحتك له خسارة نفسك” ص104. معلناً بذلك دعامة أخرى لاستراتيحية المثقف، وراسماً إطاراً جديداً لها.
في هذا الجزء يعمد المؤلف إلى إطلاق الصفة الأساسية على محور ومرتكز مؤلَفه، وهو المثقف والثقافة، فيتحدث عن خطابه (أي خطاب المثقف)، كوديعة كبرى للأجيال المتتالية، وعن التحديات الكبيرة للمثقف والثقافة، فيقول: “الثقافة عموماً، والإبداع خصوصاً، أمام تحديات جد كبيرة، في مطلعها إعادة التنطع لمهمات جديدة… وذلك عبر الانصراف للاشتغال على إشاعة روح الجمال والانتصار له… حيث أن مرحلة (ما بعد حداثة الحرب) الرازحة على صدورنا… تعيدنا إلى (خط الدفاع الأول) عن خصوصياتنا، بل وعن المواطن الكوني… عن البشر والحضارة والعمران والقيم، كي يتم توظيف الكلمة في لحظة وعيها وإبداعها… لتكون (السلاح الأمضى) في مواجهة (الدمار الشامل)، وهو ما يحتاج استنفاراً واسعاً من قبل كل غيارى العمارة العالمية الواحدة، من أجل مستقبلهم ومستقبل الحياة…”. ص 110.
في خضم معمعان هذه التحديات، يتعرض الخطاب الثقافي إلى محنة كبيرة، وفق استبيان المؤلف، فالتطورات التي تمت في العالم خطيرة، وقد بلغت مستوى الانقلاب على المفاهيم المتداولة من قبل، وأخضعتها لهزات كبرى، أدت إلى هزيمته، ومما لا شك فيه فإن “هزيمة الخطاب الثقافي، وعدم مقدرته على الارتفاع إلى مستوى الأسئلة الكبرى التي نواجهها، وفي التالي، عدم تمكنه من أداء وظيفته، قد جاءت بسبب مراوحة هذا الخطاب، في أخطوطاته ورؤاه، بل وحتى أوهامه التقليدية… في الوقت الذي كان يتطلب منه تجديد روحه… ومعرفة مستلزمات اللحظة المعيشة، عبر معاينة عميقة، واعية، عامة، تتوجه إلى المستقبل، ومن دون القفز على الماضي” ص115.
يسترسل المؤلف في عرض وتعداد مهام المثقف وواجباته الملقاة على عاتقه، في إطار استراتيجيته في مواجهة السلطة أو التسلط، فيؤكد أن “على المثقف أن تبقى روحه هائمة في حب من حوله، ينصرف إلى خدمة أهله بل والعالم كله”. ص118. أي أنه عليه أن يظل متواصلاً مع جمهوره ومجتمعه، وأن لا يسمح بحدوث قطيعة معهم، أو مع بيئته وزمانه، محذراً أن “مثل هذه القطيعة في تفاعل المثقف مع عصره ومحيطه، رتبت ترك العامة تحت رحمة مصادر الإعلام المتنوعة، الرسمية منها وغير الرسمية، وهو ما استفادت منه الأنظمة الاستبدادية إلى وقت طويل…”. ص120.
 
الثقافي والسياسي
في قسم آخر يسميه المؤلف (الثقافي والسياسي)، يتناول المؤلف العلاقة بينهما، معتبراً أن هذه العلاقة غير متكافئة، بل متناقضة أحياناً، على الرغم من أنه يرى أن “مفهوم الثقافة يظل الحاضنة الأكبر التي تضم جوانب المعارف والعلوم والفنون كافة، ومن بينها عالم السياسة…”. ص129.
ثم ينتقل إلى إلقاء بعض الأضواء على العلاقة بين السلطة والمثقف، لتبيان مفهوم هذه العلاقة ثقافياً، لكنه سرعان ما يقع في فخ أحداث ما سمي بانتفاضات الربيع العربي والثورة السورية
 
“هزيمة الخطاب الثقافي جاءت بسبب مراوحة هذا الخطاب، في أخطوطاته ورؤاه، بل وحتى أوهامه التقليدية… في الوقت الذي كان يتطلب منه تجديد روحه”
التي تلتها، ويحاول نقل صورة مؤطرة عن تشابكاتها المعقدة والغامضة أحياناً، دون أن يفلح في ذلك إلى درجة كافية، حسب اعتقادي، لكونه قد اعتمد على ما كان يراه طافياً على سطح المياه، الأمر الذي حجب عنه ما كان يدور في الساحة الواقعة تحت سطح المياه، إن جاز التعبير، مثله في ذلك مثل غالبية المثقفين والكتَاب، وحتى غالبية ممارسي السياسة، ونشطاء المجتمع المدني.
وفي استرساله للحديث عن العلاقة بين المثقف والسياسي، يكاد المؤلف أن ينسى النصف الآخر من عنوان الكتاب، ألا وهو تكتيك السلطة، هذا التكتيك الذي يعرج عليه بين الحين والآخر، مكتفياً بالإشارة إلى أن السلطة تعتمد النهج الميكيافيللي في إصرارها على المحافظة على سلطتها والتشبث بها مهما كانت الأساليب والوسائل التي تحقق لها غايتها تلك، ولعل أبسطها ممارسة الخديعة وزرع ثقافة اليأس لدى مناوئيها، واللجوء إلى الزيف والتبطين وعدم الوضوح والتقنع بأكثر من وجه، وإظهار عكس ما تضمر، واتباع سياسة التخويف والصدمة التي تؤدي إلى الخنوع والاستعباد.
في القسم الأخير من الكتاب، يشن المؤلف هجوماً لاذعاً على أدعياء الكتابة والثقافة، ومرتزقة الكتابة العابرين والكتَاب تحت الطلب، معتيراً أنهم لا يمكن أن يفلحوا في مهماتهم، إلا بعد أن تستكمل شروط انتعاش فيروساتهم المدمرة، داعياً إلى مواجهتهم وإماطة اللثام عن وجوههم المقنعة، وإظهار سوء طواياهم وسمومها، مشيراً إلى أن هؤلاء ما هم إلا شرَ مستطير، وداء فتَاك، من شأنه نسف المنظومة القيمية في مجتمعاتنا، والانقضاض على كل ما هو أصيل وجميل فيها.
ويعود المؤلف ليذكرنا من جديد بأنه في مواجهة السياسي الذي يمتلك السلطة والمال، فإن المثقف يمتلك أداة هي الأكثر قوة وفزعاً من قبل ذلك السياسي، ألا وهي الكلمة، وهي نفسها التي ينبغي أن نواجه بها أولئك الكتَاب المارقين، أذيال السلطة وأتباع ممتلكي قوة السلاح وسطوة المال.
*روائي ومترجم.
————— 
العربي الجديد

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…