قراءة في رواية (لا قمامة في هذه المدينة) لإبراهيم محمود 1/2

د. ولات ح محمد 
  
دأب الباحث والروائي إبراهيم محمود في عدد من مؤلفاته المتنوعة على أن يتناول موضوعاً مهملاً مرمياً على قارعة الطريق لا يلتفت إليه أحد ليضعه تحت المجهر ويقلبه على وجوهه المختلفة، المعروفة منها والمجهولة، الظاهرة منها والخافية، المهمة منها والهامشية ليكون في النهاية بين يدي القارئ موضوع مهم كان قبل هذا الكتاب “لاشيء” أو كان على أحسن تقدير غير منظور إليه من كل تلك الزوايا والوجوه. هذا بالضبط ما يفعله محمود في روايته الأخيرة (لا قمامة في هذه المدينة) الصادرة عن اتحاد الأدباء الكورد، أربيل، 2013. 
موضوعة الرواية 
    تنتشر أكوام القمامة في المدينة وتتراكم وتزداد يوماً إثر آخر في كل شارع وساحة وزاوية وعلى كل رصيف ومفترق طرق وأمام المحلات والبيوت والمؤسسات الحكومية وفي كل مكان إلى أن تصبح مع الأيام حالة معتادة لا يلتفت إليها أحد، فالأنوف قد اعتادت رائحتها والعيون اعتادت رؤيتها، وباتت وكأنها “تعطي صورة حية عن المدينة ذاتها” كما يقول الراوي، وتلك هي النقطة التي تنطلق منها الرواية: “دكو يقرأ في العيون التي يلتقيها في شوارع المدينة، كأنها فقدت حاسة الإبصار، ويعني بذلك عدم تركيزها المطلوب على القمامة، وهي تصدم الناظر، كما لو أن الناس يقرون ضمنيا أن ثمة ما خرج من نطاق سيطرتهم (…)، والأوخم من كل ما تقدم: الشعور بالتنافر، لأن كلاً منهم في المجمل يضخم قمامة سواه”. 
    يسرد الراوي مشاهداته لصور أكوام القمامة المتراكمة والمنتشرة في كل أنحاء مدينته بصورة كثيفة وغير معقولة، دون أن يكلف المعنيون بشؤون المدينة أنفسهم عناء البحث عن سبل للتخلص منها. يكتب الراوي مشاهداته وآراءه حول هذه الحالة غير الطبيعية ليس بوصفها مسألة نظافة وإهمال ومسؤولية، بل يقاربها من خلال رؤية فلسفية معرفية نفسية حضارية تبرزها مواقف شخصيات (أو أسماء) تمثل كل منها جانباً أو موقفاً من مسألة القمامة. 
    الرواية تبدأ باجتماع لا يُعرف من هم عناصره، ولكن يبدو أنه عام يشمل أبناء المدينة بغية مناقشة “حمى” القمامة، ولكن الروائي لا يكتفي بوضع مسألة انتشار القمامة في شوارع البلد تحت الضوء، بل يُدخلها في مختبره البحثي الثقافي ليجعل منها إشكالية ذات أبعاد ثقافية واقتصادية وسياسية وفولكلورية وتراثية ونفسية، حين يأخذها من موقع الهامش المنسي أو المعتاد أو المألوف ليضعها تحت الضوء ويجعلها مسألة مركزية (أو على الأقل هذا ما يطمح إليه) تستدعي التوقف والتمحيص والتدقيق والتفكير في اتجاهات عدة، ليصبح الهامشي عند الناس مركزاً لدى محمود في روايته هذه له تفرعاته الخارجةُ منه وروافده التي تصب فيه. ومن أجل مركزة المسألة سيضع المؤلف على لسان الراوي دكو المهتم بالقمامة عبارات من قبيل:  إذا أردت أن تحدد مدى رقي  مجتمع ما فاسأل عن قمامته ! القمامة هي السر، من القمامة وإليها . سر المجتمع في قمامته”. ويقول: “ قل أين قمامتك، أقل لك من أنت” وكذلك: “ القمامة قضية أخلاق، مبادئ، قيم، جمال، أنظمة تختلف عن بعضها بعضا !” 
    هكذا يجعل مؤلف رواية (أحدهم يتغزل بزوجتي) من القمامة المادية الحقيقية التي تملأ الشوارع مسألة تخص ثقافة مجتمع، وبالتالي مدخلاً للحديث عن الأخلاق والناس والمثقفين والانتهازيين والفاسدين والمتاجرين بأقوات الناس ومشاعرهم من أبناء المدينة، وكذلك عن الواقع السياسي للمدينة ذاتها، وكأنه يريد القول إن القمامة في حضورها الطاغي المؤسف ليست إلا ترجمة فعلية لقمامات أخرى ليست وليدة الظرف الراهن وإنما نتيجة لتراكمات وتراكمات على أكثر من صعيد. 
    بهذه الصورة تضع الرواية مدينة الراوي تحت الضوء في ظل ما شهدته المدن كلها من حالة ثورة أو تمرد أو احتجاج (ثمة إشارة زمنية إلى أن السارد يتحدث عن زمن يكون بعد مرور أكثر من عام على الأحداث في سوريا) أدت إلى فقدان المواد وارتفاع جنوني للأسعار حتى باتت المدينة كلها “سوقاً سوداء” كما يقول الراوي. ولكن ليس هذا ما يميز المدينة، فكل مدن البلاد باتت كذلك وأسوأ، ولكن ما يميزها وما أثار غيرة الراوي على مدينته وكذلك خوفه وأسفه هو “القمامة” التي باتت منتشرة في كل مكان، الأمر الذي يشير إلى واقع قماماتي في أكثر من اتجاه حسب تعبيره ورؤيته للمسألة. 
الشخصيات 
    الرواية لا تقدم شخصيات بمفهومها المتداول، بل أسماء يسند الروائي إلى كل منها صفة أو حكاية أو دوراً يُظهر من خلالها جانباً من الإشكالية المطروحة. ولذلك لن يجد القارئ شخصيات روائية تتمثل أدواراً معينة تدخل بها مع غيرها في علاقات بسيطة أو معقدة تتطور بها أو معها لتشهد نهاية محددة. هذا غير موجود في هذه الرواية. إنها مجموعة أفكار تتمحور حول إشكالية انتشار القمامة ودلالاتها يسندها الروائي إلى أسماء مفترضة لا تحمل في معظمها أي معنى لأنها مجرد تركيب اعتباطي لحروف، منها مثلاً: زيق، نيق، واع، هيهو، ويق، هاها، هاهو، واي، قيقه، أو، بو، س. كما يستخدم أسماء قد يكون لها معنى مقصود في اللغة الكوردية مثل: راب، ربن، نما. 
    تقديم الأسماء بهذه الطريقة العبثية أو الاعتباطية قد يكون وسيلة للتقية، تجنباً لأية مساءلة نتيجة تشابه محتمل بينها وبين مثيلاتها في الواقع، ولكنها في العمق تعبير عن نماذج بشرية أكثر من كونها إشارة إلى أشخاص معينين أو شخصيات ذات خصوصية معينة ومتمايزة. ولأن الأنموذج أكبر وأشمل من أن يمثله اسم واحد محدد ذو معنى، ربما كانت تلك الحروف المطلقة (التي لا تحمل دلالة في ذاتها) أكثر قدرة على حمل تلك النماذج في داخلها؛ فكل مَن أشارت إليه الرواية بأحد تلك الأشكال من الحروف هو في جوهره أنموذج بشري يمثل أعداداً كثيرة من الأشخاص لا يمكن اختصارها تحت اسم واحد. من منظور آخر قد تكون هذه الطريقة في التسمية شكلاً من أشكال “الكذب الكتابي والفني” الضروري الذي سوغه مؤلف الرواية في نهايتها لنفسه على لسان الشخصية (دَر) بوصفه لعبة كتابية معتادة عند الروائيين، كي لا يُتهم (ربما) في روايته هذه بالغموض والتجريد والتهرب من وصف الوقائع بأسمائها كما هي. 
    الراوي والشخصية الأكثر حضوراً في الرواية هو (دِكو) الذي يراقب وضع القمامة ويتأثر بها ويدون مشاهداته وآراءه عنها ويرى أن انتشارها يتجاوز وعيه بها وأنه يستطيع معرفة أخبار البلد وأحوال أهلها من خلال متابعة تطورات شأن القمامة ونوعياتها، إذ يقول: “تستطيع أن تعرف المدينة من خلال قمامتها. يمكنك أن تهتدي إلى مستويات المعيشة لكل حي من خلال نوعية قمامته. أكثر من ذلك، تستطيع أن تقول : قل لي أيّ قمامة لديك، أقل لك من أنت.. “. ينشئ دكو (يسمونه “فيلسوف القمامة”) موقعاً إنترنيتياً تحت اسم “موقع القمامة نت” ينشر فيه صوراً للقمامة ومقالات نقدية عنها فيقوم شخص آخر باسم (هَرور) بإنشاء موقع مضاد للأول تحت اسم (القمّام نت) يمثل وجهة نظر السلطة بقصد إفشال الموقع الأول، إذ يدعو الناس إلى ضبط النفس وممارسة “النقد البناء” فقط، ولكنه من حيث لا يدري يسهم في جعل القمامة في واجهة الموضوعات المثارة في المدينة. 
    من الواضح أن (دكو) يمثل أحد أصوات المؤلف في روايته، ولكن محمود لا ينسى أن يترك مسافة فنية بينه وبين الراوي لتكون المدينة التي تنتشر فيها القمامة هي مدينة الراوي/ الشخصية الشاهد وليست مدينة إبراهيم محمود مؤلف الرواية. ولذلك ولتأكيد هذه المسافة يجعل المؤلفُ الراويَ (دِكو) أولاً يتحدث في غير موضع من الرواية عن إبراهيم محمود المؤلف وكتاباته وعن روايته (لا قمامة في هذه المدينة) التي هو بصدد كتابتها الآن للإيحاء بأنهما (الراوي والمؤلف) صوتان منفصلان. وثانياً يجري المؤلف حواراً بين إبراهيم محمود والشخصية دكو لتأكيد تلك المسافة من جهة وللتعبير عن آرائه وطروحاته بأكثر من صوت من جهة ثانية؛ فإلى جانب دكو يتخذ المؤلف من شخصيتين أخريين هما (هَو) و (هيهوه) صوتين ناطقين باسمه وممثلين لجوانب من سيرته الذاتية بدرجة ما، وكذلك الفتاة (دَر) التي تعترض طريق المؤلف في نهاية الرواية وتخبره بأنها تمثل صورة من صور ذاته الكاتبة. 
    تقدم الرواية إلى جانب الشخصيات السابقة نموذج رجل السلطة الذي يركب سيارة فارهة ويلبس نظارة سوداء ولا يشاهد أكوام القمامة ويحاول قمع الأصوات التي تتحدث عنها. هناك أيضاً نموذج الانتهازي المتلون الزئبقي الذي يغير جلده حسب الظروف والمعطيات، وكذلك نموذج المتسلق الوصولي الذي يستغل الأوضاع ليصعد إلى أعلى بين ليلة وضحاها، ونموذج المرأة اللعوب التي تتاجر بجسدها والمرأة المتعاملة مع السلطة، إضافة إلى نموذج الناقد الذي يكتب عن شاعرة بغية التقرب منها. معظم هذه النماذج عابرة تقدمها الرواية في إطار بحثها عن الجذور الثقافية والاجتماعية والنفسية الفاسدة التي أدت إلى استمراء الناس مشهد القمامة بتلك الصورة المفزعة، وليس بوصفها شخصيات روائية بالمعنى الحقيقي لمفهوم الشخصية الروائية الراسخ. يتبع … 
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…