صبري رسول
وضعْتَ حقائِـبكَ المتعبةَ على مصطبةِ المدخلِ، تنفسْتَ الصعداءَ، خفتَ لهاثُك قليلاً نظرْتَ إلى الأفقِ الرَّماديّ وراءَ سهولِ “ملامرس”(1) حيثُ كلُّ شيءٍ يتلاشَى هناك. فتوغّلتِ المسافاتُ في داخلِك. لم يتغيرْ شيءٌ في هذه القريةِ منذُ رحيلِكَ، فهي تستظلُّ بأشجارِ الحورِ والتُّوِت وتتكئُ على تلةٍ تخبئُ كنزاً من المالِ والحكاياتِ وتميلُ إلى السَّكينةِ والرّكودِ حتى يَخْدُش رقادَها ضجيجُ الصَّيفِ اللاهبِ.
وضعتَ سبابتَكَ على الزِّر الباردِ المسقوفِ جانبَ البابِ ولم تنتظرْ فتحَهَ، بل شرعتَ تفتحُ إحدى الحقائبِ، وقلبْتَ محتوياتِها، أخرجْتَ علبةً فيها شيءٌ من قلبِك وتعبِكَ، ومجسمًا مكسواً بالوبرِ النَّاعمِ، تظنُّ أنّه “بسو”(2) بذاته وأغلقْتَها دونَ ترتيبِ فوضَى محتوياتِها، فالفوضَى تلاحقُكَ أينما كنْتَ، وكثيراً ما تدفعُ فاتورةَ فوضى غيرِك، ويحمِّلونَك ثمنَ أخطائِهم وفوضاهم أكثرَ المراتِ، وورثْتَ من فوضَى قريتِك ما يكفيك طوالَ حياتِكَ. هذه الهدايا لها.
قلتَ ذلك في نفسِك: إنَّني وعدْتُها بالهدايا الثَّمينةِ ،لكن هل ستفرحُ بهذه ؟ وكم يكونُ حجمُ فرحتِها يا تُرى ؟وقلبْتَ المجسمَ بينَ يديك. كانَتْ في عامِها الثَّالث عندَما كنْتَ تعدّها أجملَ لوحةٍ أنجبَتْها صفحةُ أريافِك العذراءُ، وإحدى المفرداتِ الَّتي تشعُّ حياتك الشَّخصية وتردّدُ صدَى البيادرِ الملأى بالأغنياتِ والمسلوبةِ دائِما. أضافَتْ بريقاً خاصاً لأيامِك الباهتة، وغيَّرَتْ روتينَ نومِكَ ويقظتكَ الكالحَ. كلّما كانَتْ «تكاغي» حروفاً أو كلماتٍ مبهمةً كنتَ تشعرُ أنَّ الحياةَ تتكثَّفُ في صوتِها. إنَّها تبتسمُ ورداً ومطراً يغمرُ جسدَ القريةِ، وينعشُ أملَك المصاحب للمستحيلِ في الحياةِ، وتبكي شعراً. تخطَّتْ مرحلةَ الحبوِ بسرعةٍ، وكأنّ مخلوقاتٍ غيرُ مرئيةٍ تمسكُ بها، وتجرُّها في الرَّكضِ والشَّغب، وقلَّبتْ أجواءَك الخاصَّة إلى فوضى لا مثيل لها، تعبثُ بكلِّ شيءٍ، وأصبحْتَ خـادماً مطيعاً لأوامرِها. تعبثُ بأشيائِكَ كمَا يحلو لها، وكلَّما جئْتَ إلى البيت أتَتْكَ معانقةً، تلفُّ عنقَكَ بيدِها الصَّغـيرةِ البضَّة قائلة:
– وينك بابا؟ لا تروح ثاني مرة، أو خـذْني معَك.
– خلاص، لن أخرجَ إلا وأنتِ على كتفِي.
– ولنأخذْ (بسو) معنا، فأنا أحبُّها ولن نجدَ قطةً جميلةً مثلَها، ثمَّ تجرِي وراءَ (بسو) إلى أن تُمسِكها من رقبتِها قائلةً: لن أتركَها. إنَّها وحيدة.
هكذا تجعل من حبِّها لشيءٍ ما، قاعدةً علينا الإلتزامُ بها. كانَتْ (إيفوشكا)(3) تسرقُ جلّ وقتِكَ، تنصحُكَ أكثرَ مما تنصحُها، تعلِّمكَ قواعدَ الحياةِ بطريقتها الخاصة، وبمفهومها لها. طويْتَ عاماً كاملاً في غيابكَ، واكتفيتَ في هذه المدة بالرسائل، تجنبْتَ الاتصالات التليفونية، لأنك ستبكي في سرِّكَ عقب كل اتصال، وتلوذُ إلى البكاء العميق كلّما تذكرتَ أمك، كنتَ لا تترك طرفَ ثوبها طوال النهار، وما زلتَ ذلك الطفل «الـمَرْيـَلي». قلبتَ أسواق الطائف المهجورة كلها، باحثاً عن أشياء لصغيرتك الجميلة، فعيونها الشَّبيه بخريطة الألوان في سهول قريتك جديرة بأن تضحك للشمس، وفيها تكمن الفصول الحزينة لحياة الفلاحين. لكنك لم تعثر على ما يليق بها، ولم تستهوِكَ حركة الألعاب في محلاتها، وكم يلفتُ نظرَكَ أطفالُ المدينة الأصليون، حيث أنك تكنّ لهم ولألعابهم شعوراً ينمّ عن ألفة إنسانية تغذيها غريزة البقاء الإنساني. واخترْتَ من دمشق هذا المجسم الصَّغير وذلك القلب الذهبي الأنيق. إيفوشكا شجرةُ زيتون صغيرة، وهي مشتعلة كدمّك، حروفها تضيء ذاكرة ينابيع القرية، وفي عينيها ينساب جمال مزارعها وسهولها الغارقة في الصمت.
– يااااا أنتَ …ها… ها … صرخة مخنوقة أطلقَتْهَا أختُكَ وهي تفتح لك الباب ثم ألقتْ بنفسها في حضنك، عانقتْك بقوة. اجتمعت العائلة كلّـها. قرأْتَ في ملامحهم الشَّوق الفائض، ولهفةً أجمعَتْ حنينَ الأيام. ما زلـْتَ تحتفظ بالعلبة والمجسم ولم يسألـْكَ أحدٌ ما هذا؟ وقرأْتَ في عيون زوجتِكَ طقساً جديداً من الحياة، طقساً يثيرُ رمادَ الانكساراتِ والزَّمنِ، فأظهرَتْ ابتسامةً لم تكتملْ ملامحُ تكوينِها، فسرعان ما انتحرت أمام نظراتك. سادَ على الجميع صمتٌ جليدي.
– أشْعِلي المدفأةَ يا بنت. طلبَتْ أمُّكَ منهم. تفجَّرَتْ في داخلك قنبلةٌمن الخوف. وصرخْتَ: أينَ إيفوشكا يا أمي؟؟ تفرسْتَ في وجوههم. دمعةٌ ملأى بالغموضِ اختزلَتْ طقسَ المنزل، وانعكسَتْ زوايا قلوبهم، وجـدَتْ طريقَها إلى الانحدار على خـدّ أمكَ. وأخفَـتْ زوجتُكَ وجهَهَا بين كفيها. ولـمْ تتكلّمْ.
——————————-
الطــائــف في … /5/1998 م
(1) ملامرس : قرية شمال شرق سوريا.
(2) بسو: اسم لدلع القطة.
(3) إيفوشكا: اسم دلع لـِ إيفا وهو اسم ابنتي.
============================
هدية إيفا هي القصة الأولى من المجموعة القصصية (وغابَ وجهُهَا) الصادرة في دمشق عن دار التكوين، ط1 عام 2004م