إدريس سالم
يستعين الروائي السوري “مازن عرفة” ببنية سردية قوية وتقنيات روائية عديدة، في أولى رواياته التي نشرها عن دار “التكوين”، كالتعبير بأسلوب ساخر غريب عن التشتت النفسي والوجع الروحي وعوالم داخلية وخارجية، وبفانتازيا مرعبة امتزج من خلالها بين الحياة الواقعية وبين الخيال، وتقطيع الزمن واختلاطه بأزمنة حقيقية وأخرى ما خلف الطبيعة، وأحلام اليقظة وتيارات اللاوعي، التي أوجزت انكسارات الأجيال الستينية ومراراتها.
تنقسم رواية “وصايا الغبار”، الصادرة عام 2011م، إلى تسعة وعشرين فصلاً، كُتبت في (664) صفحة، فهي رواية جريئة بإسقاطاتها الكنائية المجازية، ومثيرة بأبعادها السيكولوجية، إذ كسرت كلّ المحرّمات الوهمية والمقدّسات الهلامية، وتحدّت السلطات التقليدية في الشرق الأوسط، بأفكار مجنونة، ضربت كلّ الحقائق السماوية المتوارثة. رواية لعوبية عبثية فوضوية، تصويرية حضارية عقلانية متحرّرة من القيود الكلاسيكية.
يمسك الكاتب من خلال السارد – الراوي (صاحب الشخصية الرئيسية في الرواية) زمام سرد الأحداث والوقائع والعوالم الماورائيّة والخيالات والاستيهامات، إذ يعود البطل الذي كان قد أنهى الدراسات العليا في سلومانيا حالماً مولّهاً بذات العيون العسلية، فهو موظّف مشرف في المركز الثقافي، يحبّ الموسيقى والمطر، مهووس بالأوهام والكوابيس والخرافات التي أثبت العلم أنها غير موجودة، يتناول الثقافة الاجتماعية بطوائفها ومشاكلها، كان يحاضر عن العوالم الداخلية، وله كتاب بعنوان “أكاديمي من الطراز الأول”، وفي النهاية يدخل إلى مشفى الأمراض العقلية بإرادته، معلّلاً ذلك في أنه عاقل.
الرواية مليئة بالعديد من الشخصيات الإشكالية، وغالبيتها شخصيات فوضوية معقّدة من حيث البناء النفساني والجسماني والروحاني والأخلاقي والجنسي، والتي حاور بها الكاتب في أكثر من فصل وحدث، ابتداءً من شخصية السارد – الراوي، والتي هي شخصية مصابة بانفصام تعدّدي يبعثره إلى عشرات الشخصيات المتناقضة، كلّ منها تنتمي إلى أحد العوالم الغريبة، داخلية – ما ورائية – استيهامية.
في “وصايا الغبار” هناك أكثر من سبعين شخصية، ولكلّ شخصية دور ومهمّة موكّلة إليها، حيث أسقط عليها رمزاً شخصياً، أو ثقافياً أو اجتماعياً، أو سياسياً، شخصيات لها عالمها الداخلي وواقعها المعاش بحوارات وعُقد غرائبية، استطاع مازن عرفة – بذكاء عفوي بسيط – أن يستحضرها ويوظّفها في مجمل ما جاء في الرواية من مواقف سياسية وثقافية ودينية ومجتمعية.
يعطي عرفة أهمية كبيرة للحياة الأدبية وروّادها ومفكّريها، حيث يقول لصديقه في الفصل الثالث من الصفحة (52): “تكتسب الحياة معناها وتجدّدها عندما تدور حول ثالوث مقدّس، الشعر والعشق والنبيذ، وعندما تنتعش أنت بالأمل تستطيع أن تمنحه لمَن حولك”. وفي السياسة هناك ثالوث ورُباع وخُماس… مقدّس، لدى تجّار الحروب ورجالات أجهزة حفظ الاستقرار الوطني، من فوضى المعارك وتشرّد وجوع وقتل واعتقال وفساد.. وإرهاب.
يطالب الكاتب مجتمعات الشرق الأوسط – خاصة الأوساط الثقافية – بأن يتركوا الأحلام الثورية القديمة، أيّ الأفكار والعادات والتقاليد البالية بخرافاتها وأوهامها وتعاويذها، ومواكبة الحداثة والتطوّر، القادران على استرجاع إنسانية الإنسان وكرامته، واستنهاض وضعه الاقتصادي والتربوي والتعليمي والأخلاقي.
يثبت عرفة في فصل “خدوجة البكر”، من خلال قصصها ومواضيعها وشخصياتها، والتفاعلية القوية بين المواضيع والشخصيات من قضايا الإيمان بالخرافات والتعاويذ على أيدي الشيوخ ومريديهم، أن الشيوخ – أصحاب الفتاوي النظرية – هم موجّهون ومدعومون من قبل الأجهزة الأمنية للأنظمة العربية، وذلك لنشر الفوضى والجهل بين الناس، وإعمائهم عن الحقائق والواقع. هؤلاء الرجالات الأمنية الذين اتخذوا من المؤسّسات والدوائر والمراكز الحكومية مزارع واسطبلات وزرائب لأنفسهم وعملائهم، من الشيوخ والجهلاء وأشباه المثقّفين.
فالسكرتيرة “هالة” مثلاً، وهي أفضل مدرّبة في الأعمال السكرتارية، مارست الجنس مع المدير “بهلول” من خلال الوضع الأول – وجهاً لوجه – بشرط توظيف أختها في المؤسّسة، لتمارس معه في الوضعية الثانية – جانباً – بشرط توظيف أخاها، وفي الوضعية الثالثة – احتكاك بالمؤخّرة على الركب – بشرط توظيف ابن عمّتها وخالتها، وهكذا في الوضعية الرابعة والخامسة والسادسة…، وبهلول – الغبي والشاذ – الذي تمنّى لو يوظّف كلّ أبناء قريتها، مقابل حصوله على كل إثارات الأوضاع الجنسية.
إن مَن ينتهي من الرواية فربّما يعتبرها رواية “إيروتيكية – بورنوغرافية سكسية”، إلا أن ما فيها من إسقاطات كنائية أو مجازية كافية لأن نعتبرها رواية بعيدة عن المفهوم الجنسي، إذ يحاول الكاتب من خلال الممارسات الجنسية الشعورية والحسية أن يفتح أبواب الفساد الاجتماعي والثقافي والتربوي والسياسي وحتى الاقتصادية، مجتمعياً ومؤسّساتياً، فالجنس في الرواية هو علاقة الإنسان التشاركية المتبادلة بين ذاته ورغباته، أيّ أنه أراد أن يصل إلى نتيجة مفادها أن غالبية الخلافات العقائدية والدينية والسيكيولوجية قابلة للحلّ أو الانحلال عن طريق الجنس أو المال، وأنه لا ثابت ولا مطلق أمام جبروتهما.
فوصف وطريقة ممارسة الشيخ محمود للجنس مع السيدة سهام كانت محكمة ومحبكة، والأهم إسقاطات تلك العملية ومجازاتها على الحياة الإنسانية للمواطن السوري، وما يلاقيه من السلطة الحاكمة.
جاء في الرواية بفصلها “تالة 1” المعنون في الصفحة (600): “… أين هي الحدود بين الأوهام والوقائع، هل نصطنع نحن البشر أوهاماً ونزيّنها لنهرب من أنفسنا ومن مواجهة الواقع، أم هي الحاجة لإيجاد معنى لأفعالنا وتصرّفاتنا ولو من خلال الاستيهام؟”. أتساءل هنا هل السلطات الحاكمة في الشرق الأوسط تعمل عبر مراكز دراسات استخباراتية خاصة على خلق حياة وهمية لشعوبها من أجل أن تبقى هذه الشعوب بعيدة عن الوقائع الحقيقية والمرّة؟
يعاتب مازن عرفة في “وصايا الغبار” على الوصف الطاغي والسرد الكثيف والحشو المكتنز في فصول عديدة، مثل (سهام – المُذرة – بهلول – البدوي)، والانتقالات الحوارية والفصلية المفاجئة والسريعة، من موضوع إلى آخر بفجائية معقّدة، ومن فكرة إلى أخرى بفوضى منظّمة، وكأنه يلعب بالرواية وقارئها.
ختاماً، من حقّنا أن نسأل بعضاً ممّا في دهاليز الرواية من استفسارات وإسقاطات، منها، مَن هو المنقذ الأمريكي الذكي؟ ما الجدلية والفكرة المراد إيصالهما للقارئ من خلال شخصية “أبو رعد” الغبية وشخصية “السيد لؤي” الذكية؟ الشيخ حسني والشيخة حسنية مَن يمثلها واقعياً؟ ما المقصود بالآنسة المقدّسة المباركة؟ لِم استخدم الكاتب عبارة “الشيوخ الأفاضل” عند استقبال “بهلول” الوفد الديني في مكتبه وهو مَن يعرّيهم ويفضحهم في الرواية؟ ما الكنايات التي قصدها في رجل الصحراء؟ “الحاج خليل” كسّر كل زجاجات الخمر، ثم اللبن، والحليب والعصير باستثناء “الكوكا كولا” لماذا؟ ماذا يريد أن يقول عبر هذا المشهد الدراماتيكي؟ والكثير من الأسئلة الفوضوية المعقّدة والعميقة.