زهرة أحمد
استيقظت الأم نازي قبل أن تدفئ الشمس صباحاتها الباردة، خبأت أحلامها تحت وسادتها المبللة بدموع الشوق، وتحت أجنحة الفجر، نفضت عن نفسها الأحزان لتكون قادرة على الاستمرارية بالرغم من طقوس الألم.
بدأت الأم يومها الربيعي بترتيب أبجدية حديقتها المنزلية، الكبيرة بمساحتها، المزدانة بأشجار الزيتون والفواكه، قبل أن تبدأ عملها برسم ألوان الحب، تقف أمام إحدى أشجار الزيتون، تحضن رونقها وتقبلها بكل شوق. إنها الشجرة التي زرعها زوجها يوم ولادة ابنها آريان لتحمل اسمه وعطر أنفاسه.
مع كل إشراقة للصباح، تمسح عن أوراقها الغبار، تحضن عبق ذكريات ابنها، تنفث أشواقها مبتهجة بطفولته الجميلة. تحكي لها تفاصيل سيرتها اليومية، وكأنها مع ابنها في جو من الألفة والمحبة قل نظيرهما، فخياله لم يغب عن أنظارها. نبضات قلبه بقيت خالدة في روحها.
حالما تنتهي من معانقة شجرة آريان، تبدأ بالعمل في الحديقة التي دونت تاريخ عائلتها، لم تشك يوماً من التعب الكبير الذي يبذله جسمها الضعيف، المنهك من الهموم، للحفاظ على رونق حديقتها، من الزمن الأغبر وسلاسل غدره.
وفاة زوجها ضاعف من آلامها، فرض عليها وحدة مميتة تأكل من بقايا روحها، وزاد من أعبائها اليومية التي تتطلب عناية مميزة بكل تفاصيلها. توفي زوجها منذ ثلاثة أشهر إثر نوبة قلبية وهو يستقبل إشراقة العام الجديد، ليترك زوجته نازي حزينة تغزل خيوط الوحدة والألم، لكنها شامخة كجياي كورمينج، صامدة كقريتها ” نازا “*، لا تعرف الاستسلام بالرغم من تاريخ المآسي، خطوط جبينها تاريخ من التحدي من أجل البقاء.
لم تهرم عزيمتها بالرغم من سنوات اليأس، تتجدد أشواقها مع الشمس، وتشتد مع سواد الليل. بدأت بقايا الفرح تتبرعم في قلب الأم، لأنها ستحضن رائحة ابنها قريباً، أخبرها آريان بعزمه على زيارة قريته نازا في شهر آذار ليحتفل مع أمه بعيد النوروز القومي، لذلك بدأت الأم بترتيب طقوس عالم الربيع لتستقبل ابنها الوحيد.
آريان ربيع دائم لوالديه، ذكرى ميلاده أصبح عيدهما، في اليوم نفسه الذي زرع خلاله الأب شجرة الزيتون في حديقة بيته لتكون شاهدة على ولادة دام انتظارها خمس عشرة سنة.
تعلم من والديه حب الأرض، تعلقه بشجرته تزداد قوة حتى في بلاد الغربة، يسقيها بيديه الصغيرتين لتكبر معه وتزداد شموخاً.
ترك آريان نبض روحه في عفرين، بعد إلحاح من والديه للدراسة في بريطانيا، ليحقق حلمهما. أنفاس عفرين لازمت روحه، لم ينس ذكرياته المتأصلة برونق الزيتون. ابتسامة أمه أضاءت سواد أيامه، حبه لوالديه أدفأ روحه في ليالي الاغتراب الباردة. كان وفياً لوعده، جهد كثيراً ليتفوق في دراسته كما وعد والديه، زواجه من صديقته العفرينية آفرين، المقيمة في بريطانيا، كان بداية فرحة أبدية لوالديه.
حدث وفاة والده كان صاعقة أحرقت قلبه ألماً، كم تمنى رؤيته وتقبيل يديه المتشققتين، بهما رسم مستقبلاً مشرقا لابنه، مات وعيناه مفتوحتان تنتظران غائباً لم ترياه منذ عشر سنوات.
رحيل والده الأبدي أيقظ في روحه لوعة الشوق والخوف على أمه، فقرر زيارتهما، كما زيارة قبر والده.
الأم وأشجار الزيتون، قصة تاريخ ممتد بجذوره المتأصلة في روحها، وذكرياتها كانت العزاء الوحيد من وابل الأحزان، والمظلة التي حمت بقية أنفاسها، حافظت على وجودها من الاندثار.
آثرت البقاء في بقعة أرض تراها قلب لها، ينبض شوقاً وذكريات خالدة، تتنفس عبق أنفاسها بأمل، يتجدد حباً، لتعانق غائباً قد يعود قريباً.
بالرغم من آلة القتل المستمرة في عفرين، وعواصف القصف المدفعي الشرس التي لم تتوان في تدمير قرى عفرين، إلا أن الأم وبكل جرأة تحمي حديقتها من رائحة البارود والتدمير الجنوني، تنظف أوراق الزيتون من غبار القصف.
كل شبر من الحديقة ينبض بالزنبق والأمل والبقاء، بعد أن قاومت الزوال في رحلتها الشتوية لتبدو أنيقة متأصلة بآمال وآلام آذار.
يقين الأم بأن كل جغرافيا التشرد لن تكون حنونة عليها كحضن نازا. تلك القابعة في روحها بكل تفاصيل الحياة، الممتدة لشجرة عائلة تأصلت بجذورها في” شرا” العفرينية، جعلتها تتشبث بالأرض والشجر.
دوي المدافع شوه هدوء الزيتون. القصف الهمجي الحاقد لوث جمال قرى عفرين، والخطر أصبح أكثر قربا ًمن الأم نازي التي بقيت شامخة كعادتها، فضلت البقاء في ظل أشجارها على أن تتشرد في العراء وتفترش البؤس في أحضان المعاناة اللامتناهية بفصولها، فضلت الموت في بيتها بين أشواقها وعالمها الجميل، الشيء الوحيد الذي كان يقلقها هو كيف ستنتهي هذه الزوبعة المجنونة، ليتمكن ابنها من زيارتها.
نازا “Naza” ، القرية العفرينية الجميلة، عروسة آذار الشامخة، زينتها وعطر جمالها فاقت أدخنة الحرب الحاقدة، تعشقها الأم بكل تفاصيلها، لا تستطيع أن تتنفس إلا من هوائها.
كغيرها من قرى عفرين أصابتها فوضى ملوثة بحرب عوجاء، تحاول بعبثية استعادة سواد أيام عثمانية، عفَّى عليها الزمن، صراع بين أدوات القتل وملوثاتها البارودية وبين ربيع آذار العفريني في نازا، ﻹثبات الوجود في معادلات الطبيعة من أجل البقاء.
كان يوماً تاريخياً، كتب بسطور من الدم والدموع في تاريخ نازا، استيقظت الأم نازي قبل الفجر، حيث العصافير لا زالت في حضن أعشاشها، في ذلك اليوم الربيعي المندى برائحة الأزهار. اقتربت من شجرة آريان، ونظرات عينيها تخفي أسرار أشواقها التي تخطت حدود نفسها، تشع نوراً بلقاء قد يكون قريباً، وهي لا تزال تقص لها حكايات طفولة آريان العذبة.
وفجأة !!!
اهتزت الحديقة بكل تفاصيلها، إثر سقوط قذيفة غادرة، حرقت أشجارها، هدمت أعشاشها، وأصيبت شظاياها قلب الأم لتسقط على الأرض غارقة بدمائها، زحفت الأم بصعوبة وهي جريحة، مدماة، حتى احتضنت شجرة آريان، استنشقت رائحتها الأخيرة ثم ألقت نظرة عميقة على بقايا حديقة تئن ألماً، أسقطت دمعتين حنونتين، لتعانق روحها رفعة السماء، وبقيت عيناها مفتوحتين تنتظر غائبا خلف جغرافيا الأفق لم يكتب لهما اللقاء الموعود.
آريان لم يتمكن من دفن أمه، لم يرسم على جبينها قبلة الوداع ولم يتمكن من أن يستنشق أنفاسها الأخيرة، أصبح صعباً عليه زيارة قريته نازا، واحتضان ذكرياته في بيته، لأنه استوطن من قبل غرباء المكان واللغة عنوة. مسلحون همجيون، غزاة، بلحى طويلة لا ينتمون إلى أرض عفرين، ويجهلون بركة أشجارها، وتراثها التاريخي، غيروا عنوان البيت وألوانه الربيعية، حرقوا حتى زيتونها،
لكن؟؟
بيته لا يزال ينبض برائحة أمه وابتسامة أبيه المشرقة، وذكرياتهما الجميلة مع تراتيل الصباح على أوراق شجرته الحزينة في حضن نازا، ولا تزال دماء أمه تفوح عطراً على بتلات الأزهار وتلون أوراق الزيتون، وروحها تحوم حول البيت تنتظر غائبا قد يُوفي بوعده .
لا تزال نازا تزرف دموع الشوق، وتنتظر بشغف عودة أبنائها.
……………………………………………………….
2018/3/31
* نازا : إحدى قرى عفرين التابعة لناحية شرا