برور متيني – فيينا
يحلق عالياً في فضاء العالم. متعدد الهويات والإبداعات، يشكل صورة مرهفة للإنسان المعاصر، بأصالته الكوردية نحو انفتاح إنساني جعل منه شخصاً ينتمي إلى العالم برمته، وظف «رفو» انتماءاته وإبداعاته المتعددة لتصنع منه إنساناً عالمياً في أسمى تجلياته، بين أنقاض الأزل وتراث يختزله في كينونته، يتخطى «رفو» الأسلاك الشائكة للمفاهيم التقليدية لهوية الإنسان من حيث الانتماء القومي، منفرداً ومتفرّداً بنفسه، يحمل في دواخله هموم شعوب العالم مرافقة لهموم شعبه كإنسان ينتمي للبشرية جمعاء. كوردي المنبت والهوية، عراقي النشأة والانتماء، نمساوي الجنسية، أما المواطنة الشرفية من مدينة «شفشاون» بالمغرب عام 2018 فكانت انتماءً مضاعفاً لشخصيته الفريدة، تتوج بها لما يكنه من عشق لهذه المدينة التي دأب على زيارتها منذ سنين بعد أن مست شغاف قلبه عبر رحلاته المتكررة لها.
كانت قرية الشيخ حسن في جبال كوردستان العراق على موعد مع ولادة «بدل رفو» في 1 أغسطس من عام 1960م، حين قذقته والدته من أحشائها ككل الكورد الذين يولدون وعلى جبينهم وصمة وطن ضائع. درس الابتدائية والثانوية في مدينة الموصل ثم تخرج من قسم اللغة الروسية كلية الآداب من جامعة بغداد عام 1985م، أولى نتاجاته في الساحة الثقافية بدأت في الموصل عبر نشره في جريدة «الحدباء» نهاية السبعينات، واكب صحافة العاصمة بغداد باللغتين العربية والكوردية في صحف عديدة، ثم عمل مراسلاً صحفياً لصحيفة «بزاف» في الموصل، منتصف الثمانيات، قبل أن تتقاذفه حمم الحروب والمآسي في العراق إلى خلف البحار عابراً حوض المتوسط حيث الغرب الفسيح الرطب.
عام 1991 كما كل غالبية الكورد الذين تناثروا كالشرر في أصقاع المعمورة إبان الحملات الاستبدادية التي شنها النظام العراقي البائد على المدن والقرى الكوردية في الشمال، انكب «رفو» على وجهه يهجو وطناً مدمراً، استقبلته النمسا، ليحط رحاله فيها متسولاً وطناً جديداً، فكانت النمسا نقطة ارتكازه ليبدأ رحلاته في المجلات الإبداعية أكثر، إسهاماته الإبداعية لا تقل عن انتماءاته وهوياته ثراء، متنقلاً أرجاء المعمورة، من الهند إلى مصر، المكسيك، المغرب، كازخستان، سوريا، فرنسا، اليونان، الجزائر، كرواتيا، إيطاليا وبلدان أخرى. يتقفى «رفو» أثر الإبداع الإنساني في قيافي المعمورة بين الشعر، الترجمة، الصحافة، الكتابة، أدب الرحلات، والترحال، يقدم لنا إبداعاته الدسمة كي ننهمها وننهل من رهافة حسه الإنساني النبيل.
«رفو» شاهد عيان ينقل لنا اضطرابات العالم ودهشة الأمكنة، يدفعنا نحو الدياجر المظلمة مرة، وتارة يضفي النور على فسحات الأمل، يلوح لنا خلف ستارة مسرح الحياة صارخاً من أعماقه بصوت مشحون بالكمال، إنه هناك يتجرع كؤوس الخيبة، يكابد السنين الغابرة، يطرز أحلامه اليباب، يقترب من سلالم الخلود في لحظات البكاء، يبحث عن الخلاص في رموز سبارتكوس وصهيل طروادة، صوره الشعرية استهلال لسحر الواقع تنبع من دوافع الحزن والانفعال التدريجي المؤلم، انكسارات حادة وتحولات عنيفة في حدود العواطف المكدرة، ظلال الهزيمة الآدمية.
يلتقط بدل رفو الحالات الشعرية ليخرج الصور من جواهرها الضمنية التي تلمح مواقع الشطط بحيث يرجع المعنى الحقيقي إلى صوابه السليم تاركاً التأويل لذوي البصائر لإدراك إيحاءاته الغنية، يفسح مساحة كافية لانسيابية الرؤية لدى القارئ، صوره الشعرية رديفة للمعاصرة تختزن جمالية كامنة في روح القارئ قبل الشاعر يؤسس من خلالها بنية جديدة للمضمون عبر رؤيته الخاصة للأمكنة والأشياء والوقائع.
يكتب «عصمت شاهين الدوسكي» في كتابه «سندباد القصيدة الكوردية» عن دار الزمان للنشر: «تختلف المعالجة الشعرية للواقع في ناحية مهمة عن باقي الآداب الأخرى نظراً لأن القصيدة تحمل نظريات ورؤى تحليلية مباشرة أو ضمنية ووسائل نفسية واعية، فقصائد بدل رفو تحمل أهمية إنسانية عامة؛ لأن مضمونها يحمل معنى أكبر لإبداعات ذهنية وإن كانت غريبة أو لاعقلانية، فإن نظرية التحليل والمعالجة الشعرية تدعم هذه العوالم، فالدلالات الرمزية الواقعية القابلة للإثبات تكون صحيحة ومقبولة وترتكز على الواقعية الثابتة، فإخراج الصور الشعرية من منبع الوعي عملية إعادة للتجارب الخاصة ببدل رفو، لكن بمعان ومضامين عدة، حيث يعتمد بدل على تجارب بصرية يعيشها كما هي، وينطلق من خلالها إلى عوالم صادقة يبغي من ورائها إرساله رسالة للعالم عن الرغبة والغربة التي عاشها بإحساسه المرهف على سبيل المثال لا الحصر في قصيدته (أنا ووطني غريبان)».
يحلم بدل رفو، لطالما كان الحلم ظل لا يفارق الشعراء، ثم يراود ضالة أحلامه الباذخة، متوقداً في إحساسه تجاه أحلامه، فيرتد صدى أحلامه أضغاثاً متلاطمة، يكدح في معاناة الحلم حد التماهي، يلبس أحلامه المحمومة جبة الحياة، بمذاق الانتشاء في حلم مؤجل، آهات شاعر يبحث عن وطن في خريف العمر، لا بلاد كبيرة تحتضن فؤاده المدمى، لا وطن يتنازل عن ريحه لشاعر مهاجر، يكتب لعالم لا يكترث بمعاني الإنسان قصيدته:
حلمت بأزمنة تمقت
ظل الجبال قائمة
وتهوى امتطاء سرج الرزيلة
حلمت بجموع متراصة
بعضهم يعانق رغيف الخبز
والآخر يقبل الردى
لأجل ابتسامة الوطن
وآخرون على موائد القمار
وبصوت جهوري
عاش الوطن بالروح بالدم.
قصائده تجسد جوانب من حياته الخاصة حيث تقوده الجهات في حله وترحاله بين البلدان والشعوب، انعكاساً لمشاهداته اليومية، وبما أنه مواظب على السفر وسبر أغوار المدن وعجائب البلدان والتعرف على شعوبها، فيكتب حين يجتاحه إلهام الشعر بلكزة، يكتب عن الوطن البديل بوصفه نقطة، فالنقطة خاتمة قصص عشقه على مذابح العصر في خريف الاغتراب، يتعلم من أطفال الهند, يستلهم رقصة الزمان في صقلية، فيكتب عما كان بينه وبين الوطن، من صوامع تاريخ مشتت ومزاد مشاعر تائه، مرثية الشاعر اليوناني «يانيسريتسوس» حاضرة في شعبه، يعاتب المنافي في عيون مهاجر مع غرانيق «رسول حمزاتوف» الشاعر الداغستاني ورقصة زوربا، تأخذه أشجانه إلى ذكريات طفولته في جبال الشيخ حسن (مسقط رأسه في إقليم كوردستان العراق)، فيصفها بإمبراطورية الروح المهاجرة معه في تلافيف فؤاده.
يدخل أعماق البحر في قصيدته المعنونة بحر، يصافح بحر إيجه مذكراً إياه بربابنة الحكايات وأبناء وطنه ممن غرقوا في حتفهم نحو الخلاص، لا تنتهي قصيدته عند إيجة وأمواجه العاتية، بل يزيد على البحر في إيطاليا راقصاً على رماله حين تخامره لحظة عشق، يتابع بهذيانه في لحظة جنون إذ يصب جام غضبه وعنفوانه في قصيدة اللعنة، مبتدئاً بإرسال سلامه الشاعري:
سلام لجواد ينقش بحوافره عالماً من خيال
سلام لاسم ولقب لا إقامة لهما
سلام لعمق بحر إيجه الغادر
بحر إيجه (ابن الزانية)
يعانق التحام أرواح ميتة
في أساطيل الفاشيست
سلام وسلامي لعنة
سلام لشعراء يلبسون قصائدهم (الميني روك).
يكتب المناجاة في لحظات بكائه على هيئة قصيدة تنتشله من وحشة العزلة، يسابق السراب بحثاً عن حضن دافئ يقيه من زمهرير شتاءاته الباردة حين تتكسر الأزمنة في رأسه، يدخل حانة هارباً من أرقه، فإذا بفاتنة حسناء نادلة تطل عليه بابتسامة، فيكتب قصيدة باسمها (تراودا)، بقدها الباني المليح ترقص على جرح نازف لشرقي شريد، هكذا يصفها بأجمل من الجمال مستعيراً الجملة من صديقه الشاعر جلال زنكابادي.
يقتنص بدل رفو الفرصة كل مرة ليكتب قصائده على حين غفلة، فالشعر يأخذ حيزاً من وجدانه وخياله الحالم، إذ لا يكتفي بالتلاوة فقط، يتراشقه الكتاب والنقاد بوابل من الألقاب، فالكل يلبسه بردة حسبما يتفق، فمنهم من وصفه بالباز، السندباد، النسر، النورس، الشاعر الشفاف، وآخرون يصفونه بالأديب المنسي على رفوف الزمن، أو سفير الأدب الكوردي في المهجر، حاملاً لواء ثقافة شعبه بين دفات فؤاده، ينثرها في كل مكان.
عمله الموسوعي (انطولوجيا شعراء النمسا)، عن دار الزمان للطباعة والنشر عام 2008م الصادر باللغتين العربية والكوردية يفتح الآفاق أمام القارئ العربي والكوردي؛ للتعرف على شعراء النمسا، فلما كانت الانطولوجيا مبحثاً فلسفياً للوجود يسعى لتقديم نظرية منهجية في زمن الفلاسفة اليونانيين، لدراسة الأصناف الأساسية والخصائص العامة للوجود, كسياق لتشييد برهان عقلي على حقائق الوحي, استقى «رفو» العنوان لعمله وصاغه كتحفة فنية فريدة تحتفي به المكتبات العربية والكوردية، فالعمل يلخص تجربة أكثر من سبعين شاعر نمساوي وشاعرة بينهم أسماء نخصها بالذكر: (جورج تراكل، الفريدة يلينك الحاصلة على جائزة نوبل للآداب، أنغبورغباخمان وآخرون).
لا يسعفنا الكلام في حصيهم، اجتهد وثابر «رفو» بتفانٍ كي يخرج العمل إلى الضوء، وضاعف من جهوده فكان حصيلة ذلك بأنأغنى مساحات القارئ العربي والكوردي، فما كان من الحكومة النمساوية إلا أن تثمن جهده أيما ثناء، واعتبرت العمل هدية لا تقدر بثمن، وتعبيراً عن شكرها وامتنانها له بهذا الإنجاز قامت (أي الحكومة النمساوية) بتوزيع الكتاب في جميع سفارات الدول العربية في النمسا وجميع سفارات النمسا في الدول العربية، تحتفي به اليوم الحكومة النمساوية حيث لقبته (صقر من كوردستان)، تلا «رفو» عمله الثمين هزاً بعمل آخر أسماه «رقصة الشعر» عن دار الزمان عام 2017م، أما على صعيد إسهاماته في الأدب العربي فما كان منه بادئ ذي بدء بأن ترجم قصائد كوردية قدمها على شكل انطولوجيا شعراء بهدينان عام 1989م عن وزارة الثقافة والإعلام, حيث ترجمها إلى اللغة العربية بعنوان (ومضات جبلية من الشعر الكوردي المعاصر)، ثم ألحقه بكتاب مترجم لقصائد كوردية عنونها «أغنية الباز».
ساهم «رفو» في ترجمة الأعمال الكوردية إلى اللغة العربية؛ كي يتسنى للقارئ العربي الاطلاع على الشعر الكوردي, فوظف في ذلك دوافع الأمانة بأن تتم الترجمة بحرفية ومهنية ليتجنب تشوه النصوص, فالمهمة الأخلاقية الموكلة على عاتق المترجم تنأى الجبال بحملها.
شرع «رفو» في الترجمة آخذاً على عاتقه مسؤولية الحفاظ على النصوص؛ كي لا يقع في أفخاخ الترجمة وتفقد النصوص جماليتها, فكما نعلم أن المترجم يكمن أداءه الإبداعي خلف الكواليس ما يجعله عرضة في أن يكون بمعزل عن الأضواء. ذهبت الكاتبة والروائية الفلسطينية إلى أبعد ما قد يقال في وصفه حين كتبت: «صديقنا بدل رفو، عاشق للكينونة، قناص ماهر للجمال، باحث دؤوب عن كل شيء جديد يمكن أن يدونه أو يخطه، فهو بمثابة الإنسان المسؤول الذي يحمل راية إحياء المعلومة، مغرم بالكلمة والحياة، عرف كيف يترجل في كنف الفكرة الجميلة، حريص أشد الحرص على انتشار الأدب الكوردي إلى أبعد الحدود».
لم يكن ذلك حدثاً عرضياً بل حدثاً استثنائياً في تاريخ العراق برمته حين تم تكريم بدل رفو باحتفال شعبي كبير من قبل المثقفين والكتاب من أبناء شعبه، إذ يعتبر المهرجان الذي أقيم لتكريمه الأول من نوعه في أكتوبر عام 2010 بجامعة دهوك في إقليم كوردستان العراق بعد أكثر من ثلاثة عقود ونيف من خدماته الجلية لرسالة الأدب، شاعراً وقاصاً وصحفياً، ومترجماً…
يعيش بدل «رفو» حالياً في مدينة «غراتس» بالنمسا، غير آبه بتقلبات الزمان، لا يترجل عن صهوة قلمه، يواصل الليل والنهار في الترجمة والشعر، إضافة إلى رحلاته نحو بلدان العالم، لا تنضب كلماته وحكاياته مع الشعوب التي يقيم بينها حين يحمل حقيبته متوجهاً نحو شعب ما. عشرات المؤلفات والترجمات من اللغات، الألمانية، الكوردية، العربية، كانت حصيلة تفانيه في حمل لواء الثقافة والأدب والشعر والترجمة، مؤخراً صدر له كتاب (العالم بعيون كوردية)، يعتبر خلاصة تجربته في الرحلات.
المراجع:
– أطفال الهند علموني (قصائد وشهادات من الأدب الكوردي في المهجر) بالعربية – دار الزمان السورية – دمشق 2018م.
– بدل رفو… سندباد القصيدة الكوردية في المهجر، للناقد عصمت شاهين الدوسكي – دار الزمان السورية – دمشق عام 2018م.
– قصائد حب نمساوية باللغة العربية، ترجمة عن الألمانية – دار الزمان السورية – دمشق 2010م.
– انطولوجيا شعراء النمسا باللغة العربية، ترجمة عن الألمانية – دار الزمان السورية – دمشق 2008م.
– رقصة الشعر (قصائد من النمسا)، ترجمة عن الألمانية بالعربية – دار الزمان السورية – دمشق 2017م.