السنبلة والعاشق

 محمود سعيد عيسى*  
الولادة: 
قبل عدة آلاف من السنين في أعالي نهري دجلة والفرات تكمن الإنسان لأول مرة من زراعة القمح، ربما كان أول من وضع حبة قمح في باطن الأرض حكيما محبا للخير، أو ربما أبا حريصًا على أسرته، أو ربما ناسكًا يبحث عن سر الوجود، لكنه بالتأكيد كان عاشقًا، زرع الحبة فنمت مع حبات المطر، وارتفعت مع الأيام كخصلة فتاة عاشقة تتحمل مزاج محبوبها المتقلب (الريح) فتارة تتهادى وهو يداعبها بحنو، وأخرى تنحني صابرة أمام غضبه في شفقة وأمل، ثم يأتي العاشق الذي زرعها أول مرة فصنع من السنبلة طحينًا، ولما خالطها بالماء الذي هو أصل الحياة صارت عجينًا تنتظر أن يُبعث فيها الروح، في التنور ينظر الجمرُ إلى الرغيف  بشوقٍ مرسلاً حرارة قلبه الأحمر، ثم ما تلبث أن تمتد يد العاشق الذي زرعها (الفلاح)، لتغدو رغيف خبز شكلته عناصر الكون ورغبة الحياة، رغيف خبز يحيي الجوعى ويسعد الضيفان. 
القداسة: 
رويدًا رويدًا وعبر آلاف السنين يصبح الرغيفُ الغذاءَ الرئيسي لإنسان هذه الأرض بل إن جملة (أكلت الخبز) كثيرًا ما تستخدم في اللغة الكردية بدل جملة (تناولت الفطور) أو (تناولت الغداء). وعبر آلاف السنين غدت حبة القمح في وجدان الكردي رمزا للحياة والبعث والخير والنماء، واكتست السنبلة بالمهابة والقداسة، فحتى في أشرس المعارك لم يجرؤ أحد أن ينتهك طهر السنبلة، وإذا وُجِدت قطعةُ خبزٍ ملقاةٍ سهوًا فالعُرفُ أن يقبّلها أولُ من يراها، نعم يقبّلُها بخشوعٍ ثم إمّا يأكلها بعد أن يمسحَ عنها ما لحقها من أذى وإهانة، وإمّا يضعها في مكان عالٍ يستحق مجدَها. في أيام الحصاد ظل الفلاحون طوال قرون وقرون ينشدون أغاني مليئةً بالحبّ والشوق يترنمون بها بإيقاعاتٍ موزونةٍ كأنهم يتغزلون بالسنبلةِ ليخففوا عنها وطءَ المنجل وهو يفصلها عن أمها الأرض. ظلت للسنبلة وتجلياتها من خبز أو سليق أو برغل أو فريك قداسةٌ ومهابةٌ حتى في سنوات الخير حيث تطفح الجزيرة بالقمح والخير. 

الخلود: 
حبة قمح واحدة تنبت عشرات السنابل، وفي كل سنبلة عشرات الحبوب، وهذه تنبت مئات السنابل فآلاف السنابل فملايين، ملايين السنابل وملايين العشاق لن تستطيع تلك المحارق والحرائق أن تنهيهم أو تفنيهم.    
*كاتب وباحث   
 البريد الإلكتروني :mahmoudhallo@gmail.com  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…