إبراهيم محمود
سأكتب هنا ما هو مختلف عن رحيل مَن كنت أعرفه عن قرب، ومن كان بيننا أكثر مما يمكن لأحدنا أن يكتب عن الآخر، أو يتحدث إليه، وثمة مسافة فاصلة، سأكتب عن فناننا الكردي، عن محمد صالح موسى، وأمام ناظري رفيقة دربه آمال ” أم نالين “، ورحيله في ” 5-2/ 2024″
منذ أيام وأنا أعيش هاجس الموت بشكل أستشعره مجسماَ، بأبعاد مختلفة، صار الموت هو أن تفكر في الآخر، لتشعر أنك حي، وتفكر في نفسك، لتشعر أن هناك ما يتهددك موتاً. الموت ليس شيئاً محدداً منفصلاً عن سواه، ليس كياناً بعينه، كائناً بذاته، إنما كل ما يؤدي به إلى الاختفاء أو الزوال. لهذا يكون كبيراً وخطيراً ويأتي من الجهات كافة. الموت هو أن فلاناً مات، وحتى ما يخص سواه، حين نقول: نفق الحيوان، أو نضب الماء، أو ذبل النبات.. هي ميتات أولاً وأخيراً.
قبل أيام كتبت عن مناسبة عزيزين رحلا وهما: محمد سيد حسين ورفيقة دربه، ثم البارحة عن رحيل دايكا ردة حسين دوشى” ولأفاجأ أن فناننا موسى توفي في اليوم نفسه نهاراً، كما سمعت.
ما يجعل الموت أكثر قابلية للنظر في غرائبه وتصاريفه، هو ما يحدث إمكان كيفية التعامل معه، ليكون له وقْع مختلف، مع كل حالة من حالاته، كما لو أننا إزاء موت واحد، وموت لا يحاط به.
ما يضفي على رحيل/ وفاة الفنان محمد صالح قيمة مختلفة، أي فنية تماماً، هو ما كان ينشغل به، وما كان يعيشه على صعيد الإبداع اللوني، كان يعيش تاريخه لونياً، ويحلم بتاريخ ينبض داخل لوحاته، وله رصيد معتبَر من هذا الرأسمال الفني الذي يحمل بصمته بريشته اللافتة.
سنوات عشناها معاً، حين كنا ندرّس في معهد إعداد المعلمين” قامشلو”، نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ونصف تسعينياته، وفي هذا المعمعان التعليمي، التدريسي، التربوي، والثقافي الآثر، تثاقفنا كثيراً، حيث كان كل من اللون والكلمة يتمازجان، ويثريان أحاديثنا، وفي بيته، في بيتي كنا نلتقي أحياناً، وكان اللون بتبعاته وموضوعاته، وإثراءاته المكانية ورموزه، يفتح الزمن أمامنا.
كان الهدوء والابتسامة، وتلك الحركة التي تجلو أضمومة أصابعه” الإبهام، السبابة والوسطى ” وهو يتحدث، ويموّج يده، تعبيراً عن علاقة الفنان العميقة مع كيانه، مع روحه، وثقته بنفسه.
الحرارة التي كانت تعرَف بها لوحاته تترجم انتماءه إلى عالمه، ونوعية صلاته به، كما لو أنه يقول: أتريدون أن تعرفوا ما أنا عليه، وما أكون عليه داخلاً، أقيموا صِلات مع ألواني.
كان هناك ما يتعدى حدود الاحتراف فيما كان يرسم، وفي مرسمه كان محمد صالح موسى الآخر بالنسبة إلى نفسه، كما لو أنه ليس هو الذي يعرَف باسمه العادي، كان يسعى إلى أن يقول باللون، وبلسان الريشة ومرادفاتها، وعبر المرسم: النص المشدَّد على أهميته، ما يدفع به لأن يبقي أفق الرؤية وذائقتها الجمالية مفتوحاً، على أكثر من شرفة روحية كان يعاين عالمَه، حتى ولوحته تحمل إطاراً، كانت العين تمعن النظر فيها، وكأنها إجراء لا بد منه، بينما هي فمتعدية للإطار.
ما هو جميل، ما يبعث على المتعة الروحية، متعة اللوحة كنص لوني، متعة الرؤية التي تنصب على مكونات اللوحة، إنشاءات المعنى المرفق والكامن، وتجليات البصيرة بالمقابل، وما يبقي الروح في وضعية اليقظة، في أن الجميل ليس المرئي المباشر، إنما التالي عليه، وهكذا، وأن الرائع ليس الجاري تأكيده لونياً، إنما المنشود، وأن محمد صالح نفسه، ليس الذي يجاور، أو يقابل، أو يصغي، إنما الذي سيأتي بذاكرة لونية أخرى غداً وبعد غداً..
الظروف لها سلطتها.. وهكذا باعدت المسافة بيننا، والأوضاع الصعبة أطرت فينا عوالم كثيرة، وإن كان أحدنا يعلم أن هناك من يهم أمره في مكان ما، على بعد رمية حجر نفسياً.
حل في الإمارات، وحللت حيث أنا هنا وهناك، والمكان تشظى، والزمان نفسه لم يبق على حاله. سوى أن الرقعة الجغرافية التي ضمتنا لسنوات” معهد إعداد المعلمين ” بقيت محتفظة بمأثرة ما كان، وما عُرِف به كل منا من خلال الآخر، وما عاد في الإمكان أن نلتقي في زيارات خاطفة..
وحين سمعت برحيله فجأة، شعرت لكم هو الموت ماكر، وشامت، ولا يتبع سوى قانونه المتوقف عليه، ولا يستأذن أحداً، أو يعطي رخصة ولو ثانية ليقول ما يريده في الثانية الأخيرة من عمره..
لم يعد لي هنا، وأنا أحاط بخيالات الموت، أشباحه، مفارقاته، إلا أن أبث عزائي لعائلته، لأفراد عائلته ، لأحبته، وأعيش ولو لحظات في حِداد، صامتاً، اعترافاً بأن الموت هو ألا تكون كما تريد أن تكون، هو الآخر الذي يعنيك أمره، وفي كل ما يعنيك أمره يعلِمك أنك هكذا بالنسبة إليه، حيث في كل واقعة موت يموت شطر منك، أو بعض شطر، حتى لا يعود من أثر، باستثناء اسم ما فقط