د. ولات محمد
إشارة: في المقدمة السابقة وضحت كل ما يتعلق بالأسباب والظروف التي دفعتني لإجراء هذا الحوار مع الفنان الراحل سعيد يوسف في ذلك الوقت، ولكنني أود أن أشير هنا إلى بعض النقاط الأخرى:
1ـ هذا كامل نص الحوار الذي أرسلته إلى جريدة “الناس” الكويتية عام 2004 ولكن الجريدة لأسباب تتعلق بحجم الحوار أو لأسباب أخرى خاصة بها لم تنشره كاملاً. وأنا هنا أنشر نص الحوار كما هو بمناسبة الذكرى السنوية الرابعة لرحيل الفنان القدير سعيد يوسف الذي لطالما أسعد الناس وأطربهم ولا يزال…
2ـ قسم من الأسئلة التي طرحتها في هذا الحوار كنت قد حضرتها مسبقاً، ولكن أغلبها جاءت بناء على إجابات الفنان نفسه. أما الفنان سعيد يوسف فكل إجاباته جاءت دون تحضير مسبق لها لأنني لم أكن قد أعلمته بالأسئلة الخاصة بذلك الحوار.
3ـ بسبب طول الحوار واحتراماً لوقت القارئ فضلت نشره في جزأين. وهذا هو الجزء الأول منه:
بدأ الفنان سعيد يوسف العزف على آلة البزق منذ ستة وثلاثين عاماً، جاب خلالها معظم البلدان الأوربية وأقام فيها حفلات ونال جوائز تقديرية متنوعة، وقام كذلك بزيارة إلى دولة الإمارات وأقام فيها حفلاً فنياً. يعزف يوسف على أكثر من آلة موسيقية ويرى أن البزق لم ينتشر في العالم العربي كما ينبغي. يكن تقديراً خاصاً لأمير البزق محمد عبد الكريم، ولا يرى أن هناك الآن من العازفين من يروي ظمأه. ألّف كتاباً عن آلة البزق وكل ما يتعلق بها، ويرى أنه لم ينل حظه من الانتشار. عن آلة البزق وتاريخها وعن رحلته الشخصية معها وعن أهم ميزاتها وعازفيها حدثنا سعيد يوسف في الحوار الآتي:
< خارج بلاد الشام كثيراً ما ألتقي بأناس متخصصين في الموسيقى وأتفاجأ بأنهم لا يعرفون آلة البزق أو يكادون. لماذا برأيك؟
<< هذا صحيح، رغم أنها آلية آسيوية شرقية قديمة صنعتها الشعوب التي كانت تقطن المنطقة الممتدة من بحيرة وان (شرق تركيا) إلى شمال العراق. أما في المناطق العربية فانتشارها أقل بكثير ويكاد عامة الناس لا يعرفونها. أما من يشتغل على الموسيقى فيعرفها جيداً، علماً بأنها في السنوات الأخيرة بدأت تنتشر في كل أنحاء العالم العربية.
< هل تحدثنا عن طبيعة آلة البزق؟
<< هي صورة متطورة عن آلة الطنبورة التي كانوا يصنعونها من شجر الجوز أو التوت أو البلوط، لها قصعة أصغر من قصعة العود وذراع أطول، وعلى الذراع تتوزع الدوستات أو الداستات أو الداستانات التي تشكل العلامات الموسيقية لهذه الآلة، إضافة إلى المفاتيح التي تأتي في نهاية الذراع ووظيفتها شد الأوتار وضبطها.
< وهل للآلة أسماء أخرى؟
<< آلة الطنبورة (التي انبثقت عنها آلة البزق) لها تسميات عدة، وذلك حسب الشعوب التي تعزف عليها؛ ففي الهند يسمونها “سيتار”، وفي إيران يسمونها “تار”، وفي تركيا يسمونها “ساز”، ونحن الكورد نسميها “الطنبورة”. أما آلة البزق نفسها فليس لها سوى هذا الاسم.
< هل هذه التسميات كلها لآلة واحدة؟
<< الأسماء التي ذكرتُها تكون لآلات متشابهة بنسبة 95%، ولا تختلف إلا قليلاً في الشكل الخارجي.
< إذن، ما الفرق بيت البزق والطنبورة ما عدا الشكل؟
<< في البداية صنعوا الطنبورة وعلى ذراعها أوكتاف واحد، أي سلّم موسيقي (دو، ري، مي…) كامل، ثم طوروها إلى أوكتاف ونصف. أما البزق فهي آلة أكثر تكاملاً، إذ تحتوي على أوكتافين كاملين، وهي بالتالي تلبي حاجة الملحن (والعازف عموماً) أكثر من الطنبورة. ونتيجة لهذا الفرق كانت على ذراع الطنبورة في البداية من 11 إلى 13 دستاناً، أما الآن فيتراوح عدد الدستانات ما بين 21 و 25، أما البزق فتحتوي على 33 دستاناً.
< هل هناك فرق بين الآلتين من حيث الصوت والعزف؟
<< نعم، فآلة البزق تتميز بشيء من القساوة والعنف، بينما تبدو الطنبورة أكثر هدوءاً ورزانة، كما أن ريشة البزق أقسى وأسرع من ريشة الطنبورة.
< ولكن هناك فرق واضح بين آلة البزق وآلة العود. أليس كذلك؟
<< العود آلة لها خصوصيتها وطقوسها الخاصة، أما البزق فيمكن أن تعزف عليها للصغار والكبار، إنها آلة مرحة تحب المرح والرقص. من حيث الصوت، العود صوتها رخيم، أما البزق فتتميز بالرقة والعذوبة. الفرق بينهما كالفرق بين صوت رجل مسن وصوت شاب يافع.
< دعنا نرجع إلى بدايات سعيد يوسف مع آلة البزق.. متى بدأت؟ وكيف؟ ممن تعلمت وبمن تأثرت؟
<< البيئة التي نشأت فيها كانت مليئة بمن يعزفون على البزق أو الطنبورة، وكنت على احتكاك دائم بهم، فأحببت الآلة وقررت أن أشتري واحدة. في تلك الفترة كنت أستمع إلى معزوفات على البزق والطنبورة من الإذاعة لفنانين مرموقين من أمثال محمد عبد الكريم ومحمد عارف جزراوي، فكنت أتمنى أن أصبح مثلهم. في أواخر 1966 (وأنا من مواليد 1946) ألححت على والدي كي يشتري لي طنبورة فاشتراها لي بـ 16 ليرة سورية آنذاك، وبعد سنة ونصف استطعت أن أنال إعجاب من كانوا يستمعون إلى عزفي. وخلال سنتين كنت أحيي حفلات الأعراس، وبعدها بمدة قصيرة ذهبت إلى بيروت وأحييت هناك حفلات وسجلت أسطوانة. ومنذ ذلك الوقت (36 سنة) والآلة تلازمني ولا أفارقها في حلي وترحالي.
< إذن، لا بد أن تكون بينكما علاقة روحية أيضاً..
<< أنا أعزف على آلات عدة (البزق، العود، الكمان، الجنبش، الطنبورة)، لكن البزق هي الآلة الوحيدة التي عندما أسألها شيئاً فإنها تلبي طلبي، وهي التي تناديني لأداعب أوتارها، وهي التي عندما أعزف عليها أنسى العالم.
< هل هناك من العازفين الآن من يعزفون بشكل جيد على الآلة؟
<< بالأمس القريب ومنذ سنوات رحل فنان كبير له الفضل على كل من عزف ويعزف وسيعزف على آلة البزق، أعني الفنان محمد عبد الكريم رحمه الله. لقد كان بارعاً بهلواناً، وهو الذي جعلنا نعرف آلة البزق على حقيقتها. كذلك كان لي صديق في لبنان اسمه محمد مطر، رحل منذ خمس سنوات وكان عازفاً رائعاً. أما الآن فليس هناك من يروي ظمئي ويثلج صدري.
< ولكن هناك من يدعي أنه عازف البزق الأول والأخير وأنه لولاه لما عرف الجمهور العربي آلة البزق.
<< من تقصد؟
< عازف سوري… وقد قال ذلك في مقابلة مع صحيفة كويتية. وقد سجلت عندي بعضاً مما قال، إذ يقول مثلاً وبالحرف:
ـ تعرفت إلى البزق بعد تخرجي من كلية الشرطة.
ـ في نهاية اليوم الثالث من حصولي على آلة البزق بدأت أعزف.
ـ بعد أسبوعين من العزف كنت أقيم حفلة تخرج في الجامعة.
ـ ارتبط اسم آلة البزق باسمي.
<< (يضحك) في الحقيقة هذه أمور غريبة، فمَن يستطيع بعد ثلاثة أيام من معرفة آلة موسيقية أن يعزف عليها؟! ومن يستطيع بعد أسبوعين من العزف أن يقيم حفلة؟! أما مسألة الارتباط (بين اسمه وآلة البزق) فلم يرتبط اسم البزق إلا باسم المرحوم محمد عبد الكريم، ومن ثم باسم سعيد يوسف، ومن المخجل أن يتحدث شخص يعتبر نفسه فناناً عن البزق ولا يذكر محمد عبد الكريم الذي ألف معزوفة رقصة الشيطان، وهو أمير البزق دون منازع كما تعلم.
< هل يحب سعيد يوسف الألقاب؟
<< الصراحة، لا أحب الألقاب؛ فكلمات مثل الأستاذ الكبير أو “عازف البزق الأول” أسمعها كثيراً ولكنني لا أحبها. أنا تكفيني نظرات الإعجاب في عيون المستمعين واستمتاعهم بما أقدم…
يتبعه الجزء الثاني