الطريق إلى آذار «إلى صديق الكلمة والموقف والمسار: إبراهيم يوسف ».

إبراهيم محمود

تمهَّل يا آذار
أنا في حيرة من أمري، إزاء أمرك أكثر من أي شهر شمسي آخر لا يخفي مقابله القمري. ربما قلة قليلة يدركون أي نوع من الشهور تكون، بأي نوعية لونية تكون، وماذا تكون، وإلى أين تكون، وأي اسم فعلي مرفَق بك، وماالذي تخفيه، وبكم لغة تتكلم، لنتعلم قواعد تصريفها معك؟!
لا أدري وككردي، ما إذا كان علي أن أستقبلك بوردة حمراء، وثمة الدم الكردي الساخن أنى اتجهت وأمعنت النظر، وشددت في الشم، لتستشعر رائحته الفصيحة بعلامتها الفارقة؟ كما لو أنني بذلك أنسى أو أتناسى كيف يساق الدم الكردي الزلال خارج نطاق عمله الفعلي هنا وهناك.
أم بوردة صفراء، اعترافاً بكآبة وجرح غائر، وهزيمة مشدودة بسواها؟ كما لو أنني لا أرى سوى مآس، وفواجع، وما في ذلك من نكران لمعروف الدم الكردي المجدّ، والقلب الكردي المشدود إلى جغرافيته وتاريخه، إلى لغته، وشعبه، إلى كل ذرة تراب، وقمة تلة، هضبة، وجبل لديه…
أم بباقة ورد كاملة، وكأني لست كأنّي، وجرحك البليغ والقراص والموجع يتلبسني في كامل كياني الجسدي، وروحي التي تعرَف بتاريخها الطويل من الاستماتة من أجل صوت مغاير لها؟
أي شهر تكون؟ أي تعريف يليق بك؟ وفيك لائحة تترى من التشابكات أفراحاً وأتراحاً، من أول ثانية دخولاً في حمَاك، وآخر ثانية في حمّاك، يا حصاد ” 31 يوماً ” بتصادمات لياليه ونهاراته، بعويله، وابتهاجه، بضحكه، وحزنه، بطلاقة وجهه وانقباض أساريره.
يا ابن أب غابر في الزمان بروزنامته الكردية المعتادة والمتوارثة، بمراسه الصعب، وهواجسه، وما أكثرها، ذكراً خلاف أي ذكر، في ملابسات نجابته، قيامات وانخسافات ومتابعات.
يا ابن أم لم تخف يوماً صراخ مخاضاتها على مدار حقبها الزمنية، قبل رؤية حرف ألفبائها الأول منقوشاً أو محفوراً في صخرة جلية، أو مسطوراً في أثر ما، أو متهجّى بلسان دقيق.
يا ابنة والدين حار الزمان في تقدير عمريهما، وفيك التكاثر، وفيك التناثر، وفيك التنافر، وفيك التضافر، فأي القول أصلح في معناك ومسراك، وقد صيّرت أنثى جرّاء ولاداتك رغم تعاقب المآسي، وكلكلة الجسد، والنوائب وصروفها، ورحمك لا زال يعمل بطاقته الكاملة؟
كيف لي أن أصوغك وأنت أكبر من لغتي، ووجعي الذي يتلبسني، كأي كردي، أكبر من أي لغة معتبَرة لي بقديمها وحديثها ومعاصرها، أكثر من أي دعوى بقاء، والمخاوف متناسلة، والآلام متواصلة، وما يعاش داخلي وحولي، لعله أكبر من وجعي الذي تلبَّس علي فهمه صراحة.
في أي طريق يجدر بي النظر إليك، إلى جهتك، وما أكثرها الجهات التي تتناظر وتتضاد.
ما أكثر الطرق التي أراك فيها، وبي اضطراب جهة النطق بالأوفى والأدق باسمك:
في طريق، لا أرى سوى قافلة يتعالى فيها صراخ الثكالى، عويل النساء، صرخات الأطفال، ذهول الرجال، حيث السير في غاية الصعوبة والمخاطر المحدقة خارج الحصر .
في طريق، وما أطوله وأرحبه، وثمة قافلة ولا أظل منها، وهي تشيع شهداءها ، وفي كل يوم مقبرة جديدة، أي أرض تكون قادرة على احتضان هذا الرفد المتنامي من أجساد الشهداء؟ وأي رقعة جغرافية قادرة على مواساة الضحايا، وأي جهة قادرة على طمأنة الباقين أن ليس هناك ما يستدعي الخوف، أن الآتي يبشّر بالخير لأمة منشودة، ومنكودة: أمة الكرد..؟
في طريق لا أصعب منه سلوكاً، ولا أكثر منه فخاخاً .
في طريق ينفتح طرقاً ومنحدرات وحفراً، حيث يتحرك فيها أعداء بلغات شتى، كما لو أن الخطر على الحياة مكمنه حيث يسكن الكردي، أو يتنفس الكردي، أو يعمل الكردي ويتكلم ؟؟؟
في أي طريق أستطيع النظر، وقياس المسافة التي تعلِمني أن هناك بداية لجرح كردي شامل] ونهاية لوجع كردي شامل، وترقب مناداة الكردي باسمه الكردي ومكانه وزمانه الكرديين؟
أنى نظرت وأبحرت بذاكرتي، ثمة ما يبعث الرعدة في الروح، وأتمالك نفسي، لعلي أصل ما بين هذه المسافات الشاسعة والرهيبة بين الجهات التي تعرف الكردي حق المعرفة بدمه وفمه، بامتداد أيامك: ثانية ثانية، وأَوْجزها:
أفي الطريق إلى مهاباد وجراحاتها الدامية التي لوَّنت أفق تاريخها بالأحمر القاني؟
أفي الطريق إلى حلبجه، ويا لمأساة حلبجة ذات الدمغة الصاعدة بوقْعها الأليم؟
أفي الطريق إلى آمد، ويا لوقائع آلامها والطعان في كيانها ، والنزف ساري المفعول؟
أفي الطريق إلى قامشلو، وثمة صعوبة في الرؤية، إنما وضوح ملحوظ لجراحات الكرد، وضحاياهم، ومكابداتهم، ولاأدرية ما سيكون عليه غدهم ؟
أفي الوصل بين طريق وآخر، وفي الكرد ما يزعزع نبض الكردي في قلبه، وما يجهد روح الكردي في أسّها، وما يبقي الكردي إزاء الكردي في ” حيص بيص ” من نوع خاص ؟
أفي الفصل بين الكردي وعدوه، وثمة ما يقلق الناظر، حيث الحساب القطعي غير الهندسة التي تكشف خفي الدائر بتاريخه الطويل، والحدود المرسومة خارج سياقها المعتقدية بالضبط ؟؟
أفي أي نبرة، في أي إيقاع صوت، في أي محيا وجه، في أي خفق قلب، في أي أسلوب، يمكنني أن ألتقيك، أو تلتقيني، أو نلتقي، ونكون أقدر على الفهم والتفاهم، ونستمر في الحياة، لتكون، كأي شهر، رغم ميزته، لأكون أقدر على ضبط نفسي، وبي من العمر، مثل ما بك من المواجع كثرةً!؟
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عِصْمَتْ شَاهِينَ الدُّوسَكِي

أعْتَذِرُ

لِمَنْ وَضَعَ الطَّعَامَ أَمَامَ أَبِي

أَكَلَ وَابْتَسَمَ وَشَكَرَ رَبِّي

أَعْتَذِرُ

لِمَنْ قَدَّمَ الْخُبْزَ

لِأُمِّي وَطَرَقَ بَابِي

لِمَنْ سَأَلَ عَنِّي

كَيْفَ كَانَ يَوْمِي وَمَا…

ماهين شيخاني

هناك لحظات في حياة الإنسان يشعر فيها وكأنّه يسير على خيط رفيع مشدود بين الحياة واللاجدوى. في مثل هذه اللحظات، لا نبحث عن إجابات نهائية بقدر ما نبحث عن انعكاس صادق يعيد إلينا شيئاً من ملامحنا الداخلية. بالنسبة لي، وجدتُ ذلك الانعكاس في كتابات الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو (1913-1960).

ليس كامو مجرد فيلسوف عبثي…

فراس حج محمد| فلسطين

المقدمة

تُمثّل رواية “ميثاق النساء” للروائية والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ، الصادرة في طبعتها الأولى عن دار الآداب عام 2023، إضافة نوعية في المشهد الثقافي العربي المعاصر. لقد نجحت الكاتبة في تقديم عمل أدبي عميق يتجاوز كونه سرداً فنياً ليلامس قضايا اجتماعية ونفسية حساسة، خاصة في مجتمع يتسم بالخصوصية والانغلاق مثل المجتمع الدرزي في…

فواز عبدي

إلى أخي آزاد؛ سيد العبث الجميل

في مدينة قامشلو، تلك المدينة التي يحل فيها الغبار ضيفاً دائم الإقامة، وحيث الحمير تعرف مواعيد الصلاة أكثر من بعض البشر، وبدأت الهواتف المحمولة بالزحف إلى المدينة، بعد أن كانت تُعامل ككائنات فضائية تحتاج إلى تأشيرة دخول، قرر آزاد، المعروف بين أصدقائه بالمزاج الشقي، أن يعبث قليلاً ويترك بصمة…