إبراهيم محمود
إخراج قيد تأريخي
صار بالإمكان إطلاق لقب” بوتانيات ” على جملة الدراسات والأبحاث والمقالات ذات التوجهات المختلفة، التي تجعل من ” بوتان ” الإمارة الكردية في نطاق ” الإمبراطورية العثمانية ” محوراً لها، نظراً لأهميتها من النواحي كافة، رغم أن كلمة ” كافة ” لا تعني التساوي بين هذه الأسباب والمسببات العائدة إلى ذلك الاستئثار ” البوتاني “، إنما هو التباين النظري والعملي والذي يحرّك إرادة البحث أكثر، وانطلاقاً من موقع موضوع الدراسة طبعاً: تاريخياً وجغرافياً، كفضاء زماني ومكاني، وما في واعية الدارس من دافع معزّز للدراسة أكثر من غيره، يكون الأكثر قابلية، من وجهة نظره إلى وضْعه في الواجهة، ولتكون دوافع أخرى لها إسهاماتها في شرعنة ذلك الدافع بوصفه الأكثر أهمية من سواه، أو الأهم بامتياز هنا، والأجدر على جعْله ” خميرة ” معرفية في عجينة التاريخ.
وبالنسبة للكردي باحثاً ودارساً في التاريخ ” تاريخه الكردي في الصميم ” من منطلق واقع معاش، يكون للدافع السياسي وجاهته، وهو الدافع، المشيَّد بأسبابه ومسبباته، الذي يستدعي دوافع أخرى تكسبه ” لحماً ودماً حيين” أي كينونة تاريخية قائمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يكون مثار الدراسة مضيئاً لواقع الدارس عينه، تعبيراً عن خاصية القرابة النسَبية بين ما كان وما هو كائن، وصولاً إلى ما سيكون، تأكيداً على عنصر” الحُلم ” الواعي له، حلم تحقيق المتوخى قومياً، وكيفية الاستعداد له، وهو الدرس التاريخي الأمثل.
وفي هذا المضمار نفسه، يكون الاختلاف، ناحية الانشغال بهذا الموضوع، وتبعاً لمقدرة إرادة البحث والأسئلة التي يطرحها الباحث في متخيله من خلال موضوعه، وما لها من صدى ومهبط أرضي” جغرا-سياسي ” يشغل مساحة زمنية واسعة، تتعدى زمانه، حيث الاستجابة المقدرة تجد مستقراً لها في الواقع، كما تقدم، يكون الاختلاف هذا هو فيصل التفرقة بين باحث وآخر، باحث يعرَف بتلك النزعة السردية ذات المنحى الحكائي، وآخر يعرَف بتقديره للسرد التأريخي دون ترْكه بعيداً عن إخضاعه لمجهر التحليل العقلي، أي مساءلة الوثيقة جهة استنطاقها في وجوهها المختلفة: انتماء زمكانياً، والسلطة التي يهمها أمرها… وهكذا.
ربما، من هذا التصور المعرفي، يكون للباحث في التاريخ والأكاديمي الكردي البروفيسور الدكتور صلاح محمد سليم محمود، موقعه المتقدم في رحابة الأدبيات ” البوتانية ” حيث الشاغل السياسي له بصمته الرئيسة، ويداخلها التاريخي، والثقافي في العمق.
أنطلق من المؤثّر الزماني، وفعله، وموقعه في حساب التاريخ الجاري، بمتغيرات هذه المتغيرات ومستجداتها في واعية الباحث قراءةً، وكيفية الربط بين خاصية القرابة في مرجعيتها الثقافية بأبعادها : الزمان- المكان – والمعرفة المرصودة لها، في عهدة زمان ليس خطياً، يتعدى ربع قرن، بدءاً من أطروحته لنيل شهادة الماجستير( إمارة بوتان في عهد الأمير بدرخان 1821- 1847: دراسة تاريخية سياسية )،التي حصَّلها سنة ” 1998 “، التي اعتبرُها الكتاب التأسيسي لجملة الدراسات والأبحاث التي تلت الأطروحة هذه وليس انتهاء بأطروحته الجامعية لنيل شهادة الدكتوراه(الأسرة البدرخانية : نشاطها السياسي والثقافي1900- 1950 ) ” ، التي حصَّلها سنة ” 2004 ” والتوسع في الأولى، في طبعة أحدث مع تنقيحات، كما سنرى لاحقاً، وما أودعه كتابه ( دراسات حول تاريخ الكرد الحديث والمعاصر ) من معلومات سبق أن تناولها في كتابيه سالفي الذكر، والأول خصوصاً، وفي أكثر من مقال، وليكون كتابه المنهجي( تاريخ الكرد المعاصر: نظرة علمية) والمنشور سنة ” 2018 ” حصيلة اجتهاداته العلمية ومتابعاته التأريخية لما تقدم.
وحين أركّز على كتابه الأول، دون إغفال ما نشر بما له من صلة معلوماتية به في كتبه الأخرى، وحتى طبعته الأحدث ” 2024 ” فلأنه يقدّم فكرة، من وجهة نظري ، عن طريقة تحريه الفكري في التاريخ عموماً، وتاريخه الكردي خصوصاً، ومدى متابعته لما هو تاريخي في هذا الشأن، والمسافة المعلوماتية القائمة بين كتابه الأول والتالي عليه، وما يترتب على مكاشفة معرفية بينية من بلورة الشخصية البحثية وتأريخيتها لديه.
لماذا تجنيس الزمان؟ ” نقطة تنوير”
ماالذي يستدعي الزمان هنا؟ إنه موضوعه التاريخي قبل كل شيء. لا تاريخ دون مراعاة الزمان بالتأكيد، وهو يختلف بحالتيه: كماً وكيفاً، إذ لا يوجد زمان مجرد، الزمن الساعاتي تحديداً، إنما الزمان الذي يكون للعاطفة، أو للشعور النفسي فيه نصيب، وليس من تفكير، مهما كانت درجة من الصفة المعتبَرة: الموضوعية، إلا وكان لهذا الشعور دور في تلوينه. ثمة حدث يعوّل عليه التاريخ، أي يتموقع زمنياً، ينظر إليه سعة أو ضيقاً، مداً أو جزراً من موقع الأهمية، زمن يمتد إلى الأمام أو يتباطأ فيه تبعاً لقيمته، أو فاعليته.
لذلك (ينبغي إجادة استعمال الزمان. فالزمان هو الشيء الذي يعوز المؤرخ بالدرجة الاولى. ) ” 1 ”
زمان المؤرخ يصله بمادته التي تتعدى نطاق كميتها، من خلال طبيعة محتواها، ولمن تعود ملكيته، بالمفهوم السياسي، وهو موضوع يشغل كل معني بما هو إنساني !
في المنظور هذا، يحتل الزمان موقعاً متقدماً في مفهوم النظرة إلى التاريخ وكتابته، فالساعة التي يحملها المؤرخ لا قيمة لها لحظة تعرضه لموضوع تاريخي ينفتح على اتجاهات مختلفة، وهي غير مستقرة، الساعة خاصة بمواعيد معينة، بالدوام في العمل، واللقاءات. في دراسة ما هو تاريخي يتقدم الزمان الآخر في عمقه، ودرجة تمثيله لحقيقة معينة، لها بُعد اجتماعي، وحمولة ثقافية تسمّي طرفاً أو جماعة وغيرهما.
أحد أبرز المعنيين بالزمان وأنواعه التي تتجاوز الأربعين صنفاً، يطلق لقباً هنا من جهته، وهو ” اسم كرونوزوفيا “. ماذا تعني هذه العبارة؟ ( هذه اللفظة النوعية تغطي الممارسات والمبدعات شديدة الاختلاف بالنظر إلى آفاقها الزمنية، وإلى الغايات التي تستهدفها وإلى الوسائل المستخدمة لكشف المستقبل. إنها تهتم تارة بالأفراد، وتارة بالشعوب، وتارة بالبشرية، بل بالعالم) ” 2 “
من السهل بمكان، مكاشفة محرّك هذه اللفظة التي تشكل القاسم المشترك الأكبر لكل ما يشغل ذهنية دارس التاريخ، أو باحثه، وحتى مؤرخه، لحظة إمعان النظر في كيفية تدوين أحداثه أو تاريخه، وأي سرد متَّبع في تثبيته، ومن هم هؤلاء الذين يكونون رواه بالاسم المباشر أو غير المباشر، وطريقة تمثيلهم للوقائع، وصلتها بمن ، وحدودها الاعتبارية، حيث تنتفي الحيادية في ذلك. إن أي حديث عما هو حيادي يخرج النص عن كونه نصاً .
وربما لا يكون في حساب المؤرخ أو باحث التاريخ ذلك الاعتبار الواعي له للزمان، ولكن الزمان يشغله، إن أدرك أو لم يدرك هذه العلاقة التي يكون ضمن مؤثراتها، لنكون إزاء مفهوم الهندسة في أسلوب ضبط المنقول إليه، أو المقروء من قبله، وكيفية نسجه بخياله، والسعي إلى الربط بين مكونات موضوعه، وكله رغبة نفسية، في أن يأتي نصه محرَّراً من الثغرات أو تلك الصدوع التي تفقِد كتابته توازنها، أو تخل بمضمون هذه الكتابة، حيث التغير علامة فارقة لا تكافؤ في طرفيها القائمين بين قارىء الحدث: المؤرخ أو الباحث فيه على وجه التخصيص، ونوعية اهتمامه به، والحدث نفسه وهو أبعد ما يكون عن الثبات، مهما ابتعد مسافة زمنية عن قارئه أو باحثه، ونوّه إلى كل من الدياكروني فيه ” تعاقبه الزماني ” والسانكروني ” ثباته ” أو التزمني للأول، والتزامني للثاني، كما هو حال ” عداد السرعة ” حيث ما أن تحاول قراءة لوحته، وتأتي على ذكره، تكون هناك إضافة، جهة الحراك في الزمان لهذا، فـ( إن الزمان، باعتباره تنسيقاً لعدة تغيرات، هو علاقة، وبصورة أدق: مجموعة من العلاقات الكيفية والكمية.) ” 3 “
في قراءة ما هو تاريخي، أكثر من سواه: اجتماعياً، أم اقتصادياً، أم أدبياً…إلخ، يستحيل على باحثه هنا زعم إشهار الحيادية في تناوله لموضوعه، لحظة تحرّي بنية نصه، وكيف تشكل، ودور اللاشعور في تسريب ما أغفل عن قيمته سلباً أو إيجاباً.
من هذا الموقع، يكون ليس اختلاف باحثي التاريخ، وإنما خلافاتهم، في الموضوع الواحد، من خلال ما يشكّل ” عمارته ” التاريخية، والمتوخى منها، في نطاق الزمان والمكان، أي انطلاقاً من جنسية الموضوع وما يمثله قيمياً في المتن .
ونموذجنا البحثي يُسمّي زمانه النوعي بدوره
باحثنا التاريخي مؤلف كتاب ( إمارة بوتان في عهد الأمير بدرخان: 1835-1847 ” دراسة تاريخية سياسية )”4 ” يقيم في هذا المضمار، آخذاً بالزمان في الكمي والكيفي منه. وهو في جملة كتبه يدخل في مغامرة البحث عن تاريخ ضمن تاريخ، تاريخه الكردي كانتماء قومي وتمييزه عن تاريخ الآخرين، وفي الواجهة: تاريخ الذين لم يدخروا جهداً، وإلى الآن، في مجملهم، في طمس هذا التاريخ، وإنما نفيه، بعدم الاعتراف بوجود شعب اسمه الشعب الكردي، وقومية اسمها القومية الكردية، أي تاريخ الأنظمة الثلاثة: التركية، الفارسية والعربية التي تقاسمت كردستان، وجزأت الكرد، وتقاسمتهم، ثم سعت إلى صهرهم في بوتقتها القومية.
ربما كان الذي أفصح عنه السوسيولوجي التركي اسماعيل بشكجي حول هذه النقطة يطبَّق على ما تقدم، جهة نفي أي وجود للكرد كشعب، وجغرافية، اسمها كردستان، ومن موقع علم الاجتماع السياسي يعرّي هذه العلاقة القرابية المصطنعة، ومن جانب نظام متمركز: استبدادي، نظام الدولة الذي يحيل كل شيء إليه( وتباشر الدولة مع بدء الجمهورية بتجاهل الوجود الكوردي واللغة الكوردية وإهانتهما ) ” 5 “
هذا النظام بعنصريته ساري المفعول إلى الآن، رغم أنه أخف وطأة، لكن سياسة الاستعلاء القومية قائمة بكامل عنجهيتها.
ربما من موقع تاريخي كهذا، كان هذا الاعتبار المعطى للتاريخ، وتناوله على أوسع نطاق، في جامعات إقليم كردستان- العراق، والباحث ” محمود ” من هؤلاء الباحثين، الذين قدَّموا في هذا المنحى مجموعة مؤلفات بغية إضاءة تاريخه الكردي “6 “
وأضف هنا إلى أن لموقع البروفيسور الدكتور والباحث الشهير في التاريخ الكردي الحديث والمعاصر عبدالفتاح بوتاني تأثيره في مثل هذا التوجه، فقد كان المشرف على هذه الأطروحة الجامعية، وجرّاء اهتمامه بالبدرخانيين وتاريخهم ” 7 “
هذا التفاعل البحثي وحتى الوجداني بين المشرف وطالبه ينطلق من مأثرة الموضوع، والنظر إليه على أنه لا ينفد، على خلفية من مفهومه التركيبي، واستيعابه لكل مختلف!
الزمان الذي يشغل مؤلفات محمود هو الزمان المطروح في صيغته الكردية، الزمان الباحث عن اسمه، عن دمغته، والزمان الذي يسعى من خلال باحثه لأن يتميز بتلك الأبعاد التي يعرَف بها زمان الآخرين ممن يتمتعون بتلك المكانة السياسية في وطن مستقل.
وهذه الإشارة هي التي تمثّل المفتاح لهذا الباب التاريخي الذي يستشرف بنا ما يريد الباحث المضي به إلى ما كان، وربطه بما هو كائن، لا بل إن اللحظة التاريخية التي ينشغل بها محمود، وهي المعتبرة ” بوتانية ” في شخصية كاريزمية، ممثلة في ” بدرخان بك ” وفي حيّز زمني قصير ” 1835-1847 ” وهو حيّز لا يؤخذ بحامله الكمي ” 12 سنة ” إنما الكيفي: النوعي، عندما يتبين لقارئه أي ” إنجاز ” تأريخي سيادي كرديّ العلامة حققه بدرخان بك، كما رأى ذلك المؤلف، وفي ذلك الحيز، كان نوع من الإعجاب أو الدهشة إزاء بُعد مقاومة، إن جاز توصيف مسلك بوتان بك الحكْمي في الإمارة ومحيطها وأبعد، في محاولة بناء كيان كردستاني استمات في الدفاع عنه، كما أن الباحث لم يدخر جهداً في إبراز هذه الميزة المغايرة مسلكياً للذين سبقوه من أمراء الكرد ومن بعده، ومن خلال أبنائه وأحفاده “مقداد مدحت بدرخان، جلادت وكاميران وغيرهم في الواجهة ” في عملية تمثيل ما هو كردستاني، وما في هذا الإجراء ما يلفت النظر، جهة حاضره ” المؤلف” وتلك التحديات التي يعيشها الإقليم، وعموم كردستان من الأنظمة التي تقاسمتها، وحتى الدول الكبرى، في الحيلولة دون حصول الكردي على حقهم في تقرير مصيرهم.
كما لو أن الذي كان، بمفهومه: الزمن المأخوذ به سياسياً، يعيش راهناً، وينتظر شخصية بدرخانية تقاوم أي صهر لها.
لهذا يصح ما ذهب إليه تودوروف بقوله(إن تسخير الماضي في خدمة الحاضر لهو عمل بنّاء. ومن أجل تقييمه. لا يكفي أن نطالب هذا العمل بأن يأتي ملائماً للحقيقة ” كما لو كان الهدف منه سرداً للوقائع “، أو عملاً فاضحاً ” مثل ذلك الذي يهدف لخدمة المعنى “، بل يجب تقييمه بعبارات الخير والشر، وهي معايير خاصة بالسياسة والأخلاق ) ” 7 “
أسئلة يطرحها حاضر الباحث، يجد لها صدى فيما كان، وليس في أي زمان مطلق، إنما زمان مسمى بحدوده وجنوده . هو ما جاء كتابه: الأطروحة الجامعية تلبية لهذه الرغبة البحثية، وفي إطار عنواني معلوم بمغزاه: الجغرافية في ذمة التاريخ، والاثنان في ذمة شخصية تعيشهما، والمؤشر الحركي الدرسي والكاشف لهذه العلاقة البينية: دراسة تاريخية سياسية.
التاريخ يحيل على الجغرافية، وما أكثر إشارات الباحث إلى الجغرافية وموقعها، تعزيزاً لفضيلة المهمة التي عرِف بها المير الكردي طبعاً، وإشعاراً بما يندفع إليه الباحث في رؤيته عبره ما يمتّنه من صلات بين حاضر اليوم، وماضي الأمس، وما يرفع من شأن وعي الكردي بتاريخ لا يعرف انقطاعاً، بمقدار ما يعطى انطباعاً بالتحول في مكانته، ومقاربة الجغرافيا أكثر.
إن كل ما ينشغل به الباحث هو في كيفية تمهيد الطريق، ليس أمام بدرخان بك، ليصبح حاكم إمارة، وإنما حاكم كردستان حينذاك، واستحقاقه لذلك، من خلال ديناميكية سلوكه، وقابليته لأن يتصف بهذه الخصلة من خلال تذليل الصعوبات مع آخرين من أمراء الإمارات الكردية المجاورة له، وتحدي السلطان نفسه، الإجراء الأنسب لبلوغ المرام السياسي.
إن اعتماد منطق القومية وربطها بشخصية بدرخان بك، يستغرق كامل كتابه، حيث رأى أنه في ( المشروع السياسي للمير ( بدرخان) تحقق ما هو مهم هنا، وهو تكوين وحدة مباركة، وهو الذي في صلب عمل المير ( بدرخان، وكان نصب عينيه: كيفية تحرير إمارة بوتان وكردستان من السيطرة العثمانية. ب ك . ص 72 ).
إنها خلاصة الكتاب: الأطروحة الجامعية قبل أكثر من ربع قرن، الكتاب الذي يستند إلى كم وافر من المصادر والوثائق باللغات الكردية، العربية والتركية والانكليزية، رغم قسوة الظروف، لحظة مراعاة وضع الإقليم، وقلة المصادر بهذا الشان، أو صعوبة الوصول إليه وقتذاك: كما يقول الباحث في المقدمة ” 9 ” وهذا يعني أنه اعتمد على خطين متعامدين: المصادر التي توفرت لديه جرّاء عمليات البحث، والحفر عمودياً، من خلال الربط بين مصادره واستقرائها، لإنارة فكرته وتفعيلها بموضوعية أكثر.
لا يخفى البعد السياسي في رؤية الباحث إلى موضوعه، وتلك الرغبة النفسية التي تجسد هذه الرؤية، وهو ينتمي إلى واقع كردي طموح إلى الأفضل. هناك ما يتنفسه الباحث في سياق كهذا، وهو لا يكتب في موضوع من موقع الوظيفة الجامعية، أو إنجاز مشروع بغية استلام وظيفة، إنما هناك ما يمنح العمل بعداً قيمياً أو أخلاقياً، يتعدى به نطاق المنشود أكاديمياً، كما هو المقروء في متن الكتاب. يتساءل أحد المعنيين بالتاريخ ، ثم يجيب على سؤاله بقول(أي حاجة بنا إلى التاريخ وكتبه؟ أي تأثير للتاريخ في سعادتنا على هذه الأرض؟ بل أية علاقة بين السعادة وذكر حوادث مضت وأيام خلت.. إن تاريخ ما كان لهو تاريخ ما هو كائن وما سيكون.) “9 “
هذا الوصل هو الفصل المطلوب إبرازه، وهو الفصل البحثي الذي يمتحن قدرات الباحث، وصفة هذه المكاشفة التاريخية لديه.
في تركيزه على كاريزمية بدرخان بك، وطرحه عدا عن أي أمير كردي آخر في زمانه، جهة التمثيل القومي الكردستاني، ربما يوجد من يعارضه في ذلك، من لا يتفق معه، وبدءاً مني، كوني انشغلت في مثل هذا الموضوع وغيره ” 10 “، وهناك آخرون
يختلفون مع ما توصل إليه الباحث أو انطلق منه في فكرته المحورية للكتاب، كما الحال مع بشكجي ” 11 ” وما يشكل خلافاً بينياً بصدد القيمة المعطاة لبدرخان، من خلال موقف البروفيسور التركي المقيم في أميركا في جامعة فلوريدا الوسطى، هاكان أوغلو، وهو يسعى في أحد كتبه ذات الصلة المباشرة بـ” أعيان الكورد والدولة العثمانية ” إلى محاولة تغييب أي مَعْلم كردي قومي في شخصيات تاريخية كردية، حال الأمير ” بدرخان ” حيث نقرأ، مثلاً:
( تنبع أهمية بدرخان وثورته من المزاعم الكوردية فيما بعد بأنها كانت انتفاضة قومية… وكشف نظمي سيفكين في دراسته عن أسرة بدرخان، عن العديد من الوثائق العثمانية التي تبين أن ثورته لم تكن ذات طابع قومي…لقد كان بدرخان نفسه يحمل لقب متسلّم ” أي متحصل ضرائب ” الأمر الذي يوحي بأنه كان جزءاً من الإدارة العثمانية…وقبل عام 1847م كان بدرخان مخلصاً للعثمانيين ويساعد الحكام المحليين في حكم الأراضي الكوردية ” من عندي ربطه بشرفخان “. ولهذا كان شخصية معروفة ومحترمة في الهيكل الإداري العثماني في الولاية. ولذا يجب عدم الاستغراب من أن بدرخان لم يُحكم بالموت، حتى بعد قمع انتفاضته، بل وضع على قائمة الذين يتقاضون الرواتب من الدولة العثمانية.) ” 12 ، وما يمضي إليه الباحث الأكاديمي الشهير وديع جويده في كتابه الغني عن التعريف( الحركة القومية الكردية: نشأتها وتطورها )، من توصيف مختلف بقوله( ما من شك أن بدرخان واحد من أعظم الزعماء الكرد الذين عرفهم التاريخ. فالطريق التي تمكن من خلالها من انتشال نفسه من الحضيض والوصل إلى قمة النفوذ والثروة كافية للاقتناع أنه يمتلك صفات جد مميزة ) ” 13 “
….إلخ
لعل ذلك يرفع من مستوى هذه الإمارة من خلال أميرها، ويجعل من هذا الأمير شخصية قابلة للتأويل، نظراً لغنى العناصر البنيوية التي تكون الشخصية هذه، وهي تربطه بواقعه الكردي ومحيطه الجغرافي وأبعد وصولاً إلى الآستانة حيث يكون مركز” متروبول ” الامبراطورية العثمانية، وتلك الخطوط الساخنة والمتباينة في سخونتها وتبعاتها، والتي كانت تشهد تمرير مؤثرات من جهات شتى، من قبل ” الباب العالي ” ومتابعة ’خر المستجدات في نطاق إمبراطوريتها، وفي حدود كل إمارة كردية، وربطها بولاياتها، وكيفية ضبط أطرافها من قبل ولاتها، اعتماداً على الأجهزة المادية والمعنوية لها.
الباحث يبصر طريقه في هذا النوع من التشابك بين العلاقات والمواقف والرؤى من موقع الإمارة والأسرة البدرخانية وفيها نبوغ أو سطوع الشخصية الأكثر تميزاً بالشهرة السياسية كردستانياً حتى الآن مقارنة بغيرها، في موقعها التاريخي والسياسي، ودون ذلك لما أمكن ظهور هذا التنوع في الكتابات المتعددة الأهداف والمناهج والنظرات المتعلقة بالإمارة البدرخانية والمد المارتوني لها.
وهو ما يسجل للباحث فيما أشغل به نفسه وفكره، وسخر له جهده على أكثر من صعيد بحثي !
” يتبع “
مصادر وإشارات
1-غي تويليه- جاز تولار: صناعة المؤرخ، ترجمة: عادل العوا، دار الحصاد، دمشق، ط1، 1999، ص 79.
2-كريستوف بوميان: نظام الزمان، ترجمة: د. بدرالدين عرودكي، منشورات المنظمة العربية للترجمة، ،بيروت، ط1، 2009، ص 19 .
3-المصدر نفسه، ص 510.
4- د. صلاح هروري: إمارة بوتان في عهد الأمير بدرخان 1821- 1847″ دراسة تاريخية سياسية ” تحت إشراف البروفيسور الدكتور عبدالفتاح علي بوتاني، مؤسسة موكرياني، أربيل، ط1، 2000، بالنسبة للطبعة العربية، حيث سأشير إليها في المتن برمز ” ب. ع ، مع رقم الصفحة، والطبعة الكردية الأحدث، بالعنوان نفسه، والمضاف إليها، مطبعة روجهلات، هولير، ط2، 2024، وهي الأكثر اعتماداً هنا، وسأشير إليها برمز” ب. ك، مع رقم الصفحة ”
5-اسماعيل بشكجي: منهج العلم، ترجمه عن الكوردية وقدَّم له وعلق عليه: إبراهيم محمود، مركز بشكجي للدراسات الإنسانية، جامعة دهوك، 2018، ص242.
6-أنوّه هنا إلى أن البروفيسور الدكتور صلاح محمد سليم محمود، هو الآن أستاذ التاريخ الكردي في جامعة دهوك، وفي الوقت نفسه يشغل منصب رئيس مركز بشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك، وهو المركز الذي أعمل فيه منذ سنة ” 2013 “
7- أصدر البروفيسور الدكتور بوتاني عشرات المؤلفات ونشر مئات المقالات في هذا المجال، عدا عن تقديمه لكمّ وافر من الكتب ذات الصلة بما هو كردي، وشغل منصب عميد كلية الآداب، عدا عن التدريس فيها، ومنصب رئاسة مركز بشكجي الذي كان باسم ” مركز الدراسات الكوردية وحفظ الوثائق، بداية تأسيسه سنة ” 2006 ” وعلى مدى عقد من الزمن، وليشغل بعدها منصب رئيس الأكاديمية الكردية في أربيل، وإلى الآن، وتقديمه لكتاب: صفحات من تاريخ كوردستان الحديث في الوثائق العثمانية ( 1840-1915 ) منشورات الأكاديمية الكردية، أربيل” 2015 ” صص 9-82، يوضح ذلك، وضمناً ما يخص إمارة بوتان، وموقع بدرخان بك فيها ، صص 9-39. وللمزيد من المعلومات حوله، ينظَر كتابي:اليد والقفاز” التنوير البحثي والوثائقي في كتابات الأستاذ الدكتور عبدالفتاح علي البوتاني ” تقديم د. عدنان عودة عباس، مطبعة جامعة صلاح الدين، أربيل، 2016.
8- تزفيتان تودوروف: الأمل والذاكرة ” خلاصة القرن العشرين “، نقله إلى العربية : نرمين العمري، منشورات العبيكان، الرياض، الرياض ، ط1، 2006 ، ص 184.
9- برناردان دي سان بيير: الكوخ الهندي، تعريب: فرح أنطون، تقديم: محمد سيد عبدالتواب، المركز القومي للترجمة، القاهرة،2009، ص 84 .
10-ينظر حول ذلك ما أثرته في كتابي: العالقون في الخندق المعلق ” المدخل القبائلي إلى دراسة تاريخ كردستان “، منشورات الأكاديمية الكردية، أربيل 2020، وكتابي الآخر والأقرب إلى كتاب باحثنا : البدرخانيون بوصفهم البدرخانيين، منشورات مركز بشكجي للدراسات الإنسانية، جامعة دهوك، 2020..
11-أحيل القارئ هنا إلى كتابه : الدولة والكورد: اللغة، الهوية، القومية الوطنية، ترجمه عن الكوردية وقدَّم له وعلق عليه: إبراهيم محمود، منشورات مركز بشكجي للدراسات الإنسانية، جامعة دهوك، 2017،أفكار حول الأمير بدرخان، صص279-285،
وما يثيره بهذا الصدد، في : كيف يمكن تفسير حديث أحمد خاني حول أهل الكهف؟ صص157-160.
وينظر أيضاً بالنسبة لـ” أفكار حول الأمير بدرخان ” ملحقاً لكتابي: البدرخانيون…، صص101-110.
12- هاكان أوز أُغلو: أعيان الكرد والدولة العثمانية ” هويات متطورة… وولاءات متنافسة… وحدود متحوَّلة “..”، ترجمه عن الانكليزية :د. خليل علي مراد، منشورات الأكاديمية الكردية، أربيل، ط1، 2016 .، ص 116-117 .
13-وديع جويده: الحركة القومية الكردية” نشأتها وتطورها ” قدم له: مارتن فان بروينسن، ترجمة: مجموعة من المترجمين، دار الفارابي- بيروت، أراس- أربيل، ط1، 2013، ص172.