من حديث الهاوية

إبراهيم محمود

حين أزحتُ نقاباً عن برّية قلبي
هبطتْ بي هاويتي نشوى
أوْدِعُها وجهي  منجذباً
سرْج خيالي متَّسع للغاية
دفء عروقي منضبط للغاية
خفة توقي لغياب منشود تلهمني
يُعْلمني نجم في أقصى درب التبانة
أن هناك سماء أخرى في أسفل واديك السامي عمقاً
سر الذروة في هاوية الوادي
ثمة أصلاب جماد تأتمن السر
كثافة أرواحٌ بقرون استشعار ٍ
تحملها أجسام ذات شفافية قصوى
أخلاط معادن في عقد السر المحفوظ بدقته
ثمة حشد صخور تتناضد
ترقبني ببصيرة أعيان السر
لها في أصل صلابتها أكثر من لغة
أفق يمتد بعيداً وعميقاً
لا صخرة دون الأخرى
” لو أن كتاباً دشّن هذا المشهد لانتعشت ذاكرة ليست في الحسبان “
قولٌ لحصى أطلقه في أسفل صخرته وانهمَّ بأطلسه جذلاً
ما أمرحَ عشب الصخرة هذي!
قول لحصى آخر يطلقه
ويغنّي لنداء العشب الممتد إلى جبل مترامي الأطراف
بأي قصيد يحتضن العشب حصاه؟
بأي لسان يهتز حصى العشب حبوراً؟
-ثمة في أصل الصخرة ما يعجز في معناه القول الفصل-
قول تنسجه الصخرة في ماء يعتنق الصخرة
في القاع عميقاً ضوء يسطع كي تهدأ روح الصخرة بالماء
ويمضي الرمْل بأفراده منتشياً
سمكٌ نورانيّ الطلعة في جم الماء يصيخ السمع إلى الصخرة 
عن أسلاف ماضين له
لا يخفي الماء شعوراً بجزيل الجاري
ليشد على دفق المتعة طي نسيجه
عشب فذٌّ يتهادى ثانيةً 
ما أبهر ظل العشب إلهي!
هوذا همْس السمك النورانيّ لنفسه حباً بالعشب
وزعنفة تطلق موسيقا
الصخرة تهتز ضياء
الماء يرنّ وقاراً
الماء جليل في مبناه
أذهلني شغف الماء بأهليه
الماء شغوفٌ بسواه؟!
كيف يجن صفاء؟
كيف يُعِدُّ مساماته
كي يرفع باسمه أهلوه
آلاءَ الشكر إليه
ليظل الماء سليل الماء
ومن في الماء يردد مجد الماء
قصيدٌ أكبر من اسمه دون إطار
حيث أراني مأهولاً بندامى الماء..
الماء هو الماء وليس الماء
تآويل تترى
في الصوت الجمعي الطوعي تباعاً
مجد للماء
وحده لا مجد سواه
قول يتردد في كل جهات الماء
والماء يموج علامة تنوير   
جسم آخر في حجم البوصة مألوف
ما أغربه من جسم:
أتتمتم عيناك عليّ
أنا حوت أزرق..!
حوت أزرق
ما هذا المرئي اللافت؟
كلٌّ يَعْلَم ما يعلمه الآخر
لا آخر في هذا الماء ليُعلمك المشهدَ
حتى الصخرة
تعلم ما يعلمه كل منا
كلَّ يتنفس ما يتنفسه الآخر
كل يحمل ميزته الأخرى
قول أطلقه الحوت وبي
أكثر من استغراب مما يجري
كم كان العشب ضحوكاً لحظتها!
ثمة وجه خيطي ناعمُ ما أصغره حجماً
يتشقلب في الماء 
يضيء بكامله
ما أفصح صوته وهو يسمّي الدائر مفتوناً
أيقظ في صمت خيالي قلباً 
فتقدمني 
وأنا في إثره أمضي حيث أكون مكاني
ثمة ما يعلمني في نبرة صوته:
صغّر جسمك أكثر
كي تمنح روحك أفقاً أعظم
كي تبصر  ما ليس متاحاً
نبضت روح الصخرة  في مجرى الصوت
أبحتُ لنفسي تحويلاً
كي أتلقى درساً في هذا الضيق الواسع جداً
كي أُبلِغني ما ليس مسمّى
كي أوقظ في روحي ما ليس متاحاً
فأعود إلى ما أصبحت عليه
كم فرحتْ بصعودي الأرضُ
وجن جنون طبيعتها 
واشتعلت أشياء
صعدت إلى معراج أناي
وكم فاحتْ روحي 
وأنا أبصرني جمْعاً
في جمهرة من أسماء !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…