إبراهيم محمود
يا لها من علاقة جميلة ومؤثّرة، حين تكون الثقافة بأبعادها الإنسانية عاملاً معززاً للقاء يتم عن قرب، وحوار مفعَم بما هو تنويري ، وباعثاً على تأمل مشترك لما هو ودّي مشترك تالياً.
تقوم الثقافة في أصلها على قول التنوع ليكون المآل تعبيراً عما لم يكن وقد أصبح حقيقة.
هوذا شعوري، ككاتب، كباحث، كقارئ للثقافة، ويعيش مناخاتها المختلفة منذ عقود من الزمن، حين زار مركزنا الثقافي: مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك، فريق عمل ثقافي، كما رأيت وقدَّرت، من ” معهد غوته الألماني ” في أربيل عاصمة إقليم كردستان الجميلة: اليوم ( 28-5-2024 ) قبيل الظهر،
والمؤلَّف من ضيف المعهد الباحث والمفكر المصري الحامل للجنسية الألماني الدكتور عاطف بطرس، مؤلف الكتاب المعروف ” كافكا أيقونة تحترق- 2019 ” في طبعته العربية، والذي قَدِم من ألمانيا إلى أربيل ليسهم في الاحتفالية المئوية لكافكا ” 1883-1924 ” صاحب الأعمال المشهورة عربياً: التحول/ المسخ- القصر/ القلعة- المحاكمة- أميركا…، وعشرات القصص ذائعة الصيت: بنات آوى وعرب- جوزفين المغنية وشعب الفئران- أمام القانون- الجحر- تحريات كلب- فنا الجوع – في مستعمرة العقاب- الحكْم… وسوزانا بوليك، رئيسة قسم المعلومات والمكتبات في معهد غوته المذكور، ومساعدتها: هيلين مصطفى، والمتدرب في قسم المعلومات في المعهد ذاته: رائد قاسم.. هوذا فريق الزيارة في تنوع ألسنته، ومهامه الثقافية، أي كانت الثقافة وراء هذه الزيارة المؤثرة بالنسبة لمركزنا البحثي المذكور، ولي ” بتواضع ” حيث أعمل فيه منذ سنة 2013، وكل من الزملاء : رئيس مركزنا البحثي: الأكاديمي الدكتور صلاح هروري، والباحث الدكتور آزاد حسن، والباحث اللغوي الدكتور عزالدين ناسو، وحضور الباحث الأكاديمي الدكتور سالم جاسم: رئيس مركز الإبادة الجماعية للدراسات الإنسانية في جامعة دهوك، والمجاور لمركزنا في المبنى الثقافي نفسه ..
” صورة جماعية تذكارية أمام مدخل مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك، تضم كلاً من السادة : عاطف بطرس، سوزانا بليك، صلاح هروري، أنا، هيلين مصطفي، ومن صوَّر: رائد قاسم..”
واقعاً، لا أستطيع تلخيص كل ما دار في بنية اللقاء الثقافي، سوى أن الممكن التأكيد عليه، هو شعور كل حاضر أن هناك ما يشده إلى نظيره، ما يوسّع حدود نظرته وثقافته، واعتبار أن في مقدور الثقافة، وهي تتكلم لغات مختلفة، وفي جهات مختلفة، أن تمارس تعميقاً لما هو إنساني.
ما أستطيع التأكيد عليه، من منظوري البحثي، وبَعد هذه العقود في التعامل مع الكلمة، حرارة، مأثرة محتوى، وأهلية تعبير عما هو منشود، ومتعدّ لما هو منغّص للروح تحديداً، هو أن أياً كان، حين ينطلق مما هو ثقافي، وبوجود تلك الأرضية، وذلك الأفق الملهم للذات، لا يعود ينظر إلى الوراء، إنما إلى الأمام من جهة، وهو في قرارة نفسه يسعى جاهداً إلى الحديث عما هو تشاركي من جهة ثانية، يمكن له أن يترك في نفس أو ذات الآخر أنه سعيد بهذا النسب الثقافي الجماعي.
المؤثر الثقافي مشرقاً ومغرباً، وجهة ألمانيا ضمناً كان خميرة الكثير مما جعل اللقاء بيومه نزيل ذاكرة مكانية وزمانية( للعلم كان دور الذاكرة، والذاكرة الجماعية، وكيفية استثمارها، في موضوعات إنسانية، وتحديداً، بالنسبة لمن تعرضوا لمحن جماعية، فاعلاً في اللقاء ).
كانت إمكانية توسيع نطاق ما هو ثقافي، قائم على احترام الآخر، موضوعاً أفصح عن الكثير مما هو مأمول، كما لو أنه درس موجّه إلى الذين يحاولون حيازة العالم لهم من زاوية جانبية.
والتذكير بما يمكن العمل باسمه فكرياً وبحثياً ومؤتمرياً في مركزنا وأبعد تالياً..
ولكافكا بصمته في هذا المجال. كان له حضوره، حيث تطرق الدكتور بطرس إلى تلك المؤثرات الثقافية: الأدبية وفاعلها التاريخي والإيديولوجي عربياً، في النصف الأول من القرن العشرين وتالياً في كتابه المحتفى به هنا وهناك عربياً( أي كافكا أيقونة تحترق )، ومحاولتي المتواضعة في إضاءة هذا الجانب الثقافي الأدبي الطابع، من جهة مأثرة إبداعية مضى على رحيلها قرن، وها هو يدخل في عهدة قرن جديد، ونجمه يزداد سطوعاً في لغات مختلفة، وكيفية الاستفادة منه، وليس لأنه يهودي ديناً، وتشيكي موطناً، وألماني لغة كتابة لها موقعها الرمزي المعتبَر. كيف يمكن قراءة كافكا، تبعاً للثقافة المترجَم عليها، لأن الذي تمكن أدب هذا العابر للحدود، في معظم ما سطَّره وتركه وراءه، أودعه، كما يعلِمنا محتواه، ما يرفع من شأنه رغم الألمانية لغة الكتابة، ليتكلم ما هو إنساني ، بعيداً عن أي حمولة مؤدلجة، إلا لمن يتكلم عما في نفسه المؤطرة ثقافياً.
وكما تعرضتُ له منذ أكثر من أربعين عاماً وما أعدّ له في أعمال منقولة عن الفرنسية، وهي تستغرق سيرته الذاتية، وصلته بما هو ديني، وبما هو فلسفي وأدبي وما يخص القانون، وما هو حيواني.. عناصر، مفاعيل الحراك الإبداعي في متخيله الأقدر على البقاء والاستمرار .
لقد أشعرنا الفريق الزائر بمتعة الزيارة، وجمال المرئي في الحرم الجامعي لدهوك وخارجه، وهو إشعار لنا أن ثمة جميلاً مختلفاً في كل شيء، إن نظِر إليه، ليكون الآخر محل اعتبار أيضاً.
أمضينا وقتاً يحسَب له في مقامه والمثار فيه، وفي تلك الجولة في مكتبة مركزنا والمكتبة المركزية للجامعة، وفي دهوك، وعندما كان الوداع ليُعد للقاء قادم، في مستهل الأسبوع الثاني من الشهر السادس ” حزيران 2024 ” في معهد غوته الألماني، حول نشاط ثقافي يكون كافكا هو الحاضر بظله الثقافي، الأدبي وحضوره الرمزي، ومن جوانب مختلفة، وأنا مشارك فيه.
ودَّعتهم، وأنا أعيش روعة محتوى قولة كافكا الشهيرة: على الكتابة أن تكون كالفأس الذي يكسّر الجليد المتجمد في نفوسنا …! هوذا الفكر الذي ينتسب إلى الآتي دائماً ويعدّل فيه بعمق..!