المحور الثالث ـ المحاسبة بالوكالة؟ مَن يحاسب من؟
د. ولات محمد
بعد أن يأخذ لنفسه موضع ملاك (على حق) ويترك للآخر
موضع شيطان (على باطل) يظن الكاتب جمال حمي أنه بات من حقه أن يعمل ناطقاً باسم
الله تعالى ويطلق أحكامه على ذلك الآخر، فيصدر حكماً على الشاعر جكرخوين بحجة أنه
قد حارب الله والدين، ثم يختار آية يرى أنها تناسب حكمه ذاك وغرضه منه فيكتب ما
يلي:
يطلق الكاتب حكمه على الشاعر بهذه الطريقة على الرغم من أنه يقول في فقرة سابقة إنه ككوردي مسلم يتفهم أن جكرخوين كان ماركسياً لا يؤمن بالأديان وإنه لا يريد أن يتدخل في قناعاته ويقول: “فهو المسؤول عنها أمام الله وليس نحن، والله تعالى هو الذي سيحاسبه وليس نحن، وهذا أمر مفروغ منه وغير قابل للمزاودة علينا فيها، ولا يجادل في هذا إلا جاهل أو أحمق”.
وهنا أتوجه إلى الكاتب مباشرة بالسؤال: إذا حكمتَ على شخص بأنه ملحد ثم بجزاء قطع الأيدي والأرجل، ألا تكون قد حاسبته؟ كيف تكون المحاسبة إذن؟ هل كنت تريد أن تُخرج الرجل من قبره لتحاسبه بيدك مثلاً؟ إنها المحاسبة فعلاً ولا شيء آخر. يقول القاضي للمجرم: أنت ارتكبت كذا وتعاقب بكذا بموجب المادة كذا. هكذا يكون القاضي قد حاسب المجرم على فعله. أنت هنا تحاول أن تتلاعب بالألفاظ (وتفعل ذلك في مجمل كتابتك)؛ فعندما تقول إنك تتفهم قناعات جكرخوين وإن من يحاسبه هو الله فهذا لا يعني أنك ملتزم بكلامك فعلاً. وما إطلاقك للحكم إلا دليلاً على أن كلامك هذا مجرد ذر للرماد في عيون قرائك كي لا يروا أنك تعطي نفسك حق الله في محاسبة البشر. وإذا حاججتَ بأنك فقط أوردت الآية، فإنني أسألك: كيف استطعت أن تقرر حالة الشاعر شرعاً وتؤكد أن الآية تتوافق معها؟ ببساطة لقد قدرتَ وقررتَ وفصّلتَ حالة الشاعر كما تهوى، ثم جلبت الآية إلى قرارك كي تمنحه وجهاً شرعياً تخدع به الناس. وهنا أود أن أجادلك من المنطلق الديني نفسه الذي تتبناه وتحاول توظيفه في تأكيد حكمٍ ليس من حقك إصداره أساساً:
أولاً ـ كيف تسمح لنفسك أن تدعي نيابة عن الله أن هذا الحكم ينطبق على هذ الشخص؟ فإذا أردتَ أن تعبّر عن رأيك الموضوعي العلمي في شخصية ما أو تعبر عن شعورك تجاهها، فهذا أمر طبيعي، أما أن تحكم على شخص بقطع الأيدي والأرجل ثم تقول “وهذا حكم الله العلي القدير وليس حكمنا نحن” فإن هذا تجاوز على الله قبل أن يكون تجاوزاً على كرامات البشر وحقوقهم؛ فالله تعالى الذي هو كليّ القدرة والسلطة والمعرفة، هو الوحيد الذي يعرف نوايا الإنسان وأفكاره وأفعاله الظاهرة منها والباطنة، والوحيد الذي يملك القدرة والحق في الحكم على الإنسان أو العفو عنه لأي سبب شاء، ولا يحتاج إلى وكلاء له على الأرض كي “يساعدوه” على تقدير أحكامه وتنفيذها في من يشاؤون وكيفما يشاؤون.
ثانياً ـ علاوة على أنك غير مخول في إصدار حكم شرعي كهذا على شخص، فإنك أصدرته بحق شخص ميت، وأنت الذي تضعه “في ميزان العقل والمنطق والأخلاق”؛ فهل من المنطق والعقل والدين والأخلاق أن يقال عن شخص ميت إنه يجب أن تقطّع أيديه وأرجله؟ وهل الآية تقصد الأموات حتى تستشهد بها على حكمك الخاطئ أصلاً؟!
ثالثاً، (وهنا بيت القصيد) إذا كنت حقاً تحفظ كلام الله وتطبق حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه، فإن عليك أن تأخذ بكل ما جاء في كتاب الله، لا آيات تختارها على هوى أفكارك كي تضعها في وجه من تشاء. وإذا كنت تعطي نفسك الحق في أن تأتي بآية وتجعلها حكماً على من تشاء، فهذا يعني أنك تعرف كتاب الله كله وتؤمن به كله وتعمل بأحكامه كلها، وهذا يعني ـ بالنتيجة ـ أنك تعرف هذه الآيات:
ـ «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»، البقرة/ 256.
ـ «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، الكهف/ 29.
ـ “إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء”. القصص/ 56.
ـ “ليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء” البقرة/ 272.
ـ “لله المشرق والمغرب. يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم” البقرة/ 142.
ـ «وَلَوْ شاءَ رَبك لَآمنَ مَن في الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتى يكونُوا مُؤْمِنِينَ»، يونس/ 99.
هذه الآيات تقول بوضوح لا يقبل الشرح والتأويل إنه «لا إكراه في الدين» وإن الهدى من الله تعالى وإنه لو شاء لجعل كل الناس مؤمنين. إذا كان هذا خطاباً مباشراً من الله تعالى للرسول (ص) فبأي صفة وبأي حق تحرض على شخص وتتهمه وتشتمه وتدعو عليه وتحكم عليه بالتقطيع بحجة أنه غير مؤمن أو أنه حارب الله؟! أليس الله بقادر على الوقوف في وجه من يحاربه دون مساعدتك؟!!
أما عن محاسبة الإنسان على إيمانه أو عدم إيمانه فإن الله تعالى يتوجه أيضاً في آيات كثيرة بخطابه مباشرة إلى الرسول (ص) ليبين له فيها أن مهمته مقصورة على البلاغ وأن الحساب عند الله دون غيره، ومنها:
ـ “وما على الرسول إلا البلاغ المبين” النور/ 54.
ـ “فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب” الرعد/ 40.
ـ «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ»، الغاشية/ 20-21.
ـ «إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ»، الغاشية/ 25 ـ 26.
في المجموعة الأولى من الآيات يبلغ الله نبيه بأنه لا إكراه في الدين، ويؤكد في المجموعة الثانية بأن محاسبة الناس على إيمانهم أو عدم إيمانهم هو شأن الله وحده، وأن مهمة الرسول (ص) هي فقط التبليغ. ولاحظْ في الآيات الثلاث الأولى أن كلاً من الأداتين “إلا وإنما” تفيدان الحصر، أي أن عمل الرسول هو
فقط وفقط البلاغ والتذكير، وليس المحاسبة من أي نوع كانت. فإذا كان الله يقول لرسوله (ص) إن مهمته هي التبليغ وليس الحساب، فإلى ماذا تستند يا سيد حمي ومن أنت كي تنصّب نفسك قاضياً ومحاسباً ومصدراً للأحكام باسم الله؟ وبأية صفة تحكم على الشخص بأنه مؤمن أو ملحد أو كافر؟ ألا تعلم قول الله تعالى:
ـ “ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً” النساء/ 94.
ـ “إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين”/ النحل 125.
هل ضمنتَ أنت لنفسك يا ترى أنك من المهتدين حتى رحتَ تحاسب غيرك على “ضلاله”؟ ألا تعلم أنه “دخلت امرأة النار في هرة…”/ الحديث، وليس في محاربة الله كما تقول؟ أين أنت من هذه الأحاديث والآيات ومما سبقها؟ هل تعرفها؟ هل تؤمن بها؟ هل تعمل بها؟ إن تناقض سلوكك مع هذه الآيات وإطلاقك للأحكام المخالفة لها يضعك أمام أحد احتمالين:
ـ فإما أنك لا تعرف هذه الآيات التي تتحدث عن عدم وجود إكراه في الدين وتمنع (حتى الرسول ـ ص) من محاسبة الناس على عدم إيمانهم. وهذا يعني أنك تطلق مثل هذه الأحكام على الناس عن جهل. وهذا يعني أن وصفك وتقييمك وتصنيفك للرجل وحكمك عليه لا منطق عقلياً وشرعياً وأخلاقياً له.
ـ وإما أنك تعرف جيداً هذه الآيات، وأنك ـ مع ذلك ـ تطلق أحكامك المتناقضة معها. وهذا يعني أنك تخالف آيات الله تعالى عن معرفة وقصد، وأنك تأخذ ببعض كتاب الله وتترك بعضه الآخر بغية تحقيق هدفك. وهنا قد يأتيك أحدهم ليسير على نهجك بالذات ويحاسبك بمنطقك أنت ويطلق عليك حكمه الخاص مستشهداً بآية، كما أطلقت أنت حكمك الخاص على جكرخوين مستشهداً بآية، فيقول فيك تماماً ما قلته أنت في جكرخوين وذلك على هذا النحو مثلاً:
“ويقول الله تعالى عن أمثال جمال حمي وغيره من الذين يأخذون ببعض الكتاب ويتركون بعضه الآخر: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يُردُّون إلى أشد العذاب. وما الله بغافل عما تعملون. أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلا يُخفف عنهم العذاب ولاهم يُنصرون”(*). البقرة/ 85.
هذا هو تماماً منطقك عندما تطلق حكمك على جكرخوين وتقول إنه “حكم الله” حين تكتب: “ويقول الله تعالى عن أمثال جكرخوين وغيره مِن الذين يحاربون الله ورسوله (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ…إلخ”.
أرأيت كم هي سهلة يا أستاذ جمال أن يقوم أحدهم بجلب آية ليفصلها على الموقف الذي يريد ويجعلها ناطقاً بالحكم على الآخر؟
إن مسألة إطلاق الأحكام على الناس ومحاسبتهم شأن خاص بالله وحده يا سيد حمي، ولا يجوز لأحد أن يأتي بآية ليقول هذا حكم الله في فلان؛ فإذا كنتَ لا تعلم حكم الله في ذاتك التي تعرفها معرفة واسعة وعميقة، فهل من المنطق والعقل والأخلاق أن تطلق حكماً (باسم الله) على شخص لا تعرف عن عالمه الخارجي إلا النزر اليسير، أما الداخلي فلا تعرف عنه أي شيء؟ لا يحق للإنسان أن يقول (على هواه) هذا مؤمن وهذا كافر وهذا ملحد، هذا يدخل الجنة وهذا يدخل النار. إذا كان الله تعالى يقول لنبيه: “فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب”، فمَن تكون من حاكمٍ أو محاسب؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) المقصود بالكتاب في هذه الآية “التوراة”، ولكن هذا ينسحب على كل كتاب مقدس، ولا أظن أنك ستقول إنه يجوز لك أن تأخذ ببعض من آيات القرآن وتترك بعضها الآخر.