ميساء محمد ترسم لوحتها الأخيرة، و تعزف نشيدها الملتهب، و تحملها و تراكمات وجعها، و تمضي إلى السماء العاشرة،

غريب ملا زلال 
بخطوات كلها فعل وقواعد تأسيس للممكنات تمشي التشكيلية نحو أقاصي هضبات الوجود الإنساني بحثاً عن إستراتيجية الإنتقاء وتأثيث الأشياء في فضاءاتها التي تتوق إلى الرغبة في التعبير وفي إرساء شروط تفردها دون أي إلغاء لعملية الغوص في عمق الأشياء ذاتها.
ميساء محمدتمشي نحو أقاصي هضبات الوجود الإنساني
“البحث عن الصمت، ملك الأطراف، حجر الدم، مقام الصبا” عناوين لمجموعات التشكيلية ميساء محمد أو لمعارضها، تبعث على الكثير من التحفيز والتأمل، تقول الكثير مما تريد قوله ميساء، وتلخص الكثير من التي تسكن فيها بعيداً عن تبسيط العمل وعن تحديد مكان إقامته، عناوين لا تكتفي بإرهاقات الزحام وإختصارات المكان بل تلتجىء إليها وإلى أحداثها التي تقترب من الخيال، ذلك الخيال الذي يمنح العمل غنى وثراء،
 فميساء محمد من رسم البورتريه، إلى التراث والفولكلور والألعاب الشعبية، إلى الطبيعة، إلى ما بعد الطبيعة وفلسفة اللوحة وإختزال المفردات الجمالية تعمل على طرح منجزها الفني بتداعيات العارفة بسر الحالات السردية وعلاقاتها مع الظواهر الفنية المختلفة، العارفة بهموم المعبد وعشق الكهان، وبخطوات كلها ثقة، ودون تعثر برهاناتها الفنية تعيد إنتاج الحياة ونبضها بنصوص جديرة بالإنتماء إلى تلك الذاكرة التي تأبى مغادرتها، بل تصر على الهطول بقدوم الريح ودونه وبتأمل طويل تعيد بها ميساء تلك المكونات الملبدة بغيومها والتي تشكل حواسها وهي تبصر المدى، تعيد تلك المؤثرات المؤلمة بلوحتها والتي تعيد بدورها ذلك التوازن للروح بل لروحانية الزمكان حين تتلامس بين بعضها بعضاً هذه أولاً وكذلك حين تلتقي بأعالي سفر التفاصيل وهذه ثانياً، فبالميل نحو إستخدام دينامية معينة وبرصد ضلالات طقسية مقدسة إلى حد ما ستزج ميساء في لوحتها الكثير من المناخات التي سكنت في ذاكرتها تلك مع الإسهاب في الرجوع إلى الوجوه التي لا تنطفىء، الوجوه التي تحمل سحر الحياة حين تتداخل فيها تداعيات التاريخ بماضيه وحاضره وهي تسرد الوجع والحكايات.
بخطوات كلها فعل وقواعد تأسيس للممكنات تمشي ميساء نحو أقاصي هضبات الوجود الإنساني بحثاً عن إستراتيجية الإنتقاء وتأثيث الأشياء في فضاءاتها التي تتوق إلى الرغبة في التعبير وفي إرساء شروط تفردها دون أي إلغاء لعملية الغوص في عمق الأشياء ذاتها، فهي كحال التشكيلية سمر دريعي تصوغ بورتريهها مستقلاً بذاتها، تتحاشى العتبات وما يرمى عليها من قلق وخوف حتى تنفض عن نفسها غبار الأيام الكالحة، فلا مهرب لها إلا سطوحها، إليها تسافر بأحلامها وآمالها وآلامها، وعليها تبسط كل تلك اللحظات من فعلها الإنساني القادم من تراث شعبي قديم، تجعلها تحس ونحن معها بإيقاع شاعري دافىء تجري في سطوحها، فهي تفرش عقوداً من حياة أكلها العنف والخراب، وتلوثت بين معطيات الأحداث بأنيابها المميتة، وعلى خطورة ذلك تأتي ميساء وبتحد يهيمن على توجهها لتصنع لوحة فيها تستثمر ذلك الكم الهائل من التراث القديم وعلى نحو أخص ما يتعلق بمفردات البيئة والناس وحركاتهم من اللباس ومقتنيات فولكلورية خاصة إلى الألعاب الشعبية الطفولية، فهي وبإمكانات ناضجة وبذاكرة متقدة وبذكاء حاد تبرز أهمية المادة الإنسانية في لوحتها فهي الممتلئة بها، بتفاعلاتها ومشاعرها، بتداخلاتها وحسراتها إلى حد الإندفاع بحماس إنفعالي فيه من الحريق صخبه ومن السكون ذهوله لخلق غنائية تشعرها بالإعتزاز والنجاح، وتشعرنا بمدى إستنهاض طاقتها الإبداعية مع الإنحياز التام لجماليات تعبيرية نابضة بالمفاجأة والدهشة.
ولطقسها اللوني عزف خاص وخيار خاص، تؤكد على قدرتها على ترويض اللون وحالته وإن في ذاتها الملتهبة بالحلم والضوء، وتتحرك في أقانيم مرئيّة تتحول بين أصابعها إلى فيضان لوني يستمر بالصعود عالياً ضمن متغيرات دائمة ترجعها إلى معبدها الذي فيه تمارس طقوس لمساتها التي تسمع كمقاطع موسيقية كلاسيكية، وفيه تجمع تراكماتها المعرفية والتاريخية لتشكل تحريضاً عذباً لخلق إبداع تليق بخصوبتها وبأمكنتها المثيرة للنبض ولتحولات الضوء في روح عملها، فهي تؤسس لمصالحة صعبة بين الموروث والمعاصرة، بين حركات في شكلها المرئي وبين تفاعلاتها البصرية الحسية في شكلها الذي يرفض الثبات، فتسعى إلى تجسيد هذه المصالحة بالإمساك بروح المكان وبالإقتراب من التفاصيل الصغيرة، فالوفرة في الإنجاز والمصالحة تمنحها ملامح طريق الإستمرار فيه ضرورة وحافل بالتحولات التي ستعني لها أقصد لميساء محطة غير هادئة، بل مفصلية في سماع صوتها للمطر وللحقول معاً، ففلسفتها وبخط تعبيري يطغى عليها نزعتها الذاتية مع ماهو ممكن من النزعة اللحظية فتأخذ أطوارها من ملامح الزمن وتأثيراته، من رحم المسافة الممتدة من عبق الطفولة والألعاب الشعبية إلى أفق لا نهائي، وتنثرها على المساحات الواسعة لعملها ضمن حركات كثيفة وبإيماءات تصويرية قد تشكل إنعطافاً لبقعها اللونية المتدفقة من ينابيعها الحسية نحو أطوار قد تشكل صياغات لونية شرقية بنفحات لنغم إنتقالي تمنحها نوعاً من التحرر من القيود الكثيرة مع الإرتباط بثقافة تكاد تشكل زمرة دمها أقصد زمرة عملها.
معنى هذا أنها ترتبط على نحو لامتناهي بتلك الدعائم التي أرستها في جسد تجربتها، من سلسلة ملفوظاتها الإيمائية إلى سلسلة حركاتها المنجزة في سياقها المعرفي إلى تناول جغرافية التمفصلات في في الوجوه البشرية وتداخلاتها ضمن أكثر من مستوى وبأدوات بها تحقق معيارها المحدد في إخضاع غير هش لقواعد جديدة بقوانينها المفتوحة على السموات. 
ملحوظة :
كتبت هذه المادة قبل سنوات ، و أعيد نشرها الآن بعد أن صدمني نبأ رحيلها في هذا الصباح 01-06-2025 بعد صراع طويل و مرير مع المرض اللعين .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

يأتي الاسم- هكذا- ممتلئاً دافقاً بالبشرى بما يكفي ليشغل فضاءً واسعاً في ذاكرة الإبداع، والتشبث بالوطن وجباله وسهوله. دروبه. قراه. مدنه. وجوه ذويه. مزكين حسكو ليست مجرّد أديبة شاعرة وساردة تكتب قصائدها وأدبها بلغتها الأم، بل جذرٌ عميق في تربة القصيدة الكردية، فرعها الذي لا ينحني مهما تبدّلت الرياح. لم تأتِ من الهامش، بل…

عصمت شاهين الدوسكي

الاحساس المرهف يفجر المشاعر المكنونة والآمال الميتة

كلیزار أنور عندما فتحت عیناھا للحیاة وعرفت بعض أسرارھا، قاومت كل الأشواك التي تحیى حولھا ،أبت أن تكون نرجسه نائیة ، جرداء ، بلا نور ، خرجت من بین الطلاسم المظلمة لتغیر ذلك الهواء بهواء نقي وترفض التقالید الفكریة البالیة ، رسمت لنفسھا طریقا وعرا، شائكا، غائرا…

عبد الجابر حبيب

 

خطوةٌ واحدةٌ منكِ،

تكفي لتهوي الأبوابُ الثقيلةُ

التي حُشرتْ خلفها حكاياتُ الألمِ.

 

بخطوةٍ أخرى منكِ

سينهارُ الهرمُ المشيَّدُ فوقَ صدورِ الجائعين،

وتبتلعُ الأرضُ عذابَ البؤساء.

 

حتى بإيماءةٍ منكِ،

تعودُ إلى أصحابِها

مفاتيحُ المدنِ المفقودةِ،

ويجفُّ الحبرُ على النهاياتِ القديمةِ،

وتنفكُّ الأقفالُ عن السجونِ

دون أن يلمسَها أحدٌ.

 

بهمسةٍ منكِ،

واثقٌ بأن أصواتَ القتلةِ ستختفي،

ويذوبُ صليلُ البنادقِ

في فراغٍ لا حدودَ له،

وتسقطُ تماثيل اعتلَتْ عروشَ يأسِنا.

 

نعم، بمجرّدِ حضورِكِ،

يتمزّقُ…

إبراهيم سمو

شعرية الجرح والتحوّل أو ثلاثية التمرّد والرومانسية والمفارقة:

يشكّل شعر سعيد تحسين صوتا متفرّدا في مشهد الشعر العربي الحديث، يتميّز بقدرته على التوليف بين التوتّر الداخلي والاختراق الجمالي، بين الحُلم والخذلان، وبين اللغة بوصفها خلاصا، والوجود بوصفه سؤالا معلّقا.

يغترف “مهندس الأعمال الشعرية الكاملة” جوهر قصيدته من حواف الذات لا من استقرارها؛ حيث يتقاطع العاطفي…