المحور الرابع
ـ “الفكر النيّر” يواجه نقيضه.. فمَن يطفئ “نور الله”؟
د. ولات محمد
في المقال ذاته الذي تمت مناقشة فقرات منه في المحاور
الثلاثة السابقة يتابع السيد جمال حمي محاولاته لتشويه (يسميه هو تصحيح) صورة
جكرخوين والتقليل من قيمته في عيون الكورد فيقول:
الثلاثة السابقة يتابع السيد جمال حمي محاولاته لتشويه (يسميه هو تصحيح) صورة
جكرخوين والتقليل من قيمته في عيون الكورد فيقول:
“ولو
كان جكرخوين يملك فكرًا نيرًا وفلسفة إنسانية عميقة تصلح لتكون بديلًا عن فلسفة
الإسلام وطرح فكره وفلسفته بأدب واحترام وعن طريق الحوار ودون الإساءة إلى قناعات
الآخرين ودون احتقارها واحتقار المؤمنين بها، لقلنا
وقتها بأنه رجل مفكر وفيلسوف محترم، ويستحق أن ننظر في فكره وفلسفته وأن
نناقشها”. ..
من الواضح أن هناك مشكلة على الدوام في منهجية الكاتب؛ فكل مقاربته تقوم على افتراض أشياء ثم البناء عليها ثم إصدار أحكام بناءً على ذلك الافتراض؛ فمَن قال ـ مثلاً ـ إن جكرخوين كان “مفكراً وفيلسوفاً” حتى يرد عليه كلامه؟ ومن قال إنه يطرح نفسه بديلاً من أية آيديولوجا أخرى؟ وكيف استنتج الكاتب أن سخريته من الصوفية والمريدين (كما سيقول لاحقاً) كانت مطية للسخرية من الإسلام نفسه؟ وكيف استنتج أن الناس يرون فيه إلهاً وأنهم يعبدونه، كما سيقول لاحقاً أيضاً؟ كل هذا موجود فقط في مخيلة الكاتب القائمة على افتراض الأشياء لا حقائقها، إذ يستند في اتهاماته وأحكامه على رغبته من جهة، وعلى “يقال وقيل وقال وقالوا” دون ذكر اسم أي شخص أو مرجع من جهة ثانية. وهذا لا يُعتمد عليه في إطلاق الأحكام، ما لم يكن مدعوماً بما جاء في كتب جكرخوين نفسه (شعر، قصة، تاريخ)، أو بشهادات أناس عاصروه وعاشروه وحفظوا عنه مواقف وأقوالاً يمكن أن تكون مستنداً في هذا الإطار.
وبسبب غياب المنهجية والموضوعية عن كتابته ينفي الكاتب بسهولة أن يكون جكرخوين صاحب “فكْر نيّر”. وهنا أتوجه إليه مباشرة بالسؤال: إذن، مَن كان يا عزيزي برأييك صاحب الفكر النيّر في الزمان والمكان اللذين عاش فيهما جكرخوين ومارس نشاطه؟!:
ـ هل هم مثلاً أولئك الذين كانوا يخوّفون الأهالي (أو يحذرونهم) من إرسال أولادهم للتعلم بالقول لهم إن “المدارس تعلم الأطفال علوم الشيطان”؟
ـ هل هم أولئك الذين كانت أفعالهم اليومية تتناقض مع أقوالهم الشرعية، فيقولون للناس “اعملوا بأقوالنا ولا تعملوا بأفعالنا”؟
ـ هل هم أولئك الذين كانوا يحكون للناس في الليالي المظلمة وعلى ضوء لمبة الكاز حكايات الجان والخرافات التي كانت تعشعش في العقول فتمنعها من التفكير والإبداع وتصيب أصحابها بالرعب، فلا يجرؤ أحدهم تخطي عتبة الباب ليلاً خشية أن يظهر له في الطريق عفريت أو جان يقوم بخطفه أو ابتلاعه كما سمعها من صاحب الحكاية/ الخرافة؟
ـ هل هم أولئك الذي كانوا يرون الناس مجرد خدم يعملون في بيوتهم أو عمال يعملون في أراضيهم وحقولهم؟!
مقابل كل هؤلاء المفسدين كان جكرخوين يشجع الناس على إرسال أولادهم للمدارس لتلقي علوم الحياة (كما تفعل أنت وأولادك الآن بعد مائة عام من ذلك الوقت)، وكان يبين لهم أنه ليس من مصلحة بعض رجال الدين والآغوات والمخاتير والإقطاعيين أن يتعلم أولادهم لأن العلم يفتح العيون (الوعي)، وأن الوعي يشكل خطراً على وجود هؤلاء الذين كانوا يعتاشون على جهل الناس، كما كان يدعوهم إلى عدم تصديق الخرافات أو الخوف منها. ذاك ما كانوا يفعلون، وهذا ما كان يؤديه جكرخوين وأمثاله من دور، فأيهما كان صاحب فكر نيّر؟ أترك لك الجواب.
الناس آنذاك كانوا جهلة، وكانوا يطيعون رجال الدين وينفذون تعليماتهم ومواعظهم وأوامر الآغا والمختار والإقطاعي. وهنا كان أصحاب “الفكر النير” ومنهم جكرخوين يقومون بفضح لعبة رجال الدين والإقطاع. ومن هنا كان يحدث الصدام بين الطرفين: طرف يستغل جهل الناس ويعمل على تجهيلهم وطرف يفضح هذه اللعبة ويعمل على توعية الناس وتعليمهم.
إن تجهيل بعض الملالي والصوفية للناس واستغلال جهلهم وتعطيل عقولهم وزرع الخرافات بدل الفكر في رؤوسهم وبث الخوف والضعف في قلوبهم هي أعمالهم التي وقف ضدها جكرخوين، وليس إيمانهم بالله كما تقول. وإليك دليلين على ذلك:
الدليل الأول، أن جكرخوين لم يكن ينتقد سلوك بعض رجال الدين فقط، بل أيضاً سلوك الآغوات والبكوات والملاكين والإقطاعيين، أي كل أولئك الذين كانوا يستغلون جهل الناس وتعبهم وفقرهم وقلة حيلتهم، ويحاولون إبقاءهم على جهلهم. لذا كان جكرخوين يذكر في شعره غالباً تلك الفئات كحلف واحد (بينهم تحالف غير معلن) كي يفضحهم جميعاً أمام الفئة الثانية المكونة من البسطاء والفقراء والفلاحين، لأن رجال الدين كانوا يقفون إلى جانب صاحب المال والسلطة (أو يسكتون عنه)، وليس ضده إلى جانب عموم الشعب (هل وقف يوماً رجل دين مع الناس ضد ظلم مختار أو آغا أو إقطاعي؟). ومن هنا لم يكن تهجم جكرخوين على رجال الدين بسبب دينهم أو صلاتهم أو صيامهم، بل لأنهم كانوا جزءاً من تلك المنظومة التي كانت تضحك على الناس وتؤذيهم أو تسكت على ظلمهم أو تسوغه.
الدليل الثاني، في برنامج حواري بعنوان “سيدايي جكرخوين بعد 40 سنة من الرحيل” بُثّ بتاريخ 10/ 5/ 2024 على شاشة تلفزيون peyv TV يقول الروائي والمحامي جميل إبراهيم: “كنت عام 1971 معلماً في مدرسة تل معروف، وأخبرني الشيخ عبد الرحيم الخزنوي بأن جكرخوين عندما طبع ديوانه الأول جاء إلى بيت الشيخ أحمد وأهداه نسخة من ديوانه، فقدم له الشيخ تقديراً لعمله مكافأة قدرها 100 ليرة سورية آنذاك، وكان مبلغاً ذا قيمة”. يُفهم من هذا الموقف أن العلاقة بين جكرخوين وكبار رجال الدين في المنطقة كانت علاقة ودية قائمة على التقدير المتبادل لا علاقة عداء بالعموم كما تحاول أن تصور. بمعنى أنه لو كان هناك فعلاً موقف سلبي متبادل بين رجال الدين عموماً وجكرخوين ـ كما تقول ـ لما قام جكرخوين بمثل تلك الزيارة أبداً ولما قام الشيخ بمثل ذلك التقدير مطلقاً، بل لما كان استقبله في بيته من الأساس. وهذا يكشف أيضاً لعبتك في توظيف عبارة “رجال الدين” في مقالاتك؛ فالذين انتقدهم جكرخوين كانوا فقط بعض الملالي والصوفية والمريدين الذين كان معظمهم أميين أو أشباه أميين أو أنصاف متعلمين يخطئون حتى في قراءة القرآن، ناهيك عن فهمهم له، ولكنهم مع ذلك كانوا يلبسون ثياب رجال الدين فيعظون ويفتون ويأمرون وينهون، دون أن يكونوا مؤهلين علمياً لذلك. وهذا ما جعلهم موضع انتقاد جكرخوين وسخريته آنذاك، لأنه ـ بحكم تعلمه في المدرسة الفقهية ـ كان يستطيع بسهولة أن يكشف أخطاء فتاواهم ومواعظهم ويجعلها موضع تندر.
كل هذا يكشف أن جكرخوين لعبَ دوراً توعوياً تنويرياً آنذاك مقابل أدوار التجهيل الممنهج التي كان يقوم بها الإقطاعيون والملاك وبعض ممن تسميهم “رجال الدين”، وأنه لم تكن له مشكلة مع رجال الدين بسبب إيمانهم، بل بسبب سلوك بعضهم المعادي لمصلحة الناس. وهذا يدحض تماماً كلامك اللاحق أيضاً عندما تكتب: “ومن يقول بأنه كان ينتقد مشايخ الصوفية وحالة المريدية فقط، فهو كمن يحاول تغطية الشمس بالغربال!، بل هو كان يتهجم على الإسلام نفسه كدين وعقيدة وشريعة، وأشعاره شاهدة على ذلك، أما بعض الصوفية الذين كان يسخر منهم، فكانوا مجرد مطية له للقدح في الإسلام نفسه، ولسنا بهذه السذاجة حتى لا نفرق بين الأمرين”.
كلامك هذا يفنده ما جاء في مقال آخر لك تقول فيه إن الشعراء والفنانين الكورد كانوا يسبحون بحمد الماركسية والشيوعية ويحاربون الله، وتذكر جكرخوين وشفان برور وجوان حاجو ودلكش كأمثلة على ذلك، ثم تأتي بمثال من إحدى أغاني دلكش لتدعم به ادعاءك وتقوم بترجمة كلمات الأغنية بنفسك وتقول: “وتعني بالعربية: اضربوا اضربوا، اضربوا أيها الأخوة، أقتلوا الآغاوات وأبرحوا المشايخ ضربًا!”. وهنا من فمك أدينك لأن مثالك هذا يدعم كلامي ويدحض ادعاءك؛ فإذا كان هدف الفنان دلكش هو محاربة الدين ورجاله كما تقول، فلماذا يدعو إلى قتل الآغوات؟! الجواب: لأنه يدعو إلى محاربة كل من يستغل جهل الناس ويضحك على عقولهم، سواء أكانوا رجال دين أم غيرهم كما بينتُ سابقاً. وهذا تماماً ما كان يفعله كل من جكرخوين وجوان وشفان الذين وضعتَهم بنفسك في سلة واحدة من أحكامك.
كل هذا يثبت أن ما كان يفعله جكرخوين لم يكن “احتقاراً لقناعات الآخرين وللمؤمنين بها” كما تقول، بقدر ما كان حرباً على مستخدمي تلك القناعات لتحقيق مصالحهم وإيذاء الناس الذين من المفترض أن تقف معهم، لا مع من ظلمهم وآذاهم، حتى لو كانوا ممن تسميهم “رجال دين”. لذلك إذا كنت تبحث حقاً عن صلاح الناس كما تقول فعليك أن تشكر جكرخوين على صنيعه لا أن تهاجمه؛ فإذا كنت الآن تقرأ في كل العلوم (الدينية وغير الدينية) وترسل أولادك (بناتاً وصبياناً) إلى المدارس والجامعات كي يتعلموا كل شيء، فهذا يعني أنك تفعل ما دعا إليه جكرخوين قبل مائة عام وحارب من أجله المفسدين والمتخلفين، ولكنك في نفس الوقت تهاجمه وتدافع عنهم. وتلك لعمري مفارقة مذهلة!!! ولكن يبقى السؤال: مِن بين أولئك جميعاً مَن برأيك كان صاحب “الفكر النيّر”؟!
من أطفأ / يطفئ نور الله؟
في منشور صغير يكتب السيد جمال حمي ما يأتي:
“آن الآوان للشعب الكوردي أن يعرفوا حقيقة هُبَل الكورد (جكرخوين) ونقول لعبيده ….
إن كل الذين حاربوا الله ورسوله ودينه على مر التاريخ ماتوا وانقبروا وأكلهم الدود وأصبحوا ترابًا وبقي الإسلام شامخًا وسيبقى شامخًا إلى ما شاء الله، وهذا وعد الله تعالى للمؤمنين في القرآن الكريم الذي قال: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) 8 الصف، وها هو الإسلام يتربع اليوم على عرش أسرع الأديان انتشارًا حول العالم وبدون سيوف ورغمًا عن أنوف الحاقدين، والحمد لله رب العالمين”.
أولاً، إلى ماذا تستند عندما تقول إن بعض الكورد يرون في جكرخوين رباً وإلهاً وصنماً يعبدونه؟ إن هذا الكلام لا يستند إلى أي شيء؛ فلا جكرخوين أعلن نفسه إلها ولا الناس يرون فيه إلهاً ورباً وهبلاً. إن هذا افتراضك الشخصي وادعاؤك الذي جعلت منه حقيقة ثم بنيت عليها كي تلعب بعواطف فئة من الناس، بينما في المقابل وفي الواقع أنت من وضعت نفسك في موقع الإله عندما حكمت على الرجل وحددت جزاءه؛ فمَن منكما زاحم الإله على مكانه؟!
ثانياً، أنت تقول “إن كل الذين حاربوا الله ورسوله ودينه ماتوا وانقبروا وأكلهم الدود”، فهل الذين لم يحاربوا الله ورسوله لم يموتوا ولم يأكلهم الدود؟!! إنك تحاول بخطاب عاطفي منفعل مندفع غير محسوب أن تجير كل شيء لخدمة ما تدعيه حتى لو كان خارج المنطق.
ثالثاً، إذا كان لديك كل هذا الاطمئنان على أن الإسلام أسرع الأديان انتشاراً في العالم، فذلك يعني أن ما فعله جكرخوين وغيره لم يكن له أي أثر سلبي يذُكر على إيمان الناس وانتشار الدين، فما الذي يثير حنقك وغضبك على الرجل إذن؟ وما الذي دفعك كي تهين الملايين من الكورد وتهين أحد رموزهم، ما دامت آراؤه لم تؤثر في انتشار الإسلام وتصدره أديان العالم كما تقول؟
رابعاً، إذا كانت غايتك فعلاً الدفاع عن الدين، أفلا يوجد في العالم اليوم من الأحياء من هو أجدر من جكرخوين بأن تخصه بمواجهتك؟ لماذا تركت كل أولئك الأحياء الناشطين وذهبت إلى جكرخوين الذي لم يعد موجوداً منذ أربعين عاماً؟ لماذا اخترت شخصية كوردية ثقافية قومية يحبها عشرات الملايين من قومها ويرونها رمزاً لقيم جميلة كثيرة؟ إن مثل هذا السؤال يضع مسعاك وهدفك منه موضع شك!!
خامساً، إذا كان هدفك فعلاً إتمام “نور الله” كما توحي للقارئ فإن الله تعالى نفسه يتكفل بذلك لأن “الله متم نوره” لا العباد. لذا لا تحتاج في ذلك إلى شتم جكرخوين والإقلال من قيمته ولا إلى تصويره للناس وكأنه أخطر ما في الوجود على الإسلام. إذا كنت حريصاً فعلاً على نور الله، فابحث عن مصادر الخطر عليه في أماكن أخرى، لا في سيرة حياة جكرخوين التي لم يقتل فيها يوماً حتى عصفوراً، ولا في أفكاره وأشعاره التي لم يدعُ فيها أبداً إلى رذيلة أو فتنة أو قتل أو ظلم أو جهل أو ظلام، بل دعا دائماً إلى العلم والمعرفة
والعمل والتحرر والعدالة والمساواة والمحبة والسلام والنور.. أفَلَيْسَ كل ذلك بحق؟
ألَيْسَ في الحق نور…؟
والعمل والتحرر والعدالة والمساواة والمحبة والسلام والنور.. أفَلَيْسَ كل ذلك بحق؟
ألَيْسَ في الحق نور…؟