من لم يكن له لسان

إبراهيم محمود

لم يُعط ِ اسمَه لأيّ كان
لم يلتقط صورةً مع أحد
قيل الكثير فيه على أنه
من دون لسان
قلة قليلة جداً كانوا يعرفونه في صورته
وعن بُعد
كان يسكن بعيداً بعيداً
عن الآخرين
لم يكن يألف الساحات العامة
الشوارع الواسعة
الحدائق المضاءة
الأعراس المفتوحة
الحفلات دورية
لم يُر يوماً في أمكنة
الأيدي وحدها تتكلم
المؤخرات وحدها ترسم تاريخها فيها
لم يكن يشاهَد في النهار
إلا قليلاً
ما كان يُرى في الليل المقمر
لا صورة له نشِرت ضمن قطيع بشري
هنا وهناك
ما أكثر ما شُكَّ في أمره
وحده كان قلبُه
يصل ما بين السماء والأرض
يجيد لغة الكائنات الحية بمهارة رحبة
يتناغم مع النباتات كثيراً
كان يبصر على مدى أميال ببصيرته
في الليل البهيم يخرج
ما من صخرة في مدينته
إلا ويمرر عليها راحتيّ يديه
ينظّفها مبتسماً مردداً في نفسه:
سيقتعدها عاشقان 
يتدفقان حياة
وذاكرة غد عائلية بهيجة
ما من وردة يقطفها محبّان
وهي مشرقة 
إلا ويدركان أن يده قد أحالها مشعة
ما من شجرة تنفجر خضرة وهواء نظيفاً
إلا ويُدرَك أن يده وراء زهوها ذاك
ما من نبع صاف نظيف كريستالي
إلا ويدرَك أن يداً 
هي يده
قد نزع عن سطح مائه
 ما سقط عليه من ورق جاف وسواه
ما من رصيف شارع خلوّ من الحصى
إلا ويعرَف أن يده 
هي التي صيّرته نظيفاً 
ما من طاعن في السن يُرى متكئاً على أحدهم
إلا ويدرَك أنه هو
ما من طفل يبكي في حضن أمه
ثم ينقلب مبتسماً
إلا ويدرَك أنه هو من هدَّأه
ما من قلب حزين مغموم
يستحيل مأخوذاً بأمل ما
إلا ويدرَك أن دندنة استثنائية
وراءه
دندنته تشير إليه هو بالذات
انقطعت أخباره فجأة
لم يعد الشجر كما كان
لم يعد النبع كما كان
لم يعد رصيف الشارع كما كان
لم يعد الورد كما كان
ما أكثر ما كان يُسمَع بكاء طفل من بعيد
ما أكثر ما كان يتسمر طاعن في السن في مكان ما
موشكاً على السقوط
ما أكثر القلوب التي انضغط عليها حزناً وغماً
دون مؤاساة تذكَر
لم يأت على سيرته أحد
ولا في صفحة الوفيات
وحدها صخور المدينة
فوجىء بها أهلوها
وصورته محاطة بهالة غريبة
محفورة في كل صخرة منها
دهوك:الساعة الخامسة والعشرون، ليوم 28-6-2024

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

حين وقعت بين يديّ المجموعة الشعرية “مؤامرة الحبر، جنازات قصائد مذبوحة”[1] للشاعر فرهاد دريعي، وأردت الكتابة عنها، استوقفني العنوان طويلاً، بدا لي كمصيدة، كمتاهة يصعب الخروج منها فترددت في الدخول، لكن مع الاستمرار في القراءة وجدت نفسي مشدوداً إلى القصيدة الأولى بما تحمله من غنى وتعدد في المستويات، فهي تكاد تكثف فلسفة…

فراس حج محمد| فلسطين

لا أقول صدفة، فأنا لا أحبّ موضوع الصدف، ولا أومن فيه، لكنّ شيئاً ما قادني إلى هذا الكتاب، وأنا أتصفّح أحد أعداد جريدة أخبار الأدب المصريّة (عدد الأحد، 26/10/2025)، ثمّة نصّ منشور على الصفحة الأخيرة لـ “نجوان درويش”، بعنوان “بطاقة هُوِيّة”، لوهلةٍ التبس عليّ الأمر فبطاقة هُوِيّة اسم قصيدة لمحمود درويش، وهي…

مصطفى عبدالملك الصميدي/اليمن*

تُعدّ ترجمةُ الشَّعر رحلة مُتفَرِّدة تُشبه كثيراً محاولة الإمساك بالنسيم قبل أن يختفي سليلهُ بين فروج الأصابع، بل وأكثر من أن تكون رسماً خَرائِطياً لألوانٍ لا تُرى بين نَدأَةِ الشروق وشفق الغروب، وما يتشكل من خلال المسافة بينهما، هو ما نسميه بحياكة الظلال؛ أي برسم لوحة المعاني الكامنه وراء النص بقالبه…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

تَتميَّز الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتب اللبناني الأمريكي جُبْرَان خَليل جُبْرَان ( 1883_ 1931 ) بِعُمْقِها الفَلسفيِّ، وقُدرتِها عَلى تَجاوزِ الماديَّاتِ ، والتَّعبيرِ عَن الحَنينِ إلى مَا هُوَ أسْمَى وأرْقَى في النَّفْسِ البشرية . وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد شُعورٍ أوْ طُقوسٍ تقليدية ، بَلْ هِيَ حالةُ وَعْيٍ مُتكاملة…