هند زيتوني| سوريا
تفاجئنا الشاعرة نينا عامر بعنوان ديوانها المدهش، والمثير للجدل “أسلحة أنثوية عديمة النفع” فهي تجعلنا نسأل، هل جمال الأنثى ورقتّها هو أمرٌ عديم الفائدة أو الجدوى؟ وهي تحتاج إلى أسلحة أخرى؟ أم هي أسلحة كافية؟ وهل القسوة تستطيع أن تحطّم الرقة؟
تقولُ في نصّ أسلحة أنثوية عديمة النفع: “إنّني متسخة بالحياة التي عشتها/ يبدو أنّ ذخيرة أسلحتي لم تعد نافعة/ بالدمع أقيسُ حبّي/ بحنان أفتحُ ضفائر الشجارات”.
تكتبُ نينا عامر قصائدها بخاصيّة متفرّدة، يعشقها القارئ لانسيابيتها الغارقة بالجمال والمفرطة بالعذوبة والرقّة الجارحة. هذه الشاعرة نصوصها تصلح كنموذج للدفاع عن قصيدة النثر. وليس كل ما يُكتَب نثراً. ونحن نواجه بهذا الديوان أصحاب الشعر الكلاسيكي الباهت. ففي هذا الديوان جرأة في الحداثة وجرأة في تجاوز المألوف.
فهي في الشعر لا تخشى لومة لائم، تفرغُ كلّ ما في جعبتها من ألم وحنين وجروح غائرة بجرأةٍ عالية. تنزعُ أشواك جلدها على الملأ وتعرّي وجه الحبيب الظالم تارةً ووجه المجتمع القاسي تارةً أخرى. فهي تطالب بحقها في الحياة بالطريقة التي تحبها.
تقول: “عربات أيامي تجرّها سلاحف مرهقة/ تلك المزاجية المزعجة التي تشكو منها الأمهات بات يشكو منها عشيقٌ أربعيني”. وفي قصيدة “فستان أحمر مستلقٍ على الذاكرة” تقول: كيف أخبرك أنني عائمة في البلل/ بينما لن أجفّفه معك؟/ أذكّر نفسي أن خشونتك ليست إلاّ انعكاساً للظلام/ قسوتك التي لا تكسرها رقّتي.
تحاول أن تجد حلاً لحياتها وربما لحياة الكثيرات قبلها من النساء الخجولات. كما فعلت الشاعرة النسوية الأمريكية سيلفا بلاث والشاعرة الفرنسية، سيمون دي بوڤوار، والشاعرة المكسيكية فريدا كاهلو. والحلّ لا يكمن عندها بإنجاب طفلٍ كما يريد المجتمع. تقول: لماذا تتكبّد النساء عناء إنجاب طفلٍ/ لن يضطر على الأقل لمسح الغبار عن مشاعرها الطرية؟ فهنا يعلو صوت الأنثى بجرأةٍ وتمرّد، فهي ترفض أن تكون آلة إنجاب لتسعد الآخرين!
تقول الشاعرة نينا عامر: صنعتُ حياتي التي أُحِب/ حفرتُ لها تربة / في أرض من السيراميك ولم تخذلني/ نبتت من تربة السيراميك/ ألفةً ومزاج رقيق وجمعات عائلية.
كما أن هناك توقاً وجنوحاً نحو الحرّية التي لا تزال غائبة في مجتمعنا الشرقي. فالعيش تحت سقف العائلة الشرقية قد يفقد الأنثى أجنحتها ويغتصب سماءٍ حريتها. الأنثى التي تريد أن ترتدي ثوباً يناسبها، تجدُ أثواباً مفصلةً مسبقاً من قبل ولادتها. فهي تارةً واسعة لا تصلح لجسدها؛ أو ضيقة جداً لا تناسب مقاسها. والشيء اللافت في هذا الديوان أنّ الشاعرة هنا، تكتب بجرأة قد تعجز عنها الكثير من الشاعرات بسبب الخوف والعادات الاجتماعية القاسية والشعور بالذنب أحياناً لأنها ستعاقب من قبل السماوات والأرض معاً.
لكن الشاعرة نينا تكتب بحبر القلب. وتحمل غيمة الشعر على كفّها لتهطل على العالم الغارق بالحزن والآفات المنتشرة به من زمنٍ بعيد. فهي ترسمُ لنا صوراً باذخة مليئة بالوجع والقلق والمعاناة.
تقول الشاعرة: الكلام المُرّ الذي/ يتفوّه به رجال العائلة/ على أية حال سأخرجه في الصباح من جسدي كفضلات/ بعدما أشربُ فنجان قهوتي مع سيجارة/ هذه سياسة فعالة للتعايش مع العائلة. ثمّ تعترف لنا: هذا العالم ليسَ مكاناً مناسباً للتنزّه.
الشاعرة تصورُ لنا الأنثى التي ما زالت تحيا كفراشةٍ معذّبة ترفرفُ فوق مصباح الشرق إن اقتربت منه احترقت وإن ابتعدت اتهمت بالإثم والجنوح. ولكن الأنثى هنا فتاة متمردة، معجونة بماء القصائد، ولذا عليها خلْق عالمها الخاص بها. عالم لا يوجد فيه سجان ولا أرض محاطة بالأسلاك الشائكة. ولذا ستعتبر أن الكلام والشجارات شيء سوف تبتلعه وتخرجه مع فضلاتها.
تقول في “نص كورسيه سكسي”: أشتّمُ رائحتك في روحي/ وأنظر طويلاً إلى ردفي على المرآة وأصفعها بالنيابة عنك/ هذا كل ما احتاجه لبدء يومٍ جديد.
ثمّ تقول بنبرةٍ صادقة ورغبةٍ عارمة: أغالب رغبتي في كتابة/ رسالة نصّية إليك محتواها/ أشتهيكَ بعنف. فنرى هنا بالرغم من قسوة الحبيب ومازوخيتهُ، ما زالت تفتًش عن الحُبّ ولها جسدٌ يتوق للحنان والرغبة والجنس.
وعندما تتحدث الشاعرة عن الحُبّ الشفاف، نرى أنها تمتلك خيالاً بديعاً وتكتبُ بلغةٍ شديدة العذوبة. شعرتُ خلالها بأنها تشبه الفرسَ الجامحة التي تبحثُ عن فارسٍ يجيد قطع المسافة ويفهم لغة الصهيل. تقول في قصيدة “عيناك اللتان أحُبّ”: أصنعُ منك أحلى الأشياء/ فستان حريري مضاء بأصابعك/ ضحكة شهيّة محلاة بصوتك/ كرزة دامية مثل روج أحمر، هي شفتي الملونة بقبلاتك. وفي قبلةً هوائية تقول: أُحبّك برعم وردة/ يزهر من حلمه/ امرأتك الأحلى/ حين تبتسم لصورتي في المرآة.
يا لهذه اللغة الباذخة، الغارقة بالعطر والجمال الآخّاذ! تجذب القارئ وتحملها على بساطٍ ساحر لتضعه على شاطئ الجمال والتأمل والشعر الأنثوي الجميل.
ولكن السؤال هنا؛ هل الحب يحتاج إلى عباءة الحرية؟ ليستطيع الظهور والتجلّي أمام العالم؟ وهل الأنثى الشرقية ما زالت تبحثُ عن سماءٍ بلا قضبان؟ وما زلت تعاني كطائرٍ مقصوص الأجنحة؟
تقول الشاعرة في قصيدة صائد الفراشات: السماء في قلبي والطائر في القفص/ لستُ حجراً/ بل جرعة هائلة من السعادة/ لا آثار لأقدام الحب هنا/ سوى معطف أسود على ياقته تلمّعُ كأنها قصيدة حُبّ. فهنا ربما تتمنى الشاعرة لو أنها خُلقت بجناحين لا بذراعين مقيدتين لا يستطيعان التحليق، والعيش كما يشتهي القلب.
في النهاية أستطيع القول مع أن الديوان كشف عن مساحات من الحزن المترامي في سهول قصيدتها، وعن قلبٍ كسره الحُب، الذي لا يخفى على القارئ، نجحت الشاعرة نينا عامر نجاحاً باهراً بتقديم ديوان رائع، محمل بقصائد وارفة، كُتبت بأسلوب ساحر، غير متكلف وغني بالاستعارات الفريدة، المضمّخة بعطرٍ عصي على النسيان.