شوارع دهوك تتنفس السكَينة في الهواء الجذْل

إبراهيم محمود

لشوارع دهوك…
  عاداتها التي تسمّيها
وإن كانت تشد آتيها بيد
وتهدهد ماضيها بأخرى
على شرفة روحها الملطَّفة
لا تحمل في يدها ساعة
لتكون عينٌ لها على الزمان
ورِجْل لها في المكان
طيّ ساعتها
 ينتظم الزمان والمكان
مثلاً ، وهي:
تمنح كل فصل
-كعادتها هذه المرة-
 ما يناسبه من مهارة التألق
مثلاً تخرج كل فصل 
إلى أعالي عامها
وكيف يهذّب أيامه
مثلاً، وهي:
تصعد بكامل كبريائها
إلى سمْت مفاتنها المأثرة
لتبقي جهاتها مأخوذة باسمها
ما بقي دهرها
شوارع يشدها الحنين إلى بعضها بعضاً
يشد بعضَها إلى بعضها نسَب
لا يقلّد في نسخته دهوكياً
مثلاً:
شوارع دهوك لا تنام
يعلِم كل شارع 
بقية أشقائه
عن كل نأمة في حدوده وأبعد
في الليل..
 تنبسط على كامل مساحة مدينتها
مخلصة لمهمتها المعتبَرة
وهي أن 
تبقى على وفائها للنجوم
حين تنحدر كل ليلة
لتمارس لهوها المعتاد 
على رؤوس أفنان أشجارها
لتصغي إلى واديها العليم
وسرديات الثبات في العمق
لطمأنة الجبل 
أن كل شيء على ما يرام
وهي في يقظتها الكاملة
تعرف شوارع دهوك
أهلها عن غربائها
تبعاً لرائحة خطو كل منهم
لها بصيرة في 
الفصل والوصل بين ما يتكلم باسمها
وما يكون مثار شبهة
لا أحد آخذٌ بشوارع دهوك علماً
بمثل هذه الدقة الشامخة
سوى الذين يتدثرون باسمها شتاء
للقاء أحلام دافئة
الذين يطلقون المدى لخطاهم صيفاً
للقاء صفاء يزهزه المكان
لنسائها 
ما يبقينها وصلاً
بين نبع جار بسلسبيله في العمق
ونجمة مسجلة 
باسم كل بارعة قوام منهن
مؤمَّن على صحوها ونومها
في شوارع دهوك
يحدث أن يلتقي عابرُها الليلي
شجراً متنقلاً بزهوِ ورقه
كل شجرة موصولة القربة 
بنبع لا يغفل عنه
على مدار الساعة
كل شجرة مسنودة
بنجمة من لونها وشكلها 
كلما جد الجد
بين ساحة وأخرى
ساحة تروّح عن نفسها
في مضافة ساحة أخرى
لتمنح روحها رواء أكثر
منعطف يناغي سواه
في الجهة الأبعد منه
ليعيش يقين أمضى
في معايشة الطمأنينة
شوارع دهوك
لا تحب التأويل كثيراً
من يعيشونها يراهنون على تفسيرها
الذي لا يِشَك في صلابة صخر
أو في دعة زهره
أو ودعة طائره
أو خفة روح فراشه المدوية
أو سعة مجاله الحيوي
فهي ماضية في رداء الورد على فصالها
وتنبسط ظلاً لجبلها الذي
 ينادم نجمة الصباح دائماً
تنفتح أفقاً لا يجارى
لشاعر أضناه انتظار إلهام
لكتابة قصيدة
 قبل الهزيع الأخير من الليل
تتسع فضاء سابحاً في سلاسته
حيث عشاقه الغديون
يتبارون بأحلام قلوب
 معلقة بعقود قادمة
من السنين
أياديهم ينيرها الحنين الواعد
وشفاههم يعززها رنين عناقات صاحب
شوارع دهوك..
 لا تخفي حدود إقامتها في الحياة
كيف تصل بين ليلها ونهارها
تعرف كائناتها مذ وجِدت دهوك
لكل كائن ما يكون
 أهلاً لثقة كاملة
مثلاً
لم يحصل قط أن 
سطت نملة دهوكية على حبة حنطة
من حقل غير حقلها
لم يحصل قط أن
غار عقاب دهوكي
على حمامة 
في الحدود المجاورة لحدودها
لم يحصل قط أن 
طارت نحلة دهوكية
لتشحن روحها بأريج نبتة 
تخص مدينة أخرى
لم يحصل قط أن 
تسلل سمندل
إلى حقل ملاصق لحقلها
لم يحصل قط أن
اختلس نبع دهوكي
ماء من نبع مقيم
خارج حدود صلاحياته
شوارع دهوك
أمنتْ على نفسها كثيراً
إذ وجِدت وفي روحها
حرية أن تكون
موقَّعاً عليها باسم دهوك
وأن تبقى في عهدة دهوك
كردية في صمتها وصوتها

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

كان مخيم ( برده ره ش ) يرقد بين جبلين صامتين كحارسين منسيّين: أحدهما من الشمال الشرقي، يختزن صدى الرياح الباردة، والآخر من الغرب، رمليّ جاف، كأنّه جدار يفصلنا عن الموصل، عن وطنٍ تركناه يتكسّر خلفنا… قطعةً تلو أخرى.

يقع المخيم على بُعد سبعين كيلومتراً من دهوك، وثلاثين من الموصل، غير أن المسافة الفعلية بيننا…

إدريس سالم

 

ليستِ اللغة مجرّد أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية، باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن فيه الذات…

مازن عرفة

منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، يتسارع الزمن في حياتنا بطريقة مذهلة لا نستطيع التقاطها، ومثله تغير أنماط الحياة الاجتماعية والإنسانية، والاكتشافات المتلاحقة في العلوم والتقنيات، فيما تغدو حيواتنا أكثر فأكثر لحظات عابرة في مسيرة «الوجود»، لا ندرك فيها لا البدايات ولا النهايات، بل والوجود نفسه يبدو كل يوم أكثر إلغازاً وإبهاماً، على الرغم من…

أصدرت منشورات رامينا في لندن كتاب “كنتُ صغيرة… عندما كبرت” للكاتبة السورية الأوكرانية كاترين يحيى، وهو عمل سيريّ يتجاوز حدود الاعتراف الشخصي ليغدو شهادة إنسانية على تقاطعات الطفولة والمنفى والهوية والحروب.

تكتب المؤلفة بصدقٍ شفيف عن حياتها وهي تتنقّل بين سوريا وأوكرانيا ومصر والإمارات، مستحضرةً محطات وتجارب شكلت ملامحها النفسية والوجودية، وموثقةً لرحلة جيل عاش القلق…