صدرت حديثاً عن منشورات رامينا في لندن رواية “ليالي الرقّة الحمراء” للروائيّ الكرديّ السوريّ آلان كيكاني، المقيم في المملكة العربية السعودية.
تتغلغل “ليالي الرقة الحمراء” في أعماق مجتمع يضجّ بالكثير من التناقضات، يروي لنا كاتبها سيرة الطفل نايف الذي وُلد في مدينة الرقّة السوريّة وأمضى فيها عمره، وحلم أن يصبح رائد فضاء مثل بيوري غاغارين، لكنّه وجد نفسه في واقع مرير حين فقد ربيعه وانتقل بشكل صادم ليعيش في خريف موحش قاتل.
بالنسبة للطفل الذي تهدر طفولته، يختبئ الشقاء في كلّ زاوية ويتجلّى الظلم في كل لحظة. تسرد الصفحات قصّة هذا الطفل الذي يعاني من تجاوزات كثيرة بحقّه، حيث يُستغلّ من دون أيّ رأفة أو رحمة.
تشدّ الرواية القارئ إلى عالم مظلم يعتريه الشرّ، وترتحل إلى أعماق الظلم والاستغلال بحثاً عن النور، وتكشف النقاب عن ألم الأطفال الذين يكبرون في ظلّ مجتمع لا يراعي براءتهم وطفولتهم.
تعكس الرواية صوراً حية للمدينة وريفها خلال فترات زمنية مختلفة، حيث تتقاطع ذكريات الطفولة مع الأحداث المروعة التي شهدتها المدينة، مما يخلق نسيجاً درامياً غنياً يعكس واقع الحياة اليومية بكل تفاصيلها الدقيقة.
“ليالي الرقّة الحمراء” رواية عن الطفولة المهدورة والشباب الضائع والمآسي المتناسلة من بعضها بعضاً في مجتمع لا يرحم، يصوغها آلان كيكاني بطريقته المدهشة في تقديم الحكاية المأساوية بفنّية عالية وبراعة لافتة.
يشار إلى أنّ لوحة الغلاف للفنان التشكيليّ الكرديّ السوريّ رشيد حسو، وتصميم الغلاف للفنان ياسين أحمدي، وجاءت الرواية في ٢٤٤ صفحة من القطع الوسط.
تعريف بالمؤلف:
آلان كيكاني: طبيب وجرّاح وروائيّ كرديّ سوريّ. ولد في حلب عام 1972. يعمل في المملكة العربية السعودية كطبيب مختصّ في الجراحة العامة، من أعماله المنشورة في القصّة: “قلب من ذهب”. وفي الرواية: “ليل ولات الطويل” و”مذكرات الملازم الطبيب”. كتب منذ عام 2004 العشرات من المقالات والخواطر والقصص القصيرة في العديد من الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية.
مقاطع من الرواية:
الطفل العاشق
كان ذلك الطفل، نايف عوّاد المصلح، عاشقاً إذن، على الرغم من أنّه لم يتمّ الحادية عشرة، ومطلوباً منه أن يخوض التجربة من دون أن يكون لديه أدنى فكرةٍ عنها. ليس لديه سوى البراءة، والبراءة هي أسوأ وسيلةٍ يمكن أن يتسلّح بها المرء وهو قادمٌ على خوض التجارب. وهنا يأتي دور القدر، فهو قد ييسّر الأمور فيجتاز البريء التجربة بنجاحٍ، وقد يعسّرها فتودي به إلى الهاوية. وهكذا لعب القدر بي، أيّما لعب، أعلاني مرّةً ووهبني قدراً من السعادة التي لازلت أتذكّرها الآن بعيونٍ دامعةٍ بدموع الشوق، ثمّ هوى بي مرّاتٍ إلى الدرك الأسفل من التعاسة التي لا زلت أتذكّرها الآن هي الأخرى، بعيونٍ دامعةٍ بدموع القهر والمرارة.
ففي الصيف، وبعد أن تعطّلت المدارس، قرّر والدا عفاف، وعلى حين غرّةٍ، السفر إلى المملكة العربيّة السعوديّة لتأدية فريضة الحجّ، والبقاء في الديار المقدّسة إلى حين افتتاح المدارس، ولم يجدا أفضل من بيتنا لتوديع ابنتهم فيه. إذ كان أبو عفاف رجلاً نزقاً وعصبيّاً وعلى خلافٍ وقطيعةٍ مع جميع أقربائه المقرّبين، وخاصّةً مع إخوته وأخواته، ثمّ مع إخوة وأخوات زوجته أمّ عفاف، وحتّى مع جيرانه كان خلّاقاً للمشاكل، ميّالاً إلى المشاكسة والمخاصمة لأتفه الأسباب، ولهذا كان من النادر أن تجد أحدهم يلقي عليه السلام في الشارع أو يبادر إلى مساعدته في أمرٍ ما. والرجل الوحيد الذي بقي على علاقةٍ جيّدةٍ معه هو جاره، أبي، الذي لم يكن يقلّ عنه عصبيّةً وعدائيّةً، سوى أنّه كان يلين بين الفينة والأخرى، ويسمح لنا أن نعيش كما يعيش أترابنا في ذلك الزمان، إلى درجة أنّه وافق على شراء تلفازٍ للبيت نزولاً عند رغبتي ورغبة أمّي، رغم أنّ المتشدّدين من أمثاله كانوا يجدون في وجود التلفاز في البيت رذيلةً من رذائل العصر، إذ كيف سيتقبّلون إطلالة رجلٍ متأنّقٍ على زوجاتهم من خلال نافذةٍ في بيوتهم؟ وكيف سيسمحون لظهور فتاةٍ سافرةٍ ومتبرّجةٍ من تلك النافذة؟
وهكذا، ومن حيث لا أحتسب، تبسّم لي الحظّ، واستفقت ذات صباحٍ لأرى عفاف واحدةً منّا، تأكل وتشرب وتنام وتستيقظ معنا. في الصباح الباكر تعدّ الفطور مع أمّي، وعند الظهيرة تساعدها في جلي الصحون. وقبيل العصر تتفرّغ لي، أنا العاشق المتيّم، فنشاهد برامج الأطفال في التلفاز، وأصوات قهقهاتنا ترتفع شيئاً فشيئاً حتّى تتدخّل أمّي وتطلب منّا الهدوء وعدم إزعاج الجيران وقت القيلولة.
وعندما تميل الشمس إلى جهة الغرب ويخفّ لهيبها الحارق نعدُّ العدّةَ، ونخرج إلى الحديقة المجاورة لبيتنا، ونختار ظلّ شجرةٍ كبيرةٍ ونبني فيه عشّنا من أكياس الخيش وعيدان القصب وحبال الغسيل، ونفرشه بخرقٍ وأسمالٍ باليةٍ من بقايا الحُصر المصنوعة من البلاستك والبُسط المنسوجة من القطن والصوف. وبعدها تتّخذ عفاف من إحدى أركان الخيمة مطبخاً، وأمّا ما تبقّى منها فترتّبه على أنّه للجلوس والسهر، بينما أنصرف أنا إلى الاهتمام بقطيع الماشية، أو أركب جرّاري الزراعيّ وأفلح أرضي، ثمّ أبذرها، ثمّ بعد استراحةٍ من بضع دقائق أفترض أنّ السنابل قد ثقلت بحملها معلنةً عن وقت الحصاد، فأحصد زرعي، وأجمع محاصيلي في أكياسٍ صغيرةٍ أنقلها فيما بعد بمقطورةٍ إلى الأسواق، وأبيعها.
والمال الذي أجنيه أصرفه على عفاف، فمن لي غير عفاف! هي حياتي كلّها، وهي الوحيدة التي تستحقّ أن أكدح في سبيل سعادتها! وكلّ ما أجنيه في حياتي ينبغي أن يكون لها وحدها! فأتغيّب حاملاً معي المال، وأعود بعد دقائق ومعي أساور أو خواتم، أو أطواق، أو شنوفٍ، أو دمالج، أو خلاخيل من ذهبٍ لأهديها لها. أو آتيها بما أعثر عليه من خرقٍ على أنّها ملابس اشتريتها لها من بيروت. ووقتذاك كان يكفي أن يكون مصدر البضاعة من بيروت كي تكون ثمينةً وجميلةً.
وحين تحدّق بي عفاف شاكرةً على صنيعي أقول في نفسي لا بدّ أنّها تنسج في بطنها الآن جنيناً سيشبهني حتماً! ثمّ أتساءل وماذا لو كان هذا الجنين أنثى؟ من سيشبه يا ترى؟ هل سيشبه أمّي؟ أم شخصيّة لينا في الرسوم المتحرّكة؟ أم جارتنا أمّ طلال؟ تلك التي تعتبر نفسها صديقة أمّي وتتردّد عليها كثيراً، وتجالسها على كؤوس الشاي وفناجين القهوة لساعاتٍ، وفي أغلب الأحيان تكون عفاف في خدمتهما، وهي قبيحةٌ لا أحبّها أبداً، رغم تودّدها إليّ. وهذه المسألة بقيت معضلةً تقضُّ مضجعي في الليل عندما آوي إلى الفراش حتّى خطرت على بالي فكرةٌ. فقد وددت بأن تكون لنا ابنةٌ تشبه أمّها، نعم، تشبه عفاف، وهل هناك من هي أجمل من عفاف! ولكي يتحقّق حلمي هذا طلبت من عفاف أن تقف أمام المرآة وتحدّق بنفسها لبضع دقائق في اليوم. والغريب أنّ عفاف وافقت، وراحت تتجمّل كلّ يومٍ وتقف أمام المرآة لدقائق تحملق بنفسها. ولست أدري حتّى هذه اللحظة هل كانت تعرف الغاية من هذه الوقفة، أم أنّها كانت تلبّي ما أطلبه منها فحسب؟ لم أسألها أبداً إن كانت تعرف أم لا. كما لم تسألني هي عن مغزى هذا الطقس اليوميّ الذي فرضته عليها. ويبدو أنّ حاجز الخجل ظلَّ ملازماً لنا على الرغم من حجم الودّ والتفاهم بيننا.