هند زيتوني| سوريا
في البداية شعرت بالسعادة الكبيرة عندما قرأت في كتابك الرائع “الكتابة والسجن” أسماء أصدقائي الذين أعرفهم من (السوشال ميديا) مثل: الصديق فراس حج محمد، ورائد حواري والشاعرة نداء يونس وغيرهم من الكتاب والمبدعين. وهم كتاب وشعراء رائعون بكل معنى الكلمة. في الحقيقة لم أكن أعرف الكثير عن أدب السجون ولكن بدأت أقرأه وأنحني إجلالاً لكل حرفٍ خرج من كوة السجن المظلم إلى الضوء بصعوبةٍ ومشقّة بالغة.
قرأت رواية على أبواب مطحنة الأعمار للأسير: أحمد صالح شويكي وكتبت عنها. كانت رواية شائقة وحزينة. سجّلت معاناة الأسرى الذين عرفوا طعم الاعتقال المُرّ في سنٍ مبكرة. وعانوا من لوعة السجن ومرارته، ولكنهم قاوموا وناضلوا من أجل الحياة، ومن أجل أن يكونوا قدوة لنا ومرجعًا صادقاً للإرادة والتحدّي والصبر والنجاح.
فقد تعلمنا من تلك التجارب الكثير من العِبَر والدروس بعدَ أن كشفوا لنا النقاب عن وحشية الصهاينة المجرمين الذين يمارسون شتى أنواع التعذيب والقسوة ضد الإنسانية. فهم في الحقيقة يقنعون العالم ليتعاطف معهم، لما ارتكبه ضدهم النازيون من مظالم في محرقة الهولوكوست، ولكن في الحقيقة هم سبقوا النازيين بمراحل لما فعلوه مؤخراً من هدم مدن فلسطينية، وخاصة في غزة، وقتل أطفالها، وتشريد أهلها، وتجويعهم، وهدم ابنيتها ومشافيها ومدارسها. ولم يكتفوا بذلك، بل قتلوا الكثير من الأبرياء في جنوب لبنان. فتلك بصمة عار سيسجلها التاريخ على جدار الزمن.
أعرفُ يا كميل أنّك تحاول أن تسرقَ الوقت لتكتبَ كل يوم بحبر روحك. لتكشفَ لنا المخفي والموجع والممنوع. لتشعر بلحظةٍ حرّة لا تشبه الزمن. أعرفُ تماماً بأنك تحاول كل يوم أن تسحب جثة الحزن من أحشائك بعمليةٍ قيصرية. قبل أن تتعفن خلاياك. قبلَ أن تغادر وعلى أكتافك ثقلٌ لا يمكن وصفه ولا حمله ولا الحديث عنه. تحاولُ أن تتخلص من القبضة الخانقة على رئتيك التي تكاد تمنعك من التنفَس. لتفسح المجال لعصافير أغنيتك أن تنطلق لتغني بكل لغات العالم. (فلا شيء يؤذي الروح أكثر من بقائها عالقة في مكان لا تنتمي إليه، كما قال الأديب عباس العقاد).
اكتب يا كميل!
دع جرح الكتابة مفتوحاً لا تخِطْه… دع جرحك يضيء هذا العالم المظلم.
اكتب… حتى ولو انتقلت من معتقل جلبوع إلى هدريم أو من ريمون إلى هيلدكر. أو إلى آخر نقطة في هذه الأرض. الأرض التي تدور عكس رغباتنا وعكس ما نتمناه. ولكن هذا الكوكب المشتعل بالحروب والبؤس والتعاسة سينتهي في يومٍ من الأيام، وتنتهي معه معاناتنا. فلذا لا بدّ من أن تعرّي هذه الأيام وتفضح سوأتها. ولنعرف أيضاً هواجسك وما يدور في عالمك القاتم. فنحن في وقتٍ من الأوقات نتعلم فن التخلي عمّا يثقل حياتنا ونتعلّق بأشياءٍ تحررنا من الكثير من الألم الذي يسكننا مثل القراءة والكتابة فهي طريقة علاجية جيدة. فعندما نقرأ كلماتك نتنفس هواء الحرية الحقيقية.
نحن سجناء في هذا العالم الكئيب. أما أنت، ربّما تُحلّق في غرفتك الصغيرة مع عصافير الحرّية الحقيقية. تغني لك عندما تبدأ بالكتابة. نحن أقزام يا صديقي وأنت كما يبدو لي لك قامة ممشوقة وتستطيع أن تلمس السماء والنجوم بأصابعك لو أردت. فعليك أن تحمل مطرقتك وتهدم كل الأفكار السوداء التي تهاجمك وبرأيي كل هبوط لا بدّ من أن يتبعه صعود. يقول أمبرتو إيكو: “كي تستمر في هذا العالم الرهيب ينبغي أن تنجح في شيئين على الأقل: أن تكتب كتاباً أو أن تنجبَ طفلاً”، وأنت أنجبت الكثير من الكتب.
الكتابة في نظري هي حربٌ مقدّسة نخوضها ونحن نعلمُ تماماً، بأننا سننتصر. حتى ولو نزعوا كل أسلحتنا وأظافرنا. ولن نتوب عن الكتابة إلا عندما يصبح ذنبنا الأخير هو مغادرة الحياة أو اعتلاء فرس الموت. فنحن نحارب كل يوم في مسيرة حياتنا اليومية هذا الوقت المراوغ وهذه الحياة التي اعتقدنا أن من يسكنها وجوه بريئة، ولكن اكتشفنا أنها مليئة بالوحوش المفترسة.
أعرفُ جيداً يا كميل؛
بأنه ليس سهلاً أن تكتب، وأنت تغرق في بحيرة العدم. تحاول أن تُرمّم قاربك المثقوب بنجمةٍ اقتطفتها من سماء أحلامك. تبني غرفةً من الأثير لتركضَ فيها وتخلق لنفسك وطناً موقتاً، خالياً من العيون المفترسة. تحبس وحوش عزلتك. وتعيش لحظةً حرة مكللة بالنصر والزهو. وكما قال نيتشه: “بأن الصراع مع الحياة هو الطريقة الوحيدة للصعود والنمو. وكما أنّ هناك شران يمنعان من بلوغ الحكمة ويجعلان الحياة الإنسانية ذميمة، الماضي والمستقبل. فإن بقينا مشدودين إلى الماضي نسقط في الأهواء ونتردّى في الحنين”.
أتخيّلُ أنك تصحو كلّ يوم في الصباح، تطوي سنين عمرك المسروقة وتضعها في الخزانة لتنسى رائحتها. تلقي السلام على الصباح السجين الذي يُلّوح لك بأصابعه من وراء القضبان. تقرأ بريدك الآتي من نافذة العالم. ثمَّ تبدأ بصنع عجينة الكتابة، تتركها لتختمر!
تكتبُ “خبراً عاجلاً” أو تروي لنا شيئاً عن “بشائر” وهي تتحدث عن عالمها البنّي. هل تحتسي الشاي بالميرمية؟ أنا أحتسيه كل يوم وأتذكر فلسطين مع كل رشفةً. هل لديكَ يا كميل ما يكفي من الماء لتعجن دقيق الوجع؟
نحن نتعلّم منك يا كميل فنّ الحياة وفن الكتابة، ونتعلم منك صناعة الحريّة من خيوط الصبر والشجاعة.
ابتسم يا كميل ليشعر عدوّك بالخيبة. ابتسم واكتب ودع روحك تحلق عالياً كل يوم.
نحن ننتظر أرغفتك!
نحن جياع يا كميل لا طعام يملأ خواء بطوننا ولا شيء يروينا سوى ماء حروفك، لا شيء يطربنا سوى همهمة حنجرتك عندما تنادي علينا في المساء.
أيها القديس كيف تكتب قصائدك البيضاء، عندما يغرق الوقت في الظلام؟
أعرفُ أنك تحمل الأرض في الليل على خيول شعرك لتغسلها من جروحها. كما علينا نحن الشعراء أن نكتب القصائد ونمحوها، ونخترع لغة جديدة سهلة الفهم كي لا يقال عنّا بأننا نرجسيون ونغرق بالأنانية المفرطة. أو لأننا لا نكتب للدهماء.
أعرفُ أنك تكتب لجميع البشر ولجميع الأطياف. علينا أن نحافظ على جميع الأصدقاء. وعلى الأفكار التي تخطر على بالنا فجأةً. علينا أن نبني لها غرفة مسوّرة كي لا تهرب. وأن نقفز من النافذة لو شعرنا بأننا سنؤدي أحداً بكلمة جارحة أو نتحول إلى عشبة لا مرئية ربما ينساها المطر فتموت من العطش.
إن سألتَ عني يا كميل فأنا بخير، ولكنني أهربُ من الأشياء التي تسعدني لأن العالم الآن حزينٌ جداً في الخارج. حتى ولو زارتك السعادة لا يكفي للسعادة أوجاعها التي لا تطاق أحياناً.
عليّ أن أقرأ عن الحروب وأسمع الأخبار المملّة وأتساءل كل يوم: لماذا لا يتراشق الناس بالورود والسكاكر بدل التراشق بالرصاص؟
لماذا لا نبني هذا الكون ونحيطه بالأشجار بدلاً من أن نزرعه بالألغام والحرائق فأتذكر الآية الكريمة من سورة البقرة: “وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبًح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم مالا تعلمون”.