لا يا سماسرة اللغة، هذا ليس جلادت بدرخان بك

 

إبراهيم محمود

 

في القسم الأخير من ” مم وزين ” أحمد خاني، وعلى لسان ” زين ” يأتي ذكْر ” بكو ” في جملة أبيات، منها: وجوب الإتيان على ذكره إيجابياً، لأن الذي قام به كان دوراً كلَّفه به خاني، حباً بخلود كل من ” مم وزين ” فيكون ضحية هذا الدور، وتحديداً لأن خاني سمّاه حرفياً ” شهيد “، ورغم ذلك فالأكثرية الساحقة من قرّائنا الكرد، وفي الواجهة من يندرجون في خانة الكتابة، يذمّونه، ويشددون على قبح ما عُرِف به، وشاعت صفة القبح فيه على ألسنة عامتنا” هذا، هو، أنت بكو..”، وقد تناولتُ هذه النقطة في أكثر من مكان. واللافت أن كاتبنا المعروف حسن مته، في روايته ” الطوفان ” والمكتوبة بالكردية، وقد ترجمتها إلى العربية قبل سنوات، وظهرت منها ثلاث طبعات حتى الآن باسم ” القيامة “، وفي أمكنة متباعدة عن بعضها بعضاً، منح دوراً كبيراً ودالاً على فطنة ونباهة لديه، حين أظهر من خلاله مدى ليس سوء الفهم له، وإنما تحويله أكثر إلى أكبر ” مجرم ” رمزي في التاريخ الكردي، لأن بكو، حسب دعاء خاني، أن يبعثه الله كل ” 300 ” عام ” من قبره،
ويعيده كما كان ميتاً، ليرى ما يحدث حوله، فيصدم بالناس، كما صوَّره مته، وهو يراهم في تجمّع كبير، والجميع تقريباً يأتون على ذكره ذامّين إياه ومستقبحينه، فيستغرب، وهو يتساءل عما جرى لهؤلاء الناس، ويقول عن نفسه: إذا كان الذي قمت به دوراً، ويعنيني فرداً، فما أكثر هؤلاء البكويين، وأنا منهم براء، راجياً الله، وهو يتراجع حيث قبره، ليحل فيه كما كان، ولسان حاله يقول: اللهم لا تبعثني ثانياً. وهنا تكمن براعة خاني، حين حوَّله رمزاً ليؤبّد به واقعاً عبر ” مم وزين ” وفي  وسطهم، يمارس الفساد دوره، في الذين يتاجرون بما هو كردي، حيث الكرد دون اتفاق، وهم في تمرد وشقاق…إلخ، والمفارقة أن أكثر الذين يرددون أبياتاً مما يخاص واقع الكرد المتشرذم، هم المعنيون بالأحزاب الكردية، وهم أساس البلاء الكردي قومياً إجمالاً، وكأن ليس لهم أي يد في ذلك.
في السياق نفسه، بالنسبة للراحل الكبير جلادت بدرخان بك، الذي غادرنا إلى الأبد منذ ثلاثة أرباع القرن، جرى استغلاله، وما زال الاستغلال النوعي هذا قائماً، وتوجيه مساره في الطريق الذي لا صلة له به: بصدد مفهوم اللغة .
في أوج الصراع مع الذين تقاسموا كردستان فيما بينهم، وفي ” تركيا ” بالذات، مع الصعود الاستبدادي لنجم أتاتورك وسياسة التتريك المجازة من خلاله، والتأكيد، كما هو معروف، أن لا شعب في تركيا سوى الترك، ولا لغة سوى التركية. ليكون الكرد المستهدفين بالدرجة الأولى.
وحيث لم يجد جلادت هذا بين يديه، ما يعينه على الأرض عملياً، وبعد خسارة مؤلمة للكرد في ثورة ” آكرى ” وأدرك أن المواجهة المسلحة باتت غير مجدية، راهن على القلم، سياسة من نوع آخر، ليكون شعاره على الصفحة الأولى لصحيفته ذات الصيت والدلالة بعنوان ” هاوار: الصرخة ” حالة استنفار لعموم الكرد” لغتنا هويتنا “، قاصداً، كما هو معلوم: الكردية، وصلتها بالواقع، كما لو أنه يردُّ على أتاتورك مفتتح ” تركيا أتاتورك وجمهوريته المستحدثة ” بقوله: أن في تركيا شعباً ليس هو التركي وحده، ولغة، ليست هي التركية وحدها. وأن الذي شدد عليه في تنوع مواد صحيفته، بأسمائه المستعارة الكثيرة، كما لو أنه كان يقدّر أن عمره قصير، وليدل على أن الكفاح ، يأتي تعبيراً عن الهوية التي تمثل ساحة معركة كبيرة، وفي أسمائه المستعارة ما يعبّر عن هذه الروح المقدامة وإقلاق عدوه القومي في عقر داره.
كان كامل جسده يفكر ويتنشط، يده على مدار ساعة، رجله من مكان إلى آخر، تفكيره متنقلاً بين اللغات والتجارب ليقتبس منها ما يفيد قضيته، خياله متنقلاً به بين التاريخ والجغرافيا، بين الشعوب والأمم، ليمنحه المزيد من الدعم وسعة الرؤية لمسافات بعيدة.
جلادت لم يكن لغوياً، ليخصص له مبحث متمحور حول الجانب هذا، وإن أسهم كثيراً في ذلك، إنه أكثر من كونه لغوياً، كما تقول كتاباته، لم يكن شاعراً وحده، ولا سارد حكايات شعبية وفولكلورية، هو كل ذلك وما يضاف إليه ثقافياً، مدفوعاً بإيمان تبصَّره حقيقة، وهو أن ليس من نهوض، ليس من تقدم فعلي، دون تنوير الشعب، والانتقال به مما هو فئوي، عشائري، إلى ما هو مدني ، تعليمي، وحداثي..
كان في نفسه جامعاً وموائماً بين أشكال الكتابة كلها على وجه العموم، وكان سياسياً في الصميم.
وأن ينتهي أمره في ” بئر ” كما هو المأثور عنه، لتكون النهاية الفاجعة هذه شاهدة على أنه عرف سياسياً ومات سياسياً، إنما والسياسة تتنفس صحبة أختها التوأم: الثقافة، بأكثر عدتها حداثة.
الذين في نفوسهم مرض، في رؤاهم انحراف تقولبوا داخله، كما هي القبعة المجوفة، أخذوا ذلك الشعار على رؤوسهم، محاولين إخفاء ما في رؤوسهم من هشاشة وجبن، وإلى الآن، حقيقة ما هم عليه، أبعد بكثير مما كان عليه جلادتــ:ـهم “، وليعيدوا هذه العبارة ببغائياً، وفيهم منهم من عرَّفوا بأنفسهم بدرخانيين حتى النخاع، أو جلادتيين، وراء هذه الحذلقة البائسة واليتيمة دون إسناد يشفع: لغتنا هويتنا.. أي دون ربطها لا بواقعها ، أو بتاريخها، وما تتطلبه القضية من العمل بكل القوى لتكون حية، كما كان جلادت العظيم فيما قام به، وفيما انتهى إليه، وفيما ابتلي به على أيدي مسوخ ثقافة تدعي أنها من صلب ما جاء به راعي ” هاوار ” وتجار السوق الخاصة وهو يستهلكون ما هو قطيعي فيهم، أي بعيداً عن تلك الساحة الساخنة والتي شملت قارات وتواريخ بالنسبة لجلادت بدرخان بك.
جلادت يستعيد فيما قام به خاني، وربما قدَّر في سرّه أنه سينتهي وفي روحه حسرة مما كان ينشده كردستانياً، متخوفاً من الذي سطَّره بدمه، سيوجَّه في مسار مغاير كلياً لما خطط له، حيث الشعاراتية والابتعاد عما هو محسوس ومكلَّف، كما هو المطلوب، علامتان فارقتان في ذلك.
كما قال أحدهم في الممثل باسمه وهو ليس كذلك، من ماركس إلى سارتر وغيرهما، لا بد أنه لو نظر حوله في لحظة انبعاث من ضريحه، وهاله ما يرى ويسمع، وبأقلام من يفتخرون بالانتساب إليه، وما أكثرهم، داخلاً وخارجاً، وبصوت عال له دويّ:
أنا لست جلادت بدرخان بك… مضيفاً: ولغتكم ليست لغتي !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…