إبراهيم محمود
عرفتُ الكثير من القطط: أجناساً وأنواعاً، أشكالاً وأحجاماً، قوة وضعفاً، لأنها شغلت جانباً من اهتماماتي القططية، شأن غيرها من الاهتمامات الحيوانية الأخرى: الكلبية، الحمارية، البومية، الثعلبية، الذئبية، الثعبانية، العقربية،الببغائية، الحجلية، الضفدعية، والنمسية…إلخ.
سوى أن الذي عرفته عما ذكرت، وما لم أذكر، لا يقارَن غرابة واستفهاماً عن قططنا وعن قرب، في مدينتنا هذه التي ما أن آتي على ذكرها، حتى يسارع كثيرون من القرّاء الوقورين بالقول: نعم، نعم، نعرفها جيداً. ولهذا سأغض الطرف عنها، وأنا بصدد واقعة غريبة عن هذه القطط، تاركاً حقيقة ما أنشره هنا لفضول من يهمه الأمر، وذاكرته المكانية، ونوعية معرفته بها وسواها.
وأجدني متحدثاً عنها طي العنوان المذكور: قططنا التي لا تنام، بدافع أن ليس من كائن حي لا ينام، حتى النبات ينام على طريقته، والحيوان بدوره هكذا، والقطط ليست استثناء بالتأكيد.
أما لماذا لا تنام، فهو السؤال الذي ألحَّ ولا زال يلحُّ علي، دون العثور على جواب أصادَق عليه.
لم تختلف هذه القطط بداية عن غيرها من القطط ، كنت كغيري أعرف ماذا يطرأ عليها من تغيّر تبعاً لحالتها الغريزية، ومنها مواؤها الخاص في الشهر المعروف من السنة عندنا: شهر شباط، شهر التزاوج. حيث كنا نتوقع” أي أنا وغيري في مدينتنا ” هذا المواء، مع حركاتها المختلفة: على سطح بناية، أو على شجرة، أو عتبة بيت أو زاويته أو أسفل درجه، أو في مكان مفتوح وسواه، بحسب طريقة التلاقي اتفاقاً أو بالقوة أحياناً. كنا نتساءل إذا لم توقفت عن المواء عما أصابها، وكم كنا نطردها سراعاً بعيداً عنا، نظراً لموائها المتواصل والمزعج وفي الليل خاصة.
لكن الذي جرى هو ما تعرضتْ له من تغير، حيث لم يعد المواء متوقفاً على شهر شباط وحده، إنما شمل الشهور الأخرى، وهذا ما زاد في استغرابنا، وهذا الاستغراب مهَّد لاستغرابات أخرى أكثر لفتاً للنظر. ومن ذلك أنها تميزت بتزايد سمنة، في نسبة معلومة منها، وظهرت مثيرة للخوف، حين نقترب منها، وهي ترمينا بنظرات لا تخفي شرراً، فتطلبَ ذلك جرأة خاصة لدى البعض لإبعادها.
مجموعة من القطط فاقت سواها، بتنامي حجمها وطول وبرها وحدة موائها، وقدرتها على الحركة، وهي لم تعد تقبِل على صيد ما عرِفت به، أي الفئران، ,إنما البحث عن مصادر أخرى لطعامها، داخل بيوتنا، عبر الباب، إذا كان موارباً أو دفعه إذا كان قديماً ومستهلكاً وغير محكم الإغلاق، أو النافذة المفتوحة، أو كوة داخل هذا البيت أو ذاك، دون استثناء. معتمدة على غريزتها القوية في الشم، وما أكثر ما كان أصحاب هذا البيت أو ذاك يستيقظون على جلبة أو حركة في جانب منه، كما في ارتطام جسم في المطبخ” آنية، مثلاً ” بالأرض، أو حتى من الثلاجة، حيث تقبل على تناول كل ما هو فيها أو إتلافه لتصبح أرضية المطبخ ساحة معركة، وأغرب من كل ما تقدم، هو محاولتها فتحها حتى خزانة الملابس والعبث بها: تمزيقها أو إسقاطها على الأرض، والعبث بها، والتهام النقود الورقية إن وجدت ميسورة فيها( سمعت من البعض أن إقبالها على التهام النقود الورقية مرتبط بنسبة من الملوحة فيها استمرأتها تلك القطط، ولا أدري ما مدى صحة هذا التحليل وموقعه من الصواب أو الخطأ)، وهذا ما عرضَ أهل مدينتنا لرعب حقيقي. فلم يعودوا ينامون كعادتهم، إنما بدأوا بإغلاق كل منفذ في بيوتهم تحاشياً لما ذُكر، وسط القطط التي لا تنام.
هذه القطط السمان التي تميزت كغيرها، ما أسهل ما كنا نرى فيها مشهداً يجر آخر، والمتمثل في رؤية أحدها إثر آخر، وهو ذكر، مقتولاً، وقد عملت في جسمه أنياب أكثر من قط آخر ومخالبه، لا بد أنه نظير له أو قريب منه حجماً وشكلاً، نهشاً وتمزيقاً وفي محيط الرأس وسفك دمائه..
خفّت حدة المواء، كما هو متوقع، كما تنامى عدد القطط المقتولة ومن الذكور، والتي أثارت ذهولنا، وسؤالنا عما يعرضها لمثل هذه التصفيات الدموية، على حساب زيادة القطط الإناث التي أظهرت معاناتها في المحصّلة، حيث لم يعد عددها النوعي متناسباً مع عدد كاف من الذكور للتزاوج.
وبحكم خضوعها لغريزتها الطبيعية، لا بد أن تجد ذكوراً بأي طريقة لكي تستمر في البقاء.
وهو ما لاحظناه في السماح لجملة القطط التي عرِفت بصغر أحجامها وموائها المتقطع، بسبب هزالها، بالاقتراب منها اضطراراً، هذه التي حافظت على مسافة بينها حتى عهد قريب، وبين تلك السمان، بحكم قانون القوة، لتتجنب الأذى القاتل لها من جهة تلك السمان، كما ذكرت آنفاً، والذكور بالدرجة الأولى، والإناث بدورها، حيث ما كانت تسمح أي منها، لأي قط من النوع الذكري خصوصاً، والذي يغايرها في الحجم والشكل، بالاقتراب منها.
مشاهد غاية في الغرابة، ونحن نتابع ذلك المواء الخاص في التزاوج، وذلك التمايز بين قط صغير الحجم هزيله، وهو يموء بصوت لا يخفي ضعفه، ولكنه، وكما يظهر، سعيد ، كما هو متوقع، وهو في لقاء كهذا ومع قطة، كما تقدم، كان مجرد الاقتراب لمسافة معينة منها مميتاً غالباً.
هذا اللقاء الذي بدأنا نشهده بأعيننا وآذاننا، مهّد لولادة سلالة من القطط الهزيلة وحتى المشوهة في نسبة كثيرة منها، إلى درجة أن تلك القطط الإناث ذاتها والتي عرِفت بالسمنة والقوة بدأت تعاني من مظاهر الهزال والضعف، وهو ما أثار سؤالاً لدى الكثيرين منا، وبحكم معايشتنا لكل ذلك: إلى أين سينتهي كل ذلك، ومع هذه القطط التي لم تكن تنام، رغم التغير الذي طرأ عليها وأخافنا كذلك؟