في وسط السوق المكتظة بالناس تجمد عروقه, وقف بمكانه وعيناه جاحظتان باتجاه شخص يبعد عنه بمسافة بضع أمتار, كان الواقف يرتدي هنداماً أنيقاً, واضعا نظارة سوداء وكأنه بانتظار شخص ما.
– لا…لا..المكان واسع ولكن صدري …؟
– ما به صدرك….!
– كاد يذبحني…
رفع السائق رجله عن مرجل البنزين ووضعها على الكابح , فاندفع الاثنان إلى الإمام بحركة لاإرادية , التفت إليه السائق وقال باستغراب:
– أتعني … لاسمح الله أتتك نوبة جلطة !.
– لا .. لا.. رجاءا لا تتوقف, أسرع , أسرع وبكلمات تمتم لم يتلقفها أذن السائق : ياريت تكون جلطة لأخلص من هذا العذاب والخوف .
– من ينظر إليك سيظن بأنك مطارد من أحد ؟.
– لا … لا…فقط أشعر بضيق شديد. قد يكون الدخان هو السبب .
– هل متأكد أنك بخير, إذا لم يكن معك نقود بإمكاني إيصالك إلى الدكتور الذي تريده ؟.
– لا … شكراً , فقط أريد أن تزيد من سرعة السيارة – قال ذلك وهو يتصبب عرقاً – والتزم الصمت.
بعد حين صمتت هدير السيارة و توقفت إمام هنكار تحيطها خضرة مكسوة بلآلئ بيضاء , تسو رها أشجار دوار الشمس الزاهية , حيث يبدو للمرء وكأنه أمام لوحة جميلة تذكرنا بلوحة الفنان فان كوخ.
لاحظ السائق علامات الخوف والوجل مازالت مسيطرة على حالته بالرغم من وصوله بالسلامة إلى كوخه وعيونه الذاهلة من حين إلى آخر ينظر إلى تلك الشرايين الترابية المؤدية إلى بيته, قدم ثانية خدماته ومساعدته , إلا انه لم يرد ببنت شفة حيث أخرج من جيوبه النقود ووضعها بيد السائق واتجه إلى الباب بدون أن يشكره أو يستقبله بكأس شاي, مثلما يفعل القرويين الكرام.
تلمس السائق مقبض علبة السرعة وشفط السيارة بحركة جنونية غاضبا من تصرفه الغير لائق.
خرج أولاده فرحين بعودته من المدينة وهم يتلقفون تلك الأكياس المرمية على الأرض ولكنهم لاحظوا عليه تلك العلامات المحبطة والميؤسة و التي ذكرتهم بأيامهم المريرة عندما كانوا في قريتهم .
أسرع أحدهم إلى والدته لأخبارها بحالة والدهم , رمت ما بيدها وخرجت مسرعة الخطى وهي تردد (عندما ذهب إلى المدينة لم يشكو من شيء , أترى قد تشاجر مع صاحب الأرض, أعرف المزارعين الملاكين لايشبعون , أنهم كالجراد , يأكلون الأخضر واليابس , يستلفون النقود من كل الناس وعند الحساب يقولون إنتاجنا كان خاسرا أو أن المصرف حجز على الأموال) . دنت منه متسائلة :
– ما بك يا رجل …؟ ماذا حصل لك …؟
– وبصوت خافت رد :لا شيء …لاشيء .
– كيف لا شيء ووجهك أصفر كالليمون .
– كل ما هنالك تعبت من السفر .
– أي سفر يا رجل ؟! وهل تحسب مدة ربع ساعة سفر, لولا الخجل من الناس بإمكانك الذهاب سيرا على الأقدام , المدينة قريبة , إنها رمية حجر, ثم أنك تعمل في الأرض ليلا نهارا ولم يصيبك مما أصابك ألآن , أنت منهار تماما, انظر إلى نفسك في المرآة , أكيد تشاجرت مع المالك, أليس كذلك ؟
– (هز رأسه) … نعم ..نعم ..تشاجرت معه , ارتحت ألان …؟ اذهبي وافرشي أن رأسي يؤلمني سآخذ قسطاً من الراحة وإذا غفوت لا أحد يستيقظني والتفت إلى أولاده قائلاً : هل فهمتم …؟
ما أن أغمض عينيه, حتى رأى صاحب النظارة السوداء, منتصبا أمامه بلباس أسود فاحم وبلهجته المعتادة حيث فتح قاموسه المليء بالشتائم ومصطلحا ته التي يجعل من المرء أن يندم طيلة حياته بأنه جاء على وجه الخليقة. وفي قبضته الحديدية كبلا رباعيا لايعرف مذاقه إلا من كتب عليه الشقاء.
– لماذا هربت مني ولا..؟ هل تعتقد بأنك ستنفذ بجلدك إذا هاجرت إلى محافظة ثانية ولا , لا.. يا (…….) أمثالك لو تخبوا تحت سابع أرض , لو بدنا … نجرك مثل (الك……..)
– بس يا سيدي …
– قاطعه – لا تبسبس ولا , شو نسيت أصول ألحكي, بهالسرعة .
– ياسيدي صار لي أربع سنوات بعيد عن أهلي , نسيت كل شيء . وأنت لاحقتني إلى هنا ؟ تركت أرضي وقريتي وصرت فلاح عند العالم ولسه عم تحاسبونني على شيء ما بفهم منه , أنا غير الأرض والزراعة ما بعرف شي , صدقني يا سيدي أنا بخاف من ظلي. هات يدك أبوسها. يا ناس اتركوني بحالي والله العظيم نسيت .
– بس نحنا مابننسى شيء , كلو مكتوب في اللوح المحفوظ, الارشيف جاهز وما نكذب .
– قال في سره : صحيح ما تكذبوا بس التلفيق على أبو جنب .
– شو قلت ولا .
– لا ياسيدي ما قلت شي .
– شو ولا , عم تكذب كمان , شو قلت في سرك , نحن عم نلفق على أبو جنب ولا , ورفع سوطه. دوى صريخه عاليا وهو يتوسل طالباً الرحمة والسماح و بحرقة يقول : أنا كذاب, ياسيدي كذاب ابن كذاب.
ارتعبت زوجته وأولاده من ذاك الصريخ وتوجهوا إليه وانتشلوه من الفراش مذعورين من حالة معينهم وهو مبلول بالعرق و (……..).