– 1 –
كرة الثلج:
جانا سيدا (تولد 1976) الشاعرة الكردية، وإن شئت، فالمترجمة الكردية أيضاً، وإن شئت أكثر من هذا وذاك، فالساعية إلى أن تكون محاورة فالحة في حقول أدبية وثقافية مختلفة.
تتحدث بلغة الشعر، حتى وهي تحاول التعبير عن موضوع فكري، كما هي الصياغة القولية لكلامها، مثلما أنها، من خلال لغة الشعر، وباعتبارها مرآة ذاتٍ ما، لا حدود لإطارها،ولعمقها، والتعريف بذاتها، كما لو أن القرائنية تجمع فيها بين الشعر والنثر، بين محاولة ومقاولة تماماً.
غير أن هذا أول القول، وجانا، مازالت تستشرف أفقاً للكلام، أفقاً شبابياً، وأن كل عنفوان يلوّن أي تصريح لها، يرتد إلى هوى شبابي، اندفاعته، دون التقليل من يقين ما، هو يقين الشعر الذي، وكما هو تصوري عنها، يظل حمَّال الكثير مما تشير إليه، بصدد الشعر وما يتجاوزه وظائفياً، فهي ذاتها تقول (ما زلت في البدايات)، في حوار سابق معها.
إنها لعبة كرة الثلج، ولكنها معكوسة هنا، إذ المتدحرج، هو كمال الأرض، الفضاء، وما بينهما، والثابت المتحرك، هو جسد الشاعر- الشاعرة، كما لو أن الطبيعة هي التي تسطّر في الجسد.
هكذا يتهيأ لي الكلام/ وأنا إزاء كلام آخر، لكائن، تناط به مهمة ( تاء المربوطة)، لتحلق بها، حيث الأنثى، تحيل (تاءها) إلى داخلها، تمحوها، كينونة أفعوانية، تلامس حدود مكانها بانسيابية، لا يُشك في أمر اعتدادها بزحفها الجسدي المنفتح في المكان الفضائي، وأنا أريد التحدث، عن هذا الجسد، في تجليه الأدبي، وما وراء الأفق المتجلي، من رنين رغبة في تجاوز المقيَّد فيها.
أنا في حوار، وبحوار، مع داخلة في حوار صريح ما، وآخر قائم( فاللغة كلها حوارية، بكل مسمياتها، وكائناتها)، وجانا تتقدم بين غسق أنوثة يترحَّم عليها، وشفق أنثى يصار إليها.
أريد التحدث في/ عن نصها، وإن بدا مفهوم النص صدَعياً، فخياً أكثر، لما للمفهوم من قوى ردع مضادة، لأنه يبرز استقلالية قيمته، أكثر مما يجب، وكل موضوع شريك بناء نصي، في الحد الأقصى من التباري الإبداعي، لا بل يعرض ” بضاعته” تاركاً التسمية لسواه.
جانا، كما تعيش مغامرة الشعر رحابة طياتية، تقدم اسمها في معرض الكلام في الترجمة، قاطرة خلفها، تاريخاً،تاريخ الثقافة الذي تنتمي إليه، بكل مقوماته وتقويماته، بآلامه وآماله، من الداخل والخارج، لا يمكن غمطه حقَّه من الرموز النافذة، قوة لاشعوره، في إيقاع المتشكل من الكلام عندها، وهي لا تنسى أنها أنثى، أنها كردية، وإن نست، أو تناست، فاللغة شاهد حي هنا!
أسمّي هنا: ما يلفت نظري فيما فاهت به، في حوارها، هو صراحتها،عبر تسميتها لأشيائها التي تعنيها، وتعني الآخرين، في الشأن الثقافي الكردي المتعدد القوامات، وهي ما زالت تبحث عن صوتها أكثر، فيما تبحث عنه ثقافياً، مثلما أن ما باحت به( هكذا أحدد)، يمثل الوجه الآخر من مأساة اللغة التي تفاوض بها عليها، تعرّف بذاتها، وتتعرف بها، حيث أنها، لم تتحدث عما قامت ، عما أنجزته ( أعتبر ترجمتها لرواية أحلام مستغانمي ” ذاكرة الجسد” إنجازاً إبداعياً، أو انعطافة أدبية، وجسارة أنثى، تحاول الخروج من قمقم التاريخ الذكوري، وبكل شفافية الجسد المختلف ثقافياً، مهما كان الموقف من الترجمة هذه )، بقدرما أحالت القارىء، أو المستمع إلى ” ذاكرة جسد:ها” كردياً، وما رافق الرواية العربية هذه، من سيَر أقلام متفاوتة الأبعاد دلالياً، والتفافات، ومكاشفات، واهتمامات لا تخفى، بقدرما ذكَّى الاهتمام الصاعد والمتشعب، نشوةَ الذات الأخرى، وهي تمارس ترجمتها، أن تكون جانا، أحلامَ مستغانمي الكردية، بذات الصيت المدوّي، كما هو المقروء في حوارها الذي ترجَمتُه، وسيُقرَأ لاحقاُ هنا، وربما نبَّهت لغة الحوار المتلفزة (جانب العراضة النفسية، ولو لاشعورياً)، إلى ما يُبقي جسد الأخرى في الخلف، من ” جسدها” الاعتباري، وهي تبورم (من البانوراما)، مشهديات السرد الذاتي الخاصة بترجمتها عملياً.
إن محاولة استشراف ما سعت إليه جانا، وما استطاعت إنجازه، على صعيد فعل الترجمة، أظنها، بادية، من خلال بنية القول، باعتباره خطاب الذات الناطقة، وصورة الذات الدهليزية هذه، في مرآة، الكاتبة، قبل كل شيء، انطلاقاً من اعتبارها شاعرة، بالدرجة الأولى، لأنها تعيد مجمل ما تشير إليه إلى نسَب شعري، تنهمُّ به، وإن لم تحدده بدقة أحياناً، وهي الصورة التي برزت في ذروة المكاشفة، من جهة لفت النظر، إذ لا تخفي ذات المتكلمة التماعةَ الصورة بأناها الشخصية، وهي تضع كل ما يخص الثقافة التي تننتمي إليها، في نطاق مرصدها التقويمي، أو في سلة الأنا المتدلاة في زحمة الكلمات المنطوقة، كما هو المستشَف قراءةً.، وحيث يمكن المقارنة بين الوارد الوصفي والشعروائي في ” ذاكرة الجسد” وما تخلل مجموعة من نصوص جانا الشعرية، حيث أحيل، على الأقل، إلى (ست قصائد- متأخّر الجرح- مهاباد- أمي، أسرار، أرض أخرى..الخ، ومراجعة ديوانيها: الليلة الأخيرة، و: يد المساء، ستكون مثمرة أكثر هنا، وهما غير متوفرين عندي)، من جهة التشابه، أو التأثر، أو حتى الاختلاف طبعاً.
الترجمة تُقرَأ من خلال النص الحواري، مثلما النص الحواري، يستعجل القراءة، لتبيان مدى التفاعل بين الحالتين، ولو أن المعني الحِرفي، بلغة الخطاب المتشكل حوارياً، يتلمس حراكاً نفسياً عابراً لحدود الذات الشخصية، لأن ثمة منبرية، ثمة استحكامات في المعنى المباشر.
وهنا تكمن الخشية، وبدقة أكثر، تُسمي الخشية الآخرَ، في حركة ذهاب وإياب، إذ كل إحالة إلى موضوعة الترجمة، تحثُّ القارىء على قراءة النص المترجَم، وكل قراءة لجانب من النص المترجم/ تعيده إلى المنطوق به في النص الحواري، إلى فاعله، وذمَّته، وبينيات صور الذات.
على خط التماس:
على خط التماس، ثمة رؤية للكثير من الحدود غير المحمية، للكاتبة: الشاعرة والمترجمة، من خلال اللغة، وأنا أتحدث تحديداً، عما أسميه بـ(وعي الذات الكردية)، من خلال فعل الترجمة: فعل اختيار، واختيارفعل في التعامل والتفاعل، حيث أن جانا، لا تني، تذكّر بالجانب الإرشادي المزعوم، في مسعاها، أي بما تعتبره قفزة في المجهول التاريخي، كردياً طبعاً، والذي استطاعت وحدها طيه رمزياً بترجمتها.
على الأقل، من خلال الكم الوافر، والمقلق مباشرة من المفردات، التي تقلل من فاعلية المعتبَر فتحاً أدبياً وثقافياً، لأنها احتوت تاريخاً كاملاً، وهي تشير إلى دور الترجمة في التاريخ، وما كان عليه التاريخ (في العصر العباسي)، وما برزت به من خلاله المرأة (إيزابيل الليندي)، ومن يكون المترجم الفعلي، ومن هو الأجدر في التذكير به …الخ. إن هذه القائمة من المفردات العربية، وهي التي تتخلل، نصها الحواري، وعلى لسانها، ودون التدقيق في مدى دقتها اللغوية:
(temam kopyayê-xizmet-hedekî-*****leyek-famkir-cesaret-mudaxele-mehele-fikir-edebiyat-nesir- dereceye- tesîr-alem-zewq-muhûm- yanî-hewce-xeter-elimînî-wesîfe- feyde- tade-cînsiyet-bahsa-macbûr- lazim..
هي أشبه بشاهد قضائي فوري التدخل غالباً، في مقاربة الملتبس، و تعليم المفارقات الحاصلة!
ترتد إلى اللغة، وهذه ترتد عنها، في الشأن الضروري لها، إذ يتحول اعتماد مفردات دون أخرى، أحياناً، تجنياً على اللغة، ومكراً بها بالذات، وهي تشدد على اللغة( لغتها هنا)، كما لو أن التسمية مبارحة المكان، طلبٌ للأفضل، وهي تنقلب إلى مراوحة، أو مسافحة لذات اللغة، وتضييقاً عليها.
ماذا يعني استعمالها للقائمة اللافتة والمخيفة من المفردات الآنفة الذكر، سوى ما لا يراد الكشف عنه تصدعاً، أو عنفاً من الداخل على الداخل، عنف قهري يوجه مسيرة لغتها.
وحين تعتمد مفردة Erdangarî، مقابلاً للجغرافياً، رغم أن الجغرافيا، مصطلح مفهوم ومعتمد، ولا يسيء إلى جوهر اللغة، مصطلح عام، ومثلما أن مفردة kopî، وتعني المسودة، أو النسخة المصوَّرة، تجد مقابلها في الكردية، وهي تعرف ذلك، أي n destnivîsî، وكل ذلك يقلل من قيمة الرأسمال اللغوي الذي تتحدث فيه، أو ما تراهن عليه، وهي تشدد على أهمية التفاعل مع اللغة، وإتقانها، وفي الترجمة ثمة اللغتان، في الوقت الذي تكشف لغة الحوار، عن بؤس ملحوظ في الصياغة، عدا المتداول من مفردات عربية.
وحتى في التعبير عن حالة ما، والمزاوجة بين مفردة وأخرى، لا تكون من جنسها، إنما تنتمي إلى لغة أخرى، ليُظَن أنها من فئة دلالية أخرى، من اللغة ذاتها، أعني الكردي، كما في جواب السؤال( 20)، وفي جملة كهذه:
Ez nabêjim min daye rawestandin lê min daye sekinandin
إذ تكون الكلمة الأخيرة، وهي عربية (من السكون، الوقف)،مقابلة، بذات المعنى، للكلمة السابقةعليها( rawestandin: السكون، الوقف)، وهذا يصعّب مهمة ترجمة جملة كهذه، لأن ثمة نقصاً، أو خللاً في التعبير، فيكون التأويل، بمثابة شرلا بد منه(لا أقول عن أنني أوقفتُ العمل فيها. إنما أوقفتها)،وهي تتحدث عن رواية أزمعت على كتابتها، ولكنها توقفت، منتظرة فرصة لاحقة، للعودة إليها،كما أشارت إلى ذلك.وكما في مفردة أخرى، مثلاً، حين تحدثت،عن ( بعض) هؤلاء الذين يكتبون الشعر، في السجن، مستخدمة مفردة بالكردية، هي ( kesên PIçk) ، وهي غير صحيحة إطلاقاً، من ناحية التعبير،أو الدلالة، أوالقيمة، لأنها تعني( قطعة صغيرة) بالنسبة للمفردة الأولى، وليتها اعتمدت الثانية) di zindanan de ne kesin hene: ثمة من هم في السجون)، أي أنها مادية حصراً، أما الدقيق، فهو( hinek) أو ( kesin)، مما يخص العاقل .
من جهة أخرى، لا يبدو على جانا أنها معنية بالترجمة كترجمة، بالجانب التثاقفي في الترجمة ولها معاً، فهي لكي تؤكد معيارية القول هنا، وجمالية الرؤية الأدبية والذاتية، لِما تفوهت به، كان عليها، أن تفتح باباً أمام القارىء، ليطَّلع على الحمولة المعرفية، أو الأدبية المدَّخرة في العمل.
إذ من أصل عشرين سؤالاً ونيّف، توزعت الأسئلة بين التركيز على العمل المترجَم إلى الكردية، (نصف الأسئلة تقريباً)، والشعر والرواية، والمرأة وصلتها باللغة والأدب …الخ.
لكن ما لا يجب تفويته، أو تجاهله، هو أن أغلبية الإجابات، كما هي الأسئلة، حامت في فضاء العموميات، وبقيت أرضية الحوار الفعلية غير منظورة، وبدءاً من التعريف غير الدقيق بالرواية، بأنها مقسمة إلى ثلاثة أقسام أو أجزاء أو فصول،sê cîldan؟، وهي مكونة أساساً، من ستة أقسام، أوفصول، كما في الرواية العربية، أو في الرواية المترجمة عنها كردياً.
ولهذا أشدد، على كل كلمة أقولها هنا، فأشير أولاً، إلى أن الحوار، كما يسمى ( hevpeyvîn)، لا وجود له على الإطلاق تقريباً، إذ ليس من سؤال بشاهد حضورٍ تجاذبي، حيث لم تلمس المحاورة” ربحان سرحان” وهي شاعرة، تكتب الشعرالحداثي، أياً من المعالم الخاصة بما تهتم به جانا،، ولا جانا تطرقت إلى ما هو لافت، أي التأكيد على أن ربحان، مطلعة، على أمور تخص الترجمة، أو على الرواية المترجمة، وغيرها، ولا جانا لجأت إلى إدخال القارىء معها، إلى جو الحدث، إلى سبب اختيارها للرواية، من خلال أمثلة، وقرائن، إذ لا يكفي أن تشير إلى تشابه بين وضعين، ليتأكد الحال من محاله، إنه قفز في الفراغ بالمقال( لماذا، مثلاً جرى السرد الروائي بلسان ذكَر، هو خالد طوبال الرسام، ومن قبل الروائية، وبتلك اللغة الشاعرية، ولماذا كان لها هذا الصيت، ألأنها عرَّفت بالمرأة كبدعة مختلفة أم أن هنا أمراً آخر لا يسمى؟
نعم، بقدر ما كان الحوار قائماً، ومن خلال الأسئلة، بقدر ما كان مفهوم الحوار غائباً كلياً، إذ كان ثمة تباعد بين الاثنتين، حيث لا يظهر البتة، على ربحان أنها اطَّلعت على نتاج جانا (أتحدث عما تضمنَّه الحوار من كلام، ولا يعنيني ما إذا كانت قرأت لجانا شعراً أو ترجمة، أم لا، فالنص الموجود، هو الحكم الفصل أولاً وأخيراً!)، حيث الأسئلة لا صلة لها، بالموضوع المعرفي، بإحالة الآخر، إلى شاهد عيان، يبوح ببعض مما هو متكتَّم عليه، من خلال الحوار الدائر، ولا بدا على جانا، أنها عانت من سؤال ما، سوَّقت معرفياً ما يلزم، في سؤال يتحرك من الداخل، وهذا البائس في الموضوع الذي لا يلتفَت إليه، والذي يسمح بظهورأصناف تترى من أمّيي اللغة والثقافة والصور الجانبية، وهي تمارس تقويماً لسواها، من موقع الندية وتأكيد الأنا.
وفي الوقت ذاته، لأن عدم التداخل، لا ينتج إلا قهراً متشعباً، ومتنامياً، وخراب قيمة الثقافة ( انظر حول ذلك، مثلاً ” مكان تغمره الخصوصية” حوارات مع ساراماجو، بورخس، كورتاثار، بولز، أوستر”، الترجمة العربية، مصر،2006(.
أقول هنا، وأنا أشير إلى الرواية: موضوع الحوار المفترض أساساً، إن إسناد الرواية كبنية معمارية، إلى ذكَر حصيف، مأخوذ بالرسم، وما يعنيه مفهون الفن والفنان تاريخياً، وللتمييز بين الذكورة والأنوثة، يعكس البعد النفسي الأهم للمرأة، للروائية بالذات، فثمة فحولة معكوسة، وثمة انغواء أنثوي، بالحديث الذكوري عن الجسد الأنثوي المفجوع، وصيت الرواية، وحتى الاحتفاء بها” نيلها لجائزة نجيب محفوظ، مثلاُ، قبل سنوات)، لا يبتعد عن هذه الأنوثة الولائمية المقدَّمة للرجل، للذكر بامتياز، كما لو أن ثمة استحساناً فقهياً لهذا الانضواء تحت راية الذكورة الشرقية، وتكون براعةُ الرواية مسخَّرة، وهي في نعظها الجارف، مطلوبَ الذكر، أي أن ثمة سيكولوجيا المرأة المقهورة، حيث أن الرواية، لو تم تقديمها بمنطق الرواية، من خلال إبعاد هواميات اللغة، في شاعرية مقاماتها، وعنف المألوف التاريخي فيها، لما تجاوزت المائة صفحة، وهي في توضعها تدمر الجسد بإيروتيكيا أنثوية موجهة ضمناً، كما كتبتُ عن ذلك، في أكثر من مقال، في أكثر من دورية عربية، قبل سنوات، ولعل جانا، ودون أن تدري، أو تستشعر ما وراء رؤية الجسد المستفحل ذكورياً، وبطابع أنثوي في النص، تتماهى مع هذا البعد الجندري، أي الجنساني، بالمعنى الاجتماعي النفسي، حيث تتلاقى رغبتها مع رغبة تلك، لأن موضوعة الجزائر والثورة الجزائرية، والميراث المنهوب للثورة لاحقاً، شكلت استلهامات لمجمل كتاب الجزائر (رشيد بوجدرة، الطاهر وطار، واسيني الأعرج ..الخ), وبمعنى آخر، يمكن اعتبار مجمل (ذاكرة الجسد)، بوضعية السرد ذي النفَس الحار جداً، الحد الأقصى من التمادي في تبيان طغيان الفحولة المحلوم بها ذكورياً، رغم كامل التوصيف المركَّز على الجغرافيا السياسية والتاريخية الجزائرية، ولكنها تنمحق في الجسد، الجسد الموصوف من جهة المرأة، وباسمها، على لسان الذكر، لتكون الرواية في معتركها الدلالي، التمثيل التدريجي بجسد الأنثى وصفياً، وهدره قيمياً.
جانا، تنطلق من أحلام، تتمثلها تصورياً، لتسرد تاريخاً، يعنيها، لا تكتشف وباء العنف المنتثر في صميم العلاقة بين جسد السارد، وجسد الموجّه له، بين المعجبَة بالرواية، والمتجاهلة لما وراء الإعجاب هذا، حيث الدفق اللغوي، صورة من صور السادية الذكورية الهائلة والمشتهاة هنا، إذ الكلام الذكوري يحتكر الجسد المتعدد الجنسيات والمقاييس، والجسد الأنثوي محوَّر، بالتنازل الذاتي عنه (سطو الذات على الذات بالذات غوايةً) من خلال الكاتبة بالذات، حيث استمرارالسرد الذكري الطابع، لا يعدو أن يكون حضوراً ديمومياً له، اعترافاً صكياً باستثنائية تكوينه الحدثي التاريخي والقيمومي، وإبقاء الأنثى في الظل، أو برسم الوكالة، وهي مبتدعة بلسان رغبة الذكر.
وربما من هذا المنطلق، تكون هي معنية، بتلك الكتابات التي تتلمس فيها الصدى النفسي، لذاتها، في لاشعورها، بالقدر الذي تتقدم من الآخر: الذكر، على صعيد التعبير عن الرغبة من الداخل، حيث الشعر الحداثي، في مضمونه الجميل تدفق أطياف، لا يخرج عن (بيت الطاعة) الذكري، ولو أن فيض الكتابة، يشي بالمغاير، كما في انخطافها الاستهوائي غير المسمى ، بالكتابة المستغانمية، واهتمامها الألف ليلاتي، وليس بكتابات أخرى، من ناحية الترجمة (مثلاُ، لماذا لم تترجم لسليم بركات، حيث تختفي حدود النثر والشعر في كتاباته كثيراً، عدا عن أمور أخرى، تكون مدرَكة من جهتها؟ أليس لأن لغة بركات، غير لغة الأخرى؟ وأن ثمة أموراً أخرى، تفتح لها الطريق أكثر، بعيداً عن مساءلة، لا داعي لتسميتها؟ وإن كانت في ” أرض” بعيدة؟؟؟!).
وكان في وسع المترجمة، أن تبرز حرصها على ما هوتاريخي أفقي، بالتحرك عمودياً، في تبيان المقابل الكردي، وليس بإطلاق قول عابر وليس سابراً” ثمة تشابه، بين ما هوكردي وجزائري”، أن تشير إلى ما هو مماثل في الرواية الكردية، وفي هذا الشأن : محمد اوزون، فرات جوري، حليم يوسف، جان دوست، لالش قاسو، لقمان بولات…الخ)، وليس تذكيرها بأنها تعكف على ترجمة (ألف ليلة وليلة)، إلا استمراراً لهذا الخط، خط الأنثى المهدورة، غير المفهومة، من قبل الأنثى الكاتبة، خصوصاً، كما يجب، فشهرزاد، هي أبعد ما تكون عن الأنثى الفعلية، إن كل حكاياتها، في المجمل، تنتهي بهزيمة المرأة، أو بإبراز مكرها، وخياناتها المتتالية( على هذا قامت الليالي، هذه المفردة التي تشد المرأة كلاسياً إليها، ورمزياً )، وانتهاء الكتاب( أطلس حكايات الأنثى المشرَّقة بامتياز)، بالتوقف عن قتلها، شهريارياً، ليس لأنها أكدت انتصارها،بالعكس تماماً! وإنما أصَّلت مشروعية الرجل: الذكر، في أن يمثل المرأة، حيث شهرزاد، أنثى في هيئة ذكر في السرد الحكائي الليلاتي، كما أكدتُ على ذلك، في العديد من مقالاتي المنشورة في الصحافة العربية، وهي ذات النهاية، دلالياً، ومن باب الطرافة، تلك التي تعلمنا بها قصة زكريا تامر ( النمور في اليوم العاشر)، ذات القصة التي تشكل عنواناً لإحدى مجموعاته القصصية، حيث أُجبِِر النمر، وهو في قفص، على أن يأكل العشب، أن يقلد صوت الحمار تالياً، ليطعَم لحماً فيما بعد، وتالي التالي، يصبح القفص مدينة، والنمر مواطناً، وبالتوازي، تكون شهرزاد المرأة المعتبَرة النمرة المروَّضة، موطنة الرجل الذكر، والقفص مدينتها، حتى اللحظة.
جانا تتحدث عن الترجمة، دون أن تحدثنا بشيء، شيء ملموس، وكذلك المحاورة، حيث أن ذلك يذكرنا بغالبية المسمى بـ( الحوارات)، كما لو أن في وسع أي كان أن يصبح محاوراً، والحوار ليس هكذا كلياً، وأن في وسع أي كان، أن يتحاور مع سواه، أن يحاوره، ليكون المضحى به، هو الحوار نفسه، كما هي الأمية المستفحلة بين أسماء تفيرس سواها انترنتياً وخارجه.
تتحدث وتشتكي (ولو أنها في مكان آخر، في حوار مختلف، أشارت إلى أنها تقوم على ترجمة”منمنمات تاريخية” لسعدالله ونوس، حصراً، أي في موقع” حجلنامه” الالكتروني)، كما لو أنها تعيش انفتاحاً على مجمل النصوص الكردية، وبلغات مختلفة هنا (الكردية والعربية، على الأقل)، ما يكتَب عنها، وعن غيرها، في متابعات مختلفة، إطلاقاً من نزوع ذاتي، كما هو المقروء ببساطة، في صوتها الشكَّائي.
تقول عن أن الرواية بقيت سبع سنوت، لتطبع من جديد( ربما من هنا، ولهذا السبب، تتحدث عن دكتاتورية دور النشر الكردية، كما في حوار معها، في الموقع المذكور سالفاً)، وتشير في الوقت ذاته، إلى أنها قدِمت إلى استنبول سنة 2000، وأن اتفاقاً، كما يظهر، قد تم، بصدد ما يجب ترجمته، فكانت (ذاكرة الجسد)، وهذا يعني، إما أن الترجمة كانت جاهزة، أي منجزة، منذ سنة 1999، حيث ظهورها مترجمة، كان سنة 2006، أو أن ثمة خطأ ما، ينبغي تدقيقه، مثلما أنها تذكّر بأن الرواية، في الحالة الأولى، تمت محاولة طباعتها، بأخطائها، لكن العمل توقف، وأن تنقيحاً ما، قد تم، ولكن المترجمة لم تستطع إنجاز العمل ( التنقيح)، أو ( الأخطاء الحاصلة) في ليلة واحدة، وتشير إلى أنه كان لابد من طباعة العمل، في وقته، دون ذكر الأسباب (هل كان ثمة اتفاق ما، وعد ما، مع طرف، جهة ما، لكل ذلك؟)، وهل حقاً، أن المترجمة، حاولت تدارك بعض الأخطاء” اللغوية” أم الفنية؟ هل حاولت مراجعة العمل، وماذا راجعت فيه…؟، وهي تحدد أن كل ما حصل، من تغيير، فبعلم منها! لأنني، اعتمدت على القسم الأول من الرواية ، في تبيان، ليس العثرات، إنما الأخطاء القاتلة، كما سيُذكَر ذلك في حينه لاحقاً، أم أن كل ذلك، مجرد قول ” إنشائي/ خواطري)؟؟
وفي الحالة هذه، أشير إلى مدى تأكيد المترجمة، على أن الروائية عبَّرت عن سعادتها كثيراً، لأن روايتها ستُترجم إلى الكردية، ويعني ذلك أنها فرحت بفرحها، سعدت بموفقها ذاك، وهذا مفرح، ولكن، هل حاولت المترجمة مراعاة هذا الجانب، وما يمكن أن يكون موقف أحلام، إذا أُخبِرت أن روايتها لم تترجَم، كما ينبغي، لم تحافَظ على روحها الشعرية، في الحد الأدنى؟ ألا ينقلب الشعور الإيجابي، إلى أكثر مما هو سلبي؟ لأن العمل المترجَم، يمتُّ إلى المترجمة أكثر مما ينسّب، بتحوله ذاك، إلى الروائية. إنني أتخوف من أي عمل أقول بترجمته، ولو كان قصيدة، لئلا يكون اعتدادي بنفسي وبالاً علي، أو على الأقل، مسبب نقد مضاعف يوجَّه إلي، في هذا المنحى!
تتحدث جانا عن الترجمة، وفاعلية الترجمة تاريخياً، وهي تتحدث عن العصر العباسي، فقط لأنها ترجمت رواية، وهي في العقد الثالث من عمرها، لتزحزح الموضوع زاوية كاملة، أولاً، لأن الترجمة في العصر، موضوع مقحم في موضوع، ملجَم كثيراً، فالذين ترجموا لم يكونوا عرباً في الغالب، وهذا له اعتبارات أخرى، لا داعي لذكرها، وأن العرب لم يترجموا وقتذاك كل شيء، أي ما هو أدبي بالذات( الملاحم والمسرحيات )، لأسباب دينية ومعتقداتية وغيرها، ولأن الموضوع يخص الرواية ثانياً، ومن جهة الترجمة، كان عليها أن تشدد على مكانة الرواية تاريخياً، أن تركز على سبب عدم وجود روائية كردية، مثلما أن أمثلتها عن الذين ترجموا الأدب، كانت بحاجة إلى ضبط الاتجاه( جان دوست ترجم إلى العربية، وغيره ترجم بالعكس إلى الكردية، مصطفى آيدوغان، مثلاً) وكل لغة لها تاريخها حيث لا يجوز التقابل، لاختلاف الظروف،وثمة آخرون مارسوا الترجمة إلى الكردية، من خلال لغات أخرى (حسن مته وسواه)، وبهذا الصدد، فإن تقويمها للمترجم الكردي، ليس دقيقاً على الإطلاق، حيث الحكم كان قطعياً، وهي تنطلق من تجربة خاصة بها، وهذه التجربة، ما زلت في طور الاختبار، وكما حاولتُ القيام بذلك، من خلال نماذج مختلفة، مختارة، توزعت في صفحات كثيرة، في رواية (ذاكرة الجسد) المترجمة كردياً. والمشكل، هو أنها شددت على هذه الرواية، باعتبارها ترجمتها، دون أن تقف عند محاولاتها الأخرى، أي عما حاولت ترجمته سابقاً، في بداياتها، كما هو المقروء في حوارها الآخر، كتجربة أولى،لا بد من التذكير بها، وهي تذكر أسماء عديدة، مثل محمود درويش، ونوس، جبران خليل جبران..الخ، مثلما تسمي المنابر التي نشرت فيها، مثل جريدة البعث، ومجلة مواسم، سابقاً، والأكثر من ذلك، كيف أنها تحولت إلى الكردية، لعدم تمكنها من العربية، وأظن أن في ذلك شططاً، أو عدم وضوح في الصيغة، لأن ترجمة ” ذاكرة الجسد” تتطلب جهداً مضاعفاً، من ناحية اللغة العربية فقهاً ووضوح مفردات، وإشكالية بناء جملة، وتداعيات تفسيرها.).
إن جانا، وهي تندفع في حديثها عن المرأة الكردية، وما هي عليه واقعاً، وخصوصهاً ، عن دورها في المجتمع، ومن ناحية حماية اللغة، استمرارٌ لوعي ذات، يتطلب وعي ذات أكثر موضوعياً، وهي تتحرك في الظل من تأثير أحلام مستغانمي فيها( تتحدث، وتقوّم، وتفرّق، وتسمي، كما لو أنها ذات الروائية)، فالذكورة لا زالت طاغية في اللغة العربية، والكردية مختومة بالذكورة تاريخياً واجتماعياً بدورها.
نعم، أجدني، مشدداً، على وعورة الترجمة، صعوبة الأخذ بها فناً ذاتياً، يمكن التباهي به أحياناً.
وإذا كان مثالها حول أن الرواية المترجمة، تشكل قصيدة واحدة، أونصاً واحداً، وما يعنيه هذا، من بذل المزيد من الجهد، حيث اللغة الكردية ليست في مستوى اللغة المقابلة، فإن ذلك، يشكل أول العتبة، ولا يكون معياراً واضح الأبعاد، أولاً، لأن رواية أحلام، تظهر في جمل طويلة، وقصيرة، وقصيرة أكثر( في المشاهد الحوارية)، وأن ثمة روايات كردية ثانياً، تقدم هذا التأكيد، على أن سيرورة سردية قائمة فيها،وبنوع من الدوران، كما هي القصيدة الدائرية أحياناً (في رواية” أيام حسو الثلاثة” للالش قاسو، و ” صرخة دجلة” لمحمد اوزون، و: القيامة” لحسن مته، و ” مدينة الضباب” لجان دوست…الخ)، وأن الحديث عن اختلاف جنساني، في اللغة، ليس بالمعضلة الحائلة دون اعتماد البديل الأدبي، فهذه علامة فارقة لكل اللغات، وخصوصاً، حين تورد جانا مثالاً، أي (المدينة) باعتبارها مؤنثاً في العربية، وذكر في الكردية، إذ يمكن اللجوء إلى البديل الأنجع والأدق، منbajar، أي :şar، أو حتى şehr، فهذه المفردة أنثى vê şariyê : (هذه المدينة)، وأرى أن هذه المفردة تستجيب لروح المعنى المكاني والتاريخي، أكثر من الأولى، والتي تكون ضمن الثانية ( bajar) مع(bazar)، وهذه الأخيرة تكون (السوق)، وربما تتضمن الجباية أو الضريبة تجارياً، أي أن قدرات المترجم هي التي تشكل تحدياً له وللغة معاً.
إن قراءة نص الحوار التالي، كما أعتقد، تفتح أفقاً للحوار، في أكثر من اتجاه !
) نص حوار/ مقابلة، مع جانا سيداتي وسادتي:” أجرت الحوار: ريحان سرحان” (
|