سياسة النص، استراتيجية الترجمة:
كل كتابة ترتبط بتاريخ معين، أي: ببيئة، بواقع حال، بمؤثر أو أكثر..، هذه بداهة! لكن ثمة كتابات تمارس حضوراً لها، وكأنها خارج هذا التصنيف، عندما ترسم مواقفها، ودائماً باسم الحقيقة، تأكيداً على أنها تتوخى الحقيقة ذاتها تاريخياً. وما يبقى من آثار تخص حيوات شعوب مختلفة، عبارة عن نصوص مكتوبة، أو حقائق تشير إلى ممارسات يومية: مشاعر وأحاسيس مختلفة في تجلياتها، واعتقادات وتصورات، أو سياسات وقائع، لها حدودها ورموزها الثقافية، مهما بدت انفتاحية، كونية الطابع، طالما أنها تحمل أسماء، وتسمي أمكنة، تعنيها، حيث تقف شهود عيان على لامصداقية الكتابات السالفة، بالعكس، إنها تقف لها بالمرصاد، قليلاً أو كثيراً.
وملحمة جلجامش، نص نصوصٍ بامتياز، أعني أنه نص لا ينكَر عليه وسعه القيمي والجمالي والعريق، طالما أنه يواجهنا بحداثته، رغم تاريخ تشكله الغابر، يعايشنا، وربما ينافسنا، في الكثير مما نفكّر ونتدبر أمورنا، ويفتننا، إلى جانب الكثير مما هو طازج تشكلاً، رغم نأيه الزمني عنا، لأن ما يتضمنه، ما زال يمتلك القوة الرمزية، ليكون أهلاً في أن يشاركنا أهم ما يمثلنا حياتياً!
هذه هي قراءتي الأولى للملحمة هذه: إيجازاً، وأنا اسمي كل ذلك، انطلاقاً من رؤيتي للكثير مما يكتًب عنها، كما لو أنها نص مطواع، سهل التصرف بمصيره، كما تقول، أو تسمي، أو تحدد، مئات لا بل ألاف الدراسات أو الكتابات المختلفة التوجهات والمقاصد عنها، وهي في مجموعها عن أحد أمرين: كونيتها المذهلة، وهي لا تفارق ما هو متجذّر فينا نفسياً ومعتقدياً، وهذا يعني أن تأكيد صلة وجدانية بها، هو إثبات أهلية نسَب إنسانية، بتاريخ سابق، لا يني يزاحم الراهن بقوى رموزه ومضمونه (وما أقل المكتوب هنا)، وكونيتها الباحثة عمَّن يتحدث عنها، بسبب طابعها التاريخي المختلف (حتى الآن، لا إثبات مطلقاً، على أن ثمة أخلافاً، يمكن الوصول إليهم، أو تعيينهم بالاسم، يعيشون فيما بيننا، أو يمكن تحديدهم مكانياً، يمثلون السومريين، الذين شكلوا علامة فارقة في سلم الحضارة والأدب، ثم اختفوا)، وما أكثر الكتابات التي تسعى إلى النظر في أمر الملحمة على أنها لا تخرج عن تاريخ، ما زال قائماً، معاشاً هنا وهناك، أن ثمة تاريخاً ثقافياً حاضراً يرتبط به، من يمثل التاريخ هذا، حتى اللحظة، في العديد من الكتابات العربية، ذات النوازع المعتقدية والتاريخية “غير البريئة كثيراً، فيما تسمي وتفصّل آثارياً، قبل كل شيء”، من خلال تمثيل ملحوظ، لأصول الملحمة، يجعل بقاء الاسم (السومري)، فضيلة للذين جاؤوا بعدهم (أي السومريين)، وربما ما كان لهم كل هذا الألق دونهم. وهنا أسمي، وقبل أي كان، الباحث السوري، والمترجم البحثي، قبل كل شيء “فراس السواح”، أكثر من اعتنى بالملحمة، أكثر من حاول استعادتها، أو الارتحال إلى طائفة الكتابات عنها، ولكن ليس أكثر من أغناها وأنارها من الداخل، وفي الذي قدَّمه جهد بحثي مقدَّر، ولكن في كل محاولة، وكما نوَّهت، تبدو الملحمة، وكأنها أثر يبحث عن صاحبه، وصاحبه هو هذا الذي يشدد عليه، ويسمي رموزه، ويحدد إحداثياته المكانية والزمانية، وطبيعة أحداثها، مكرراً الكثير مما انطلق منه في البداية، قبل ربع قرن ونيّف، كأن ملحمة جلجامش، أثر سوري، وبالمعنى المعتقدي والثقافي الضيق (سوري قومي، لحظة التدقيق في بنية الكتابة عنده)، وهنا، يكون التحفظ، على كل جهد مبذول من قبله، حتى في طريقة الترجمة، التي يتقدم بها، كما لو أنها مجاورة للأصل، إذ يزيح كل النصوص الأخرى “المترجمة”، وبإطلاق، جانباً، أي العربية هنا، حتى وهي معايشة للنص الأصلي، وهذا هو الوجه الاستراتيجي في الكتابة وفي الترجمة، ولعله الوجه الأكثر لفتاً للنظر، حين حاول الاستاذ دحام عبدالفتاح الاعتماد عليه، على ترجمة له، حددتها سابقاً، ومحاولة التصرف مثله ارتباط نسِبٍ، ومن مدخل ضيق جداً، لا يشفع طبعاً، مع تبيان الفارق الكبير في المنطلق الثقافي:
السواح، وهو يشير إلى استمرار السومري في التاريخ جلجامشياً، بفضل اللاحق عليه بابلياً أو سواه، من خلال العديد، والمؤثر من التغيرات في بنية النص الذي يمثله ملحمياً.
ودحام، حين يحاول التماهي، بنسبة ملحوظة، مع طيف السومري، صوته، لغته، وكأنه امتداد له في عمق التاريخ، وما في ذلك من صبغة تكريد، تقابل صبغة “سورنة: إضفاء المفهوم السوري” عند الأول، وهنا يكون الخلاف الكبير، بين قسر في التحليل، بجعل لاسامية النص، ممهورة بما هو سامي (حضور البابلي- الأكادي، على الأقل)، في مكوناته، واندغام نفسي، أو ثقافوي بالمقابل، في النص ذاك، وكأنه لا سامي في كليته، في أثره المنتظر من يتبناه كردياً (في كتابي” الكرد في مهب التاريخ، طبعة 1995، ص 30-36″، أشرت إلى هذه العلاقة، تاريخياً وثقافياً، إنما دون الربط الُّلحمي بينهما، وكأنهما واحد، فهذه مخاطرة وقفز في هاوية، منشؤها مدد انفعالي، وشعاراتي كامن، ومحرّك بحثي يفتقد الدقة تاريخياً).
أسمي كل ذلك، وأنا أعلم أن ثمة ابتعاداً ما، عن نص الترجمة، ولكنني، وكما نوهت بداية، إلى أن المقدمة تتطلب مثل هذه المفارقة المعانقة، إن جاز التعبير، وأن المترجم، في لبوس الباحث يتحرك في إهاب التاريخ، ولكنه يهتدي، كما هو مقروءه، من خلال ما يعتمد عليه، مصادر مختلفة، وخصوصاً السواح (لا بل السواح أولاً وأخيراً، في الترجمة)، على ما يبقيه رهين المحبسين: محبس التاريخ المرسوم من قبل السواح، وهذا ما لا يتمناه دحام، ومحبس المعتقد الذي يؤثره على نفسه، ولو بها خصاصة اندفاعية شديدة الوطء، تروم خلاف توجهات مترجمة الآخر هنا (أي اختلاف مقصد المقدمة الرئيس، عن اتجاه النص المترجَم عربياً، والمعتمَد من قبل المترجِم الكردي)، وهذا ما لا يحبذه مترجمنا هنا، كما أظن، نقدياً.
ولكي أكون أكثر ضبطاً لنفسي، أكثر احتواء لموضوعي، أكثر قرباً من النص الذي توقفت عنده سابقاً، ومن المقدمة الكردية هنا، مستأنساً بالوارد فيها، رغم شساعة المختلف، فإنني، أحاول موقَعةَ اللغة التي تعينني، على الأقل، في توضيح ما أنا عليه، لا بل، وتري المترجم، ما هو متحرك باسمه، باعتباره أكثر من كونه مترجماً، أعني باستراتيجية الكتابة التفعيلية تماماً.
آثارالكتابة وآثامها:
بين الآثار (ما بقي من الماضي هنا)، والآثام (القراءات التي تستنطق الآثار خارج مهادها التاريخي)، يمكن العثور على كمٍّ كبير من التجاوزات المكانية، كما هي التسويات الثقافية الطابع ضمناً، من ناحية العلاقة، وموقع الدارس أو المترجم وولائية كل منهما !
إنما لا بد من التحديد، لما أريد العناية بأمره أولاً، وبصدد مقدمة المترجم الكردي هنا، أي بشأن المصادر الواردة في نهاية الكتاب، والخاصة بالمقدمة قبل كل شيء، فأقول:
أ- لا يكفي ورود طائفة من المصادر (Jêder)، على أنها مصادر بحثية، وفي موضوع تاريخي دقيق، لا يكفي الاستغفار وحده، لجعل المذكور (الوارد هكذا)، مقبولاً به علمياً، إذ بوسع أي كان، أي كان تماماً، أن يورد ما لا حصر له من المصادر ذات الشأن، طالما أنها غفل من المحدّد البحثي المباشر (في تاريخ الطباعة، ورقم الصفحة)، وهذا ليس طعناً فيما قام به الاستاذ دحام، أو غيره، إنما لضرورة بحثية، تفترض مثل هذا الإجراء، وهو أضعف الإيمان طبعاً، أي كون الاقتباس مع التدقيق، لا يستوفيان شرطهما المعرفي، دون وجود بنية ذهنية بحثية مؤكّدة للمعني.
ب- إن الترقيم، قد لا يكون كافياً بدوره، على أن ثمة اعتماداً على مصدر، يشار إليه، وفي حالات يُساَل عنها، إذ يمكن (أقول” يمكن”)، لهذا المقبوس أن يكون مستعاراً من مصدر آخر، دون أن يكتب (نقلاً عن)، وما في هذه (النقلـ :عنية)، من ارتهان قد لا يكون مطمئِناً، كأن يكون متصرَّفاً فيه في الأصل، محوَّراً، أو مأخوذاً عن مصدر لا يوثق به … الخ.
ج- إن التوثيق، رسَّام حدود ماهر، وطلاع حقائق يقينية أكثر! وذلك من خلال المقبوس بحصره بين قوسين أو ما يرادفهما، لمعرفة الممرات التي يتحرك داخلها فكر الكاتب هنا، أو حتى مكاشفة ما لمشاعره وأحاسيسه المرافقة بالمقابل، وتأثيرها بحثياً، ولمعرفة ما له، وما لسواه، وهذا هو الحد الأدنى والمطلوب من العمل البحثي، بنيّّة التمايز معرفياً أو اجتهادياً.
والمترجم، في مقدمته، تجنب هذا التسطير الأكاديمي البحثي الذي لا يمكن تجاهله، وهذا يقلل من فاعلية المقدمة برمتها، مهما كان الجهد المبذول ملموساً، وأظنني لا أثير الشك أو أسميه باسمه، إزاء ما كتبه (فأنا أخالني، مواجهاً للمقدمة المسطورة، مفارقاً دحام الشخص، ومقثابلاً إياه باحثاً، بما يتقدم في المقابل توثيقاً)، أي أن ما أعنيه هنا بالذات، وبدقة أكثر، هو أن المقدمة بالطريقة هذه، تستثير شياطين النهار، قبل عفاريت الليل، على الأقل، لمعرفة ما يخصه اجتهادياً، وما يعود إلى ما استفاد منه، يخص غيره، أو اعتمد عليه بحثياً.
إن ذلك، من شأنه أن يضعه في (فوهة مدفع) الشكوك الكبرى، من شأنه أن يربك أكثر المقربين منه، لأن ليس هناك ما يؤكد أن الوارد في هذه الفقرة، أو الصفحة، أو حتى في سياق عبارة ما، يعنيه تماماً، حيث أن كل خطوة في التاريخ، وفي عمل كالذي تعرَّض له، تتطلب إما دليلاً مادياً، أو تحركاً بين دليلين ماديين، من خلالهما، يكون استخلاص معلومة، أو تسميتها، عبر إيجاد ثغرات، يعهدها كل تاريخ، وبتفاوت من مكان لآخر، أو تتطلب نقطة ارتكاز مادية ما، ثقافية تقوّي من رصيد المستخلَص بحثياً هنا، ويدفع بالقارىء الناقد، إلى الاستعانة بمصادر تعينه على تتبع الأثر، أو تدفع به، إلى مطالعة ذات المصادر الواردة.
وبالنسبة لي، لا أخفي أنني، وكما هي عادتي، فور النظر في الكتاب، بحثتُ عن المصادر، والتدقيق فيها، لأحسن النظر في متن الكتاب، والمقارنة بالمقابل، وكان قلقي كبيراً، مثلما أنني توترت، لأن خطورة المقدمة، تعادل خطورة الرهان على نسيَب الملحمة وشركاء الكتابة فيها، بوجود المستمسكات المادية وشهود التاريخ (الثقات) طبعاً،لابل يكون العمل على استثمار الوثيقة، وهي دقيقة وفاعلة، يكون بمثابة الرصيد الذي يسمي قوته دون التعريف مباشرة! وكان علي إما أن أقفز على المقدمة، أن أكتفي بقراءة النص المترجَم (حتى دون الهوامش المذكورة، لأن ثمة معلومات، تتطلب توثيقاً مصدرياً لها)، فيكون أمري كمن يشرب ماء، دون أن يتأكد منه، في مدى سلامته، ومصدره، أو أحاول التحّري في المحيط النصي، وأعرض نفسي بذلك، لجهود استباقية نفسياً، إنما لا أظنها، بالهيّنة، من جهة متابعة ذات المصادر قبل كل شيء، أو أرفق قراءتي للنص بقراءة موازية للنصوص التي تضيء معالمه، من نواح مختلفة، وهذا ما كان. وربما لا يكون مدحاً لذاتي، إن أنا قلت، أن ما ساعدني على قراءة المقدمة، ومحاولة تذكر مناخات المصادر المحتملة، هو انشغالي بموضوع التاريخ والأساطير المختلفة، وفي نطاق الانتروبولوجيا، وخصوصاً (جلجامش)، حيث تعرضت لها دراسة، وبحثاً، وتنقيباً ثقافياً، من زوايا مختلفة، كوني أعتبر أي قراءة لها لا نهاية لها، من جهة رحابة الدلالات، وعمق المؤثرات الثقافية فيها، كما في الكثير من كتبي ذات الصلة بالتاريخ، ومنها (الجنس في القرآن- جغرافية الملذات- المتعة المحظورة- الضلع الأعوج- الشبق المحرم…الخ)، وجميعها صدرت عن شركة رياض الريس (لندن- بيروت)، ولعلي، وأنا أسمي مصادري هذه، فلرغبة في التوثيق المباشر، وللمزيد من الفائدة الناطقة بزمانها ومكانها، وما يتبدى قيمياً بينهما، ثم ما يمكن أن يتشكل من خلال هذا التحديد المطلوب.
ولم يكن البدء بالنص، إلا من هذا المنطلق، ولتجاوز التنميط في قراءة أي موضوع كان، حيث إن تناول المقدمة في الحالة المذكورة، هو فعل إزاحة لستار تاريخي، بينما مكاشفة النص، فهي فعل نظر في ذات الستار، وماذا يخفي من جنسه.
البحث في الأولويات:
المترجم يبحث عن موطىء قدم، فيما يهتم به، ولعله محقٌّ في هذا، كما هو شأن سواه، في أي مبحث تاريخي، ثقافي أساساً، وأظنها أولى الأولويات التي تحفّز على القراءة والكتابة معاً! المترجم باحث وكاتب وشاعر، في آن، طالما أن هناك نصاً ميتاتاريخياً (أكثر من كونه تاريخياً)، وأعني بذلك نص جلجامش، إنه نص أدبي وتاريخي، نص ثقافي، ولو أن الأساس الذي انبني عليه شعري، ولكن الأساس هذا يخص تاريخه ذاك، وليس ما هو متصوَّر أو متحصَّل لدينا كمفهوم شعري، وكل ما يأتي يكون الزمان والمكان مؤثّرين فيما يختاره أسلوباً للترجمة، وموقعاً يتخذه إزاء النص الذي ينفتح له بطريقة معينة. هنا أتذكر ما قاله خورخي لويس بورخيس، في كتابه الممتع (صنعة الشعر)، وهو أكثر من كونه كتاباً في الشعر، أو حوله، إذ يخص الشاعر كاتباً ومثقفاً وباحثاً وصاحب معتقد وممثل ثقافة ومجتمع محدد، أتذكر ما قاله، وهو (المرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما ما يستطيعه- الترجمة العربية، دار المدى، دمشق، ص 138)، وهنا يكمن الفارق بين الرغبة في القراءة وأبعادها، والرغبة في الكتابة وآفاقها، يكمن الفارق بين طبيعة الاختيار للنص، وما وراء الاختيار، والموقع المقابل، وسمة الكتابة القادرة على تمثيل الموقف والمعتقد، وهي التي تشكل رهان الكاتب: المترجم، مثلما تشكل شاهد عيان على مغزى عمله!
في مضمار المقدمة، يتحرك دحام بين التاريخي والثقافي، في التاريخ، ثمة أسئلة البدايات، وفي الثقافي، ثمة أسئلة النهايات، فما يبدأ به مقدمته، يشغله فكرياً كثيراً، وما يصل إليه في السياق، وفي الختام، بوازع الثقافة، يستأثر باهتمامه نفسياً، وهنا يكون الحراك البحثي وسياقاته!
أنطلق هنا، من نقطة نظام الاختيار الذي استأثر باهتمام المترجم، أي الترجمة التي اعتبرها أقرب إليه من سواها، كون الترجمات الخاصة بنص جلجامش كثيرة جديدة، ومن لغات، وعنها، أو عبرها، والمترجم الكردي محكوم ليس بالاختيار هنا، وإنما باللغة التي يحسن قراءتها ومن ثم الكتابة بها، لغة تكون وسيطاً، ليكون النقل عبرها، إلى لغته، فهو لا يعرف لغة النص الأصلية (الأكادية (البابلية)، والأصول السومرية للنص، إضافة إلى اللغات الأخرى التي ارتحلت الملحمة إليها، بطرق مختلفة، بحسب الموقف وثقافة الناقل أو المترجم حينذاك، وما تشكل في الإثر من طابور لغات ونقلة أو مترجمين في السياق التاريخي، وفي مراحل تاريخية مختلفة، إلى هذه اللحظة، والمترجمون كما هم دارسو النص من زوايا شتى يشكُون من هذا الجانب، وما أشكله من جانب، فيكون التاريخ حاضراً بكل أطيافه ورهاناته المعتقدية، نعم ، (إن حسنا التاريخي يثقل علينا، يضايقنا. لا نستطيع أن ندرس نصاً مثلما فعل ذلك رجال العصر الوسيط، أو عصر النهضة، أو حتى القرن الثامن عشر….- بورخس، في مصدره السالف، ص 104).
والمترجم له حسه تاريخه، إنما هو محكوم به زمكانياً وثقافياً، والثقافة تشهد على ذلك، حيث الاختيار أقل من كونه اختياراً، طالما التعدد قائم فيه، وليس لديه سوى لغة واحدة، يمكنه الاعتماد عليها، في عملية الترجمة، وهي العربية، مثلما أن مترجم العربية، هو الآخر كان محكوماً باللااختيار إلى حد ما، أي السواح، وهو يعتمد الانكليزية، لكنه كان أكثر قدرة في التحرك والمقارنة البحثيين، وربما لديه اطلاع على أمور معينة، تخص ثقافات أخرى في لغاتها، مباشرة، أو عن طريق الانكليزية المتبحرة في ميدان البحث التاريخي، والخبرة الثقافية وفقه اللغة، وخصوصاً بصدد نص الملحمة، أكثر من العربية لغته، بما لا يقاس (وهنا، مثلاً، يكمن الفارق الكبير، بين اعتراف بوحي للسواح، على أن الملحمة شغلته منذ سنين طويلة، وكان بحثه الدؤوب في قراءة نصوص كثيرة، كما يقول، من خلال الترجمات الأجنبية والعربية، وأن جلجامش شكّل إغواء دائماً له، للكتابة عنه…كنوز، ص 14، وما يعتبَر اعترافاً بوحياً، من جهته، عندما يشير دحام إلى أن هوس ترجمة الملحمة هذه شغله منذ سنين طويلة…الخ، ص 21، دون وجود الرصيد اللغوي والبحثي في المقابل)، فيكون المترجم الكردي متحركاً في ظل مترجم (مسكون بطيفه اللغوي والنفسي إلى درجة التماهي كثيراً)، محكوم، بأكثر من معنى، بثقافة تاريخية واجتماعية ومعتقدية، تبقي النص الأثير محمولاً برغبات لا تخفى، لها صلة بمستجدات الراهن، كما تقول معظم كتابات ذات الشأن بالنصوص الميثولوجية وسواها تاريخياً، وهذا النص قبل سواه، نظراً لموسوعية أبعاده، ولأنه، وكما يظهر، يشكل بؤرة انتشار تاريخ وحضارة وثقافة ريادية، حيث كل محاولة تأكيد صلة نسَب بالملحمة كتاريخ وثقافة وأصول حضارة، بمثابة تأكيد عراقة أقوامية، أو أصالة تاريخية وحضارية، كما هو المقروء في مجمل الكتابات التي تعرضت لها بحثاً وترجمة ووشائج قربى في المنطقة التي نعيش فيها، وفي الجوار الجغرافي الواسع، وهذا ينطبق على المترجم العربي، مثلما ينطبق على المترجم الكردي، فيما انتهى إليه، دون الجمع النسَخي بينهما، وأظن أن القول بـ(فيما انطلق منه، منذ البداية، وقبل أن يخط الحرف الأول)، هو في محله، على صعيد الرغبة الذاتية والثقافية!
يشير المترجم إلى عدم معرفته للترجمات الكردية التي طالت ملحمة جلجامش، ولكنه يحدد واحدة منها، لصلاح سعدالله، وقد صدرت سنة 1988، باللغة الكردية (اللهجة الكرمانجية “البهدينانية”، أي بالحروف العربية)، وهو يثمن كثيراً هذه الترجمة، وفي جمل متتالية، أقرب إلى التعبير الأدبي، منه إلى اللغة البحثية المقتصَدة (لا شك أن الاستاذ الموقر صلاح سعدالله قد أجهد نفسه كثيراً في ترجمة الملحمة، أنه عانى الكثير من المشاق وسهر الليالي، لكنه في النتيجة أظهر كنزاً ثميناً، وأغنى المكتبة الكردية بذلك، طال عمره..الخ. ص20).
ليضع، إلى جانب تثمينه لعمل نظيره الكردي بضع ملاحظات، تمهّد لسبب قيامه هو، من جهته بترجمته هذه:
أولاً – اعتماد سعدالله، في ترجمته على كتاب طه باقر (ملحمة جلجامش)، دون الرجوع إلى مصادر أخرى، لتتوضح في السياق معاني جمل، أو تأتي كتابة أسماء بدقة أكثر (يذكر بعضها).
ثانياً- لقد جاءت ترجمته على طريقة الأحداث الجارية وموضوعاتها، مثل (الفصل الأول: جلجامش وانكيدو).. ليعلق على ذلك بقوله، وباختصار، أن أسلوب الترجمة هذا لا يظهر وحدة تسلسل فقرات العمود الواحد في كل لوح، ويصعّب فهم الترابط فيما بينها. إذ لو تمت ترجمة كل لوح بمفرده، وتسلسلت فقراته، داخل كل عمود خاص به، عندها كان يحدث ربط أدق بين النصوص (نصوص الألواح المشكلة للملحمة)، مثل: اللوح الأول- العمود الأول- السطر:الأول، الثاني، الثالث.
ثالثاً، لأن المترجم الآخر (أي سعدالله)، اعتمد لهجة منطقة بهدينان، وبالحروف العربية، لأن ثمة صعوبة في انتشار ترجمة كهذه، في شمال كردستان وغربها، ليضيف، موضّحاً هنا طريقة اختياره للكتابة (بأي لهجة)، ولماذا، أي أنه اعتمد اللهجة الكرمانجية وبالحروف اللاتينية، محاولاً تلافي أوجه النقص في الترجمة السابقة، ليرجع بقارئه إلى الوراء قليلاً، إلى مدى ارتباطه بهذا النص، إلى شغفه به، ورغبته في ترجمته (إلى عام 1988)، وهي سنة صدور ترجمة سعدالله، متفرغاً منها، بعد جهد سنة كاملة، وليضيع نص الترجمة، ثم يعاود الترجمة من جديد، إنما خلال ثلاثة أشهر، هذه المرة (بدءاً من مطلع 2002، حتى نوروز2002، ص 22)، ويكون اعتماده الأكبرعلى فراس السواح الذي انشغل بنص الملحمة كثيراً (فله ثلاث محاولات ترجمة لهذا النص، إلى العربية، وبالاسم، عدا التعليق والبحث: الترجمة الأولى، تحت عنوان “ملحمة جلجامش”، الطبعة الأولى 1981” ، وكما يذكر السواح نفسه، في مقدمته ترجمته الثانية “كنوز الأعماق..، ص 14″، والاستاذ دحام يحدد عام 1982، تاريخ صدور لها، لكنه تاريخ الطبعة الثانية لعمله الأول، كما يرد ذلك، في قائمة أعمال المؤلف، أي السواح، في نهاية “كنوز الأعماق”، ص 301، والثانية، سنة1987، والثالثة، سنة 1996، ص23)، وأنا أتحفظ على مفهوم الترجمة (في الحالات الثلاث)، كما لو أنها ترجمات مختلفة، إذ التغيير طال الحواشي، وليس المتن، كما في الربط بين الترجمتين: الثانية والثالثة، وفي الثالثة، يتم حذف اللوح الثاني عشر(أقول هذا، لأن الترجمة الأولى ليست في حوزتي، صراحة)، والاستاذ دحام يبرر بداية، هذا الاختيار للترجمة العربية، من بين ترجمات أخرى، كون السواح، راجع ترجمات وأبحاثاً ومصادر كثيرة، تخص نص الملحمة، وكذلك أدب بلاد ما بين النهرين القديم، وخصوصاً تلك الترجمات والأبحاث التي ترجمت عن لغات الملحمة القديمة، وهي الأكادية والبابلية والآشورية، من قبل عديدين (يسميهم، في الكتاب، ص 23)، هم وغيرهم، ممن يسميهم، وفي ضوء مراجعاته، جاءت ترجمته، ليكتب بالتالي (من وجهة نظري، لقد جاءت ترجمة ف. السواح متكاملة، ولم تبتعد عن النص الأصلي. ص 23)
وأنه إلى جانب ذلك، استفاد من ترجمة سعدالله، وخصوصاً، جهة الكتابة الدقيقة لبعض الأسماء.
طبعاً، لا يمكنني إلا أن أثمن، بدوري ، ترجمة الاستاذ دحام، وكما قلت منذ البداية، وأنه بعمله هذا، أغنى المكتبة الكردية، بصورة أمثل (على أقل تقدير، من جهة اللغة المكتوبة)، ولكن، وكما تعلمنا لغة البحث والمتابعة البحثية، لا يمكنني أن أثمّن دون أن أضمّن ما يمكن قوله مكاشفة لما يتردد في صلب المقدمة، في مسار القول الذي يعني المترجم، ومصادره، قبل أي نقطة أخرى، ويعني القارىء، وكذلك الباحث الكردي، إضافة إلى العربي وغيره، فيما لو ترجمت مقدمة المترجم هنا إلى ذات اللغة المعتمِد عليها:
لقد قلت منذ البداية، وبصدد القيام بأي بحث نقدي، تاريخي، أن لا بد من التوثيق، ليسهل التمييز بين ما يكونه للباحث الجديد، وما يخص سواه، وهذا مفقود تماماً في النص (وضع المقبوس بين الأقواس). إن ذكر الأسماء لا يكفي، لأن ثمة كلاما، يسبقها، مثلما يلي ورودها، وهذا يبلبل أساس النص، أو أساس البحث برمته، مهما برزت القيمة البحثية عالياً، لأن ثمة طابعاً كوسموبوليتياً، يضيّع انتماء الأثر: مكاناً وزماناً وثقافة. لا بد من “النبش” إذاً، وما يسببه من سجال بغيض هنا!
ربما جاء اعتماد دحام على ترجمة السواح، من زاوية أخرى، خارج دائرة التغطية المبرراتية السالفة الذكر، دون نكرانها كلياً، وهي تسلسلها (كونها مرقمة)، وفي جمل متتالية وقصيرة، تمكّن المترجم، أو القارىء من التحرك (الرقمي) أو الجملي، دون بذل جهد مضاعف، خلاف الترجمات الأخرى، وأذكّر هنا بترجمة طه باقر.
لكن ثمة تصوراً آخر، قد يبرر هذا الاختيار (أقول”قد”)، وهو أنه لم يختر ترجمة السواح، ومن خلال المقدمة المتأثر بها، وكما هو معلَن، لأن السواح ذو باع طويل في الحقل البحثي الأكاديمي المطلوب، فهذا أقله، مقارنة بالمختص (طه باقر هنا)، وإنما ثمة اعتماداً أكثر للغة الأدبية، في المقدمة خصوصاً، ومحاولة لإظهار أن اللغة هذه هي الأقرب إلى النص الأصلي، من جهة السواح، والذي يظهر دحام مأخوذاً به (بتأثيره)، باعتباره الأميل إلى الأدب كثيراً، وبما لا يقاس، وهنا يكمن الأسهل اعتماداً، كما لو أن نص جلجامش أدبي الطابع، وهذا مقتل التصور في ذلك، إنما هو نص ثقافي بانورامي، قبل كل شيء..
أما عن الملاحظات الأساسية التي وجَّهها دحام إلى مجايله الكردي: سعدالله، ولماذا اعتمد على ترجمة باقر، فهي لا تخصه مطلقاً، وإنما هي ملاحظات السواح على ترجمة باقر، وكما وردت في (كنوز الأعماق…، ط1، 1987، ص60)، وربما بشكل حرفي، كما لو أن اللغة الكردية هي اللغة العربية، وأن موقع المترجم الكردي وموقفه، كموقع الآخر وموقفه بالمقابل، حيث أن السواح لم ينتقد باقر، إلا ليمهد لترجمته كثيراً، لأن الأسباب الواردة لا تقلل من أهمية ترجمة باقر الأركيولوجي والأكثر باعاً في هذا الميدان، وكأن باقر هذا، يفتقد الحس الأدبي مرفقاً بالبحثي الأكاديمي الأثري المطلوب. ثمة نزاعاً على الاسم، وعلى الموقع، والسواح لا يخفي جانباً كيدياً ما في عملية النقد الموسومة، حيث إن عنوان (ملحمة كلكامش “اوديسة العراق الخالدة”)، عند باقر، يتحول عند السواح، إلى (جلجامش “ملحمة الرافدين الخالدة” ،ط1، 1996،ط2، 2002)!
أكثر من ذلك، تكون المفاصل الحركية الكبرى في المعتبَر بحثاً تاريخياً، وبشأن الملحمة، عند السواح، عائدة إلى باقر، أو على الأقل، تكون مقروءة عنده، والمقارنة تشي بذلك، كون المقدمة الخاصة بترجمة السواح، أو الدراسة ذاتها، ترتد إلى ذات الأصل كثيراً، وتتكرر بشكل ما أو بآخر، ومن خلال كتبه المعروفة، وحتى بالنسبة إلى المعتبر كتابة (مدخل إلى نصوص الشرق القديم). إن ما يخص جلجامش، والواقع بين (278- 307)، يتكرر في كتبه الأخرى، ولا تغيير يستحق الذكر هنا في المتن، لا ربما يكمن التعارض أو التناقض، ومن ذلك ربطه اللوح الثاني عشر بالملحمة، في ترجمته الثانية، وإزاحته في (ملحمة الرافدين الخالدة)، كما ذكرت، بدعوى أن لا علاقة لهذا اللوح بالملحمة، وهذا يعني خضوع نظرة الكاتب إلى منطق التطور والتحول بحسب المستجدات، ولكنه يبدي إصراراً فيما يسطّره، وفي الوقت الذي يحاول التقدم، حتى على الذين يعايشون النص الأصلي، كما في حال طه باقر، والذي أصدر ترجمة للملحمة، بمشاركة عيره،في خمسينيات القرن الماضي أصدر ترجمته الخاصة به، فيما بعد، كما ورد هذا في مقدمته (انظر، في الصفحة 22- 30، بصورة خاصة)، وكيف أنه لا يدعي قِدم الأفضل، رغم باعه الطويل في ذلك (ص31-32)، مستفيداً من نصوص كثيرة (ص 30)..الخ.
وفي الوقت ذاته، إن كمية المعلومات ذات الصلة بالموضوع، عند باقر، هائلة وثرة، كما تكشف إحالاته المرجعية، وفي أكثر من لغة، عدا الجانب التوثيقي، والهم البحثي الأكاديمي، والسواح لا صلة له البتة بكل ذلك، حيث التقدم بتبرير غياب الوحدة النصية، أو النفحة الشعرية، لا يعني وضع جهد باقر جانباً، في الوقت الذي تكشف قراءة نص باقر، والمترجم، ومن خلال الحواشي، عن متعة ملموسة، من خلال طبيعة اللغة البحثية، التاريخية والآثارية، وحتى الأدبية، كون النقل الحرفي أحياناً لا يعني إفقاد النص المترجَم حرارة المعنى، وأنا أحيل القارء مجدداً، إلى كتاب بورخس المذكور سابقاً، وهو الضليع في مجال معايشة اللغات والنصوص مع بعضها بعضاً، عندما يقول (عملياً، يمكن القول إن الترجمات الحرفية لا تؤدي إلى الخشونة والمغالاة في الغرابة فقط، مثلما يقول ماثيو أرنولد، وإنما هي تؤدي كذلك إلى التجديد والجمال. ص 97).
إن مقبوس السواح من باقر (ص61-63)، وفي مقطع مستل من الترجمة، وإيراد نصه، لا يمنح السواح قيمة البراعة في بقاء ترجمته باعتبارها الأفضل، لأن ثمة تصورات مختلفة في كل ترجمة، وربما أمكنني القول، أن ثمة مقاطع طويلة جداً، رائعة في ترجمة باقر، كونها معايشة للغة الأصل، وليس ما اعتبره دحام ، تقديراً، بشأن ما قام به السواح، الأقرب إلى النص الأصلي، وهو غير عالم به، وهذا ما يمكن تتبعه، حتى في الترجمة المصرية (دار المعارف، مصر، 1970، ص81)، وبالمقابل، فإن قراءة ترجمة الدكتور سامي سعيد الأحمد، وهي عن الأكادية مباشرة، من خلال ترقيم الفقرات، وتسلسلها، ووضع اللغتين إزاء بعضهما بعضاً، تظهر جمالية مختلفة، عدا الشروحات والترجمات الحرفية والصرفية في نهاية البحث، كما في اللوح الحادي عشر، عند إجراء المقارنة، مثلاً (انظر، على سبيل المثال، مجلة “التراث الشعبي” العراقية، العدد السابع، بغداد، 1979: ملحمة گلگامش، القسم الرابع عشر، اللوح الحادي عشر، ص 177-218).
وهنا، أشير إلى ما اعترف به دحام بداية، كيف أنه حاول ترجمة الملحمة شعراً، سنة 1988، وبعد إنجازها، تلمَّس فيها نواقص كثيرة، من جهة دقة المعاني (ص21)، وهذا الاعتراف يستحق مقاربة نقدية، إذ لا يضير صدور أكثر من ترجمة للنص، شعراً أو نثراً، فلكل منهما جماليته، شرط استيعاب مكونات النص المترجَم، وثمة كثيرون ترجموها: عرب وأجانب شعراً ونثرا ومزجاً بينهما، ولكل منهم موقعه في القيمة الجمالية جلجامشياً (انظر حول ذلك، ما أورده بهذا الصدد: سالم حسين الأمير، في “الشعر والأدب في أقدم الحقب: سومر- أكاد- بابل- آشور”، دار التكوين، دمشق،ط1،2008،ص157-158)، ولعلي أستطيع القول، ودون تردد، ومن خلال بنية مقدمة دحام، أنه وقع تحت تأثير السواح سلبياً، وموقفه من المترجَم عن جلجامش شعرياً..!
إنني لا أهمل ترجمة السواح، بل أستأنس بقراءتها إلى جانب قراءتي لترجمات أخرى، من منطلق أنها في مجموعها تشكل أطيافاً تترى للنص المعتبر أصلياً، ولكنني أنتقد في السواح نزعة الأفضلية المزعومة، وكذلك الجدة في البحث التاريخي، حيث تبرِز كتاباته في المجال المذكور، مدى اعتماده على آخرين، وضمناً هنا، على ترجمة هيديل، عن النص الأصلي، أكثر من غيره (كنوز، ص 78).
وهو بالمقابل، لا يوثّق موضوعه البحثي، كون الإحالة المصدرية عنده تكون مرجعية (دون تحديد الصفحة غالباً)، كما في مقدمة (كنوز الأعماق)، من خلال التذكير بكريمر، في كتابيه عن السومريين (السومريون- وأساطير سومرية)، وكذلك كتابه الآخر (أينانا ودوموزي)، دون ضبط المصدر، لا بل تأتي الإحالة الجزئية، كما في فقرة (جلجامش وأرض الأحياء)، بمثابة انقلاب على التاريخ من جهة الأمانة العلمية، كما لو أن الفقرة هذه، من بين فقرات ست، هي المبحوث فيها عند كريمر، ودون تحديد الصفحة، كون الإحالة عامة.
إن قراءة الفصلين من كتاب كريمر (من ألواح سومر- ترجمة طه باقر، الطبعة العراقية- المصرية): الفصل الحادي والعشرين خصوصاً (قصص جلجامش “أول حالة من الاستعارة والاقتباسات الأدبية، ص 303-330”)، ومن ثم الفصل الثاني والعشرين (أدب الملاحم “أول عصر بطولة الانسان”، ص331-362)، تظهر مجمل ما كتبه السواح، بصدد الملحمة، أي كخلفية تاريخية، من ناحية سوء الأمانة العلمية، وخصوصاً أكثر، وكمثال جلي هنا، ما يرتبط بالقصائد الست المتضمنة لقصص جلجامش:
جلجامش وأرض الأحياء
جلجامش وثور السماء
الطوفان
موت جلجامش
جلجامش وأجا “صاحب مدينة كيش”
جلامش وأنكيدوا والعالم الأسفل (بدءاً من ص 314- 320).
دون نسيان الأسئلة التي يطرحها السومريولوجي بعد ذلك عن السومريين، وعن الملحمة تاريخياً (ص 320، وما بعد).
والسواح ينطلق من هذه المواد التي وردت في الفصلين السالفين (الأول منهما خصوصاً)، وتحديداً طيَّ فقرته المعنونة بـ(الخلفية الأدبية والأسطورية، ص 30، وما بعد)، مغيّراً في ترتيب القصائد السالفة الذكر، وفيما يتعلق بالجانب الإيقاعي، ومفهوم التكرار، وهو ينتقد طه باقر (ص 63)، إذ يذكّر المعني بما كتبه كريمر مجتمِعاً، في كتابه (إينانا ودوموزي، الترجمة العربية، قبرص، 1986، في أول فصلين (السومريون وثقافتهم وأدبهم- و: الشعر السومري: التكرار، التقابل، النعت، التشبيه)، ويعيدنا هذا، إلى كتاب السواح الأول (مغامرات العقل الأول)، ومدى اعتماده على كريمر، دون التذكير به كما يجب، حيث تظهر المعلومات الواردة : ترتيباً وشرحاً ومقارنة، من اجتهاده الشخصي، سواء في (سفر البداية) أو(سفر الطوفان)، أو (سفرالفردوس المفقود)، إذ تجد ذلك في كتاب كريمر (من ألواح سومر)، وبصورة خاصة، في الفصلين (السابع عشر “الفردوس: أول أوجه مشابهة مع التوراة”، والثامن عشر “طوفان- أول نوح”)، وهذا ما لم يتنكر له طه باقر، وهو يوثق معلوماته، كما تقول قراءة مقدمة كتابه، وبدقة المخلص لمادته، وفيما ورد في مقدمة الطبعة المصرية…الخ.
وأعني بذلك، أن طه باقر يظل الأقرب، بكثير إلى الدقة، في اعتماده الأمانة العلمية، وهو الجامع بين ما هو آثاري وبحثي وأكاديمي، كما أسلفت، لذا يستحيل تجاوزه في أي قراءة تاريخية عن نص الملحمة، أو قراءة بحثية عن الملحمة بالذات.، وبالمقابل لا يكون السواح في عداد الآثاريين مطلقاً (انظر،مثلاً، حول ذلك مقدمة شاكر الحاج مخلف، لكتاب “إنانا: ملكة السماء والأرض”، لدايان ولشتاين، وصموئيل كريمر، دار نشر خطوات، دمشق، 2007ـ فقرة “جلجامش السومري” خصوصاً، وأكثر من ذلك، ما أورده سالم حسين الأمير، في كتابه “الشعر والدب في أقدم الحقب: سومر- أكاد- بابل- آشور”، المصدر المذكور،الفصل السادس، ملحمة كلكامش، ص 155، وما بعد…الخ).
والاستاذ دحام عندما يتوقف عند السومريين (من هم السومريون)، وصلة الكرد بالسومريين، أي (الكرد والسومريون)، وذلك في الصفحات (24-25-26)، يكون مختلفاً عن السواح، وأقرب إلى باقر، في محاولته مكاشفة حقيقة السومريين، ومدى الصلة بينهم وبين الكرد، ولكنه في مسعاه، ومن خلال بعض الأمثلة (اللغوية، ص26-27)، محاولاً تكريد السومريين، بصورة ما، يقع في مطب النزعة الكردوية، كما هو الحال مع السواح في منزعه المذكور، ودون وجود أدلة كافية، وليس لدى دحام أصلاً، مثل هذه العدة البحثية والآثارية التي تمكنه من ذلك، لينطلق من تصور إسقاطي، أوتخميني، على ما لا يمكن التأكد منه، حتى بالنسبة لكبار السومريولوجيين، فقط ثمة إحالات مصدرية، وهي اجتهادية، تسلط الضوء على خطوط رحلة السومريين، وصلتهم بشعوب أخرى، أو ببؤر جغرافية أخرى، كما يشير كريمر، إلى عملية اندفاع السومريين (من خلال الدويلات الحاجزة في غربي ايران وغزوا جنوبي العراق نفسه، حيث حلوا فيه بصفتهم أسياداً فاتحين)، وليقول بعد ذلك (وموجز القول هو أن العصر الذي سبق العهد السومري بدأ على هيئة حضارة قروية زراعية أدخلها الايرانيون (إلى جنوب العراق) من الشرق…الخ، ص356، من كتاب ” من ألواح سومر)!
في ذمة الكاتب:
كما قلت منذ البداية، إن الاستاذ دحام استرسل في كتابة المقدمة، من خلال عناوينها الفرعية، معتمداً أسئلة متلاحقة، وأجوبة متقطعة، ونتائج تبدو قطعية، وليس تخمينية، وكم كان الوضع مثيراً، لو أنه مارس تصنيفاً وثائقياً للمعلومات الواردة، على مدى صفحات المقدمة، إذ تكون في مجملها موزعة في بطون مجمل الكتب التي يسهل الرجوع إليها، وهذا من شأنه النظر في كل جهد مبذول، حتى أثناء الاقتباس غير الموثَّق، وفي جمع المعلومات، على أن هذا الجهد الموسوم عبءٌ على التاريخ ذاته!
ثمة تداخل في المعلومات، تقديم وتأخير، تفكيك فقرات، وتركيبها، حيث يصعب المتابعة، واقتفاء الأثر البحثي، وكل ذلك استوجب عناء في البحث وفي فرز أصوات المتداخلين في بناء المقدمة الكشكولية والصادمة للقارىء المهني كثيراً، ولا أظن ذلك جاء عفو الخاطر، وإنما لتضييع الأثر، أو تتويه مقتفي الأثر، لحظة مكاشفة مآلات المثار في سطورها. سأكتفي بنماذج منها:
1- يمكن تتبع خطوط اقتباس المقدمة الصغيرة، بدءاً من (أربعة آلاف عام ، مرت على ملحمة جلجامش، ص8)، على الأقل، من خلال الوارد في كتاب باقر( ص10-11)، وكذلك في الطبعة المصرية للملحمة (ص 13)!
2- يمكن ملاحظة النسخ المعلوماتي، لفقرة (تاريخ الملحمة، ص 8)، وفي سطورها الأولى، من خلال الوارد في مقدمة باقر (ص 23)، مثلما يمكن الربط بين ما ورد في الصفحة الثانية من مقدمته، وما ورد، مثلاً، عند كل من باقر (ص 15)، وفي الطبعة المصرية( ص9-21)، وهنا أيضاً، أشير مثلاً، إلى دحام، وهو يقول أن (جلجامش حكم ما بين 2700-2500 قبل الميلاد، بعده جاء ابنه والذي حكم قرابة مائة عام، ص8)، أولاً، وكما ورد في الطبعة المصرية، فقد حكم (مائة وستاً وعشرين سنة، لكن ابنه حكم ثلاثين سنة ، ص 21)،وهذا وارد بالنسبة لجلجامش، كذلك ، عند باقر (ص17)، فهو خامس ملك في قائمة الملوك السومريين من (سلالة الوركاء الأولى)!
إذاً، من أين جاء دحام بمعلومته تلك؟ ثمة إشارة عند السواح (ويعتقد المؤرخون أن بطل الملحمة قد حكم في فترة ما بين عام 2700و2500 ق. م، ص 12)، وأرى أن الأقرب إلى الصواب هو ما ورد عند السابقين، لأن الخطاب الوثيقة شاهد عيان أبرز هنا.
3- بالنسبة لـ(مصادر الملحمة، ص 9)، وفي سطورها الأولى، يمكن ملاحظة ذلك، في الطبعة المصرية (ص 9) خصوصاً، ومن ثم عند باقر (ص23) وبصورة أوضح هنا.
4- ما يخص معلومات كاشفة لألواح الملحمة، ثمة ضرورة بحثية وعلمية، للتوقف عندها، حيث يجري خلط معلوماتي، وتقديم وتأخير، ما كان من داع لفعل ذلك، إلا رغبة في إخفاء المصدر، فدحام، ومن خلال عشرنقاط، يسلسلها، يسيء كثيراً إلى التاريخ أولاً، وإلى المودع لدى الآخرين ثانياً، كونه يعتمد عليهم، وأنا أقارن بين ما ورد عنده (ص9)،وما ورد عند باقر (ص24-25)، أورد ذلك، من خلال متابعتي، ولا أعلم ما إذا كان هناك مصدر آخر، استُلَّت منه معلومات دحام هذه:
– يورد باقر (في نهاية القرن التاسع عشر اقتنى العالم الأثري “برونو مايسنر” كسرة كبيرة من باعة الآثار في بغداد، ثبت من دلالة نصوصها أن مصدرها من المدينة القديمة” سبار” (أبو حبة الآن قرب المحمودية)، كما أن زمنها يرجع إلى العهد البابلي القديم، وأنها تعود إلى نصوص اللوح العاشر)، أما عند دحام، فهكذا وردت المعلومة (في القرن التاسع، اقتنى العالم الأثري بروموPromo، كسرة من اللوح العاشر، من باعة الآثار).
– ثانياً، يورد باقر (وفي عام 1914 اقتنت جامعة بنسلفانيا (في أمريكا) بالشراء من باعة الآثار أيضاً لوحاً كبيراً تقريباً ويحتوي على ستة حقول من الكتابة ثبت أنه اللوح الثاني وأن زمنه من العهد البابلي القديم أيضاً)، أما عند دحام، فهكذا وردت المعلومة (سنة عام 1914اقتنت جامعة بنسلفانيا كسرة من اللوح الثاني، من باعة الآثار، ثمة ستة أعمدة مكتوبة تضمَّنتها الكسرة تلك، وهي باللغة البابلية القديمة).
– ثالثاً،يورد باقر (واقتنت الجامعة نفسها في حدود ذلك الزمن أيضاً لوحاً آخر هو الأصل البابلي القديم للوح الثالث)،أما عند دحام، فنقرأ هكذا (في عام 1914، اقتنت جامعة بنسلفانيا كسرة أخرى، من باعة الآثار،وأن مادة الكسرة تلك، من اللوح الثالث).
– رابعاً، يورد باقر (وقد سبق للمنقبين الألمان في آشور وهي قلعة الشرقاط الآن( قبيل 1914) أن وجدوا كسرة كبيرة تعود إلى نصوص اللوح السادس)، أما في المقابل، أو في البند الرابع، عند دحام، فنقرأ (قبلها كذلك، عُثِر على كسرة أخرى، في خرائب مدينة آشور، قلعة الشرقاط، والكسرة تلك، هي من اللوح الثاني).
– خامساً،يورد باقر (وفي عام 1928 وجد المنقبون الألمان في الوركاء قطعتين كبيرتين تعودان إلى نصوص اللوح الرابع)، أما في المقابل، عند دحام، فنقرأ (سنة 1928، استخرجت لجنة الآثاريين الألمان قطعتين أثريتين من بين خرائب مدينة أوروك، والقطعتان هما من اللوح الرابع).
– سادساً، يورد باقر (ووجد في العاصمة الحثية “حاتو شاش” (بوغاز كوي الآن) بعض الأجزاء مما يعود إلى اللوح الخامس، كما وجدت ترجمات إلى اللغة الحثية وأجزاء مترجمة إلى اللغة الحورية)، ونقرأ في الفقرة السادسة عند دحام (وجِدت أجزاء تالفة، باللغة الحثية، في الأناضول، في بوغاز كوي).
– سابعاً، يورد باقر (ووجدت كسرتان من تنقيبات مديرية الآثار في تل حرمل (1945-1959)، يعود نصهما إلى مادة الملحمة)،أما في الفقرة السابعة عند دحام ، فنقرأ (تم استخراج عدة أجزاء، باللغة الحورية من بين خرائب بوغاز كوي).
– ثامناً، يورد باقر (وحديثاً( 1951)، وجدت نصوص من الملحمة في الموضع القديم المسمى” سلطان تبه”، في جنوبي تركية ( قرب حران)، أما عند دحام، في الفقرة الثامنة، فنقرأ (عثر المسئولون الأركيولوجيون في العراق، ما بين عامي 1945-1959)، على عدة أجزاء من الملحمة، من بين خرائب تل حرمل).
– تاسعاً، يورد باقر (جملة كسر( أم كسور؟ التساؤل من ا.م)، من العهد البابلي الأخير)، أما في الفقرة المقابلة، عند دحام، فنقرأ( عثِر على أجزاء من الملحمة في مدينة مجدو (في فلسطين)!
– عاشراً،يورد باقر (وآخر اكتشاف مهم كان العثور لأول مرة على كسرة تعود إلى الملحمة في موضع في فلسطين يسمى “مجدو” (وعهدها من حدود القرن الرابع عشر ق.م، ووجه الأهمية في هذا الاكتشاف هو تحقيق الاتصال المباشر بين مآثر العراق القديم وبين العبرانيين)، أما في المقابل، عند دحام، فنقرأ (عثر، سنة 1951، أيضاً، على بعض أجزاء في سلطان تبه، بالقرب من حران (تركيا).).
نجد في النقاط العشر، ما هو مختلف عليه، من ناحية الترتيب والتداخل، والخطأ في الدمج أو التفريق، وفي وسع القارىء أن يلاحظ هذه العلاقة، بين مستويات مختلفة، وبسهولة.
طبعاً، يمكن التذكير ببعض مما تقدم، عند السواح (في : كنوز الأعماق)، ولكن بصيغة أخرى، وترقيم أقل ” هي خمس فقرات”،( انظر ص: 49-51).
ما يمكن قوله مجدداً، هو لا أدري هل هناك مصدر آخر، استقى منه المترجم معلوماته منها، وبالطريقة هذه، وكيف حصل التداخل اللافت للنظر (سلباً طبعاً)!؟!
في الفقرة المعنونة بـ(مسيرة أحداث الملحمة)، في ترجمة دحام (ص 10-15)، يمكن تعقب هذا الجانب كثيراًعند السواح (الأطوار التي مرت الملحمة بها)،في القسم الأخير (ص241-وما بعد)!
وأظن أن ما يتعلق بـ(أهمية الملحمة)، و (تأثير الملحمة)، و (ترجمة الملحمة)، فيما بعد، يمكن التعرف إلى أهم مصادرها لدى كل من طه باقر، وفي الطبعة المصرية، وعند السواح، وبصور مختلفة، حيث إن جهد المترجم هنا، لا يتجاوز الجانب النقلي، أو ما هو مكرر في المجمل…
أما في الفقرة التي عنونها دحام، وهي (أسماء الملحمة وأبطالها، ص 30)، فهي موجودة طبق الأصل، عند باقر (ص 18-19)، ولكن مع زيادة، وعدم دقة:
في الفقرة الرابعة، عند باقر، ورد( وفي النسخ المستخرجة من عاصمة الحثيين (في النص الأكدي والحثي) GISH_GIM_MASH،، بينما عند دحام، فهكذا نقرا (في اللغة الحثية..)، أي يورد الاسم ذاته.
في الفقرة السادسة، عند باقر، نقرأ (وفي إثبات آرامية لبعض الملوك البابليين ذكر البطل بصيغة “جميموس” و”جلجمجوس” (بصيغة الجيم كافاً فارسية)، بينما عند دحام، فهكذا (في اللغة الآرامية، ورد الاسم بصيغتين: GIMOS,GILMÎGOS)، ثمة نقص المعلومة، وتجاوز للتخصيص، إضافة، إلى عدم كتابة الاسم بدقة( الاسم الأول) صيغةً!
ولكن دحام، ينتقل إلى الفقرة السابعة، وهي غير موجودة عند باقر، كيف؟ إنها ذاتها تلك التي تخص الفقرة الرابعة، في النهاية( في الأكادية أيضاً: GIş_ GIM_MAş….الخ.
في الفقرة التي عنونها دحام بـ(ملاحظات توضيحية، ص30)، تأتي في مجموعها، تقريباً مقابل ما أورده السواح في (كنوز الأعماق) تحت اسم (ملاحظات لقراءة النص، ص 83)، وقد تكرر ذلك، مع تغيير في التركيب، في مقدمة (ملحمة الرافدين الخالدة،)…الخ!
ما لابد من قوله مختَتماً:
في ضوء المقدَّم ماذا يمكن الكتابة أيضاً؟ أعن الملحمة، والموضوع لا يعنيها في حيثياتها؟ أعن الذين كتبوا عنها، أو ترجموها بلغات مختلفة، والموضوع لا يعني كل ذلك تماماً في المتن؟ أعن مقدمة دحام، وقد كتِب فيها كتِب، من جهتي، وما قيل أو كتِب شمل جوانب مختلفة: تاريخاً وفقه ترجمة وصلات وصل؟
بداية، أقول، وباختصار: ليت الاستاذ دحام، (وأشدد على “ليت” لم يكتب المقدمة بتاتاً! وهو لم يكتبها أصلاً، إذا قارنا بين كتابته الفعلية، وما يخص الآخرين، ليته أورد ما يخص الجانب الشخصي: انطباعات، وهواجس، بصدد العلاقة مع الملحمة؟ ليته أورد بالمقابل، طائفة من النصوص الفولكلورية، أو الشعبية كردياً، قبل كل شيء، لأن الترجمة كردية، أي النصوص تلك التي تتحرك على تخوم الملحمة، أو تتناغى مثلما تتراءى في مناخاتها، وهي نصوص حية، بمضامينها، من القصص الشعبي الكردي، في الحب والموت والجمال والقوة (مم آلان، ممو زين، سيامند وخجي، زنبيل فروش، درويش عڤدي…الخ)، أي من موقع تناصي، لا بل وتثاقفي، وما في التقابل والتفاعل من خطوط تماس، وتمرير مؤثرات محيطية، جغرافية وأدبية، أو قيمية مختلفة…الخ.
ربما، في ضوء ما أوردته هنا، كان عمل الاستاذ دحام أكثر قيمة وأهمية، وهو يترجم المحيط به، في المعتبَر هامشاً، للذين سيقبلون على قراءة ما أثاره، في لغاتهم الأخرى ذات يوم، وليس أن تصدمهم المقدمة، والتي من شأنها العزوف ليس عن قراءة النص المترجَم، وكيف تم، بالمقابل، وإنما عن النظر إلى المترجَم الكردي، فيما يتمناه: ثقافة، ومسلكاً كتابياً، لأسباب سالفة الذكر….!