لندخن آخر لفافة تبغ معاً!

  بقلم: بسام مصطفى
 
انظر إلى ما وراء الأفق: كم هي قصيرة حياتنا وكم هي طويلة! الآن، أحن إلى الدمعة والإبتسامة. أعلم أن الحياة ليست بعيدة كثيراً، خطوتين فقط تفصل ما بيننا. الآن، أحن إلى ذاك الطفل المستند الى جدار البيت في ظهيرة صيف حارق، يمتحن نفسه وفتوته.

في الحوش، كانت توجد شجرة توت كبيرة. تحت الشجرة، كان جدي بوجهه الجميل الأبيض، يشعل بقداحته البرتقالية الطويلة لفافة تلوالأخرى. يتذكر مراعي وطنه البعيد-القريب ومع كل نفس محرق كانت الجبال تتعالى أكثر والمراعي تخضر والنساء يتكحلن برماد يشبه تراب وطنه…!
كنا أطفالاً حين ماتَ جدي. نزعت منيجة “منو” كما كان جدي يناديها، شعرها. والعم خليل الذي لم يحضرعزاء في القرية–التي أصبحت الآن حياَ من أحياء القامشلي–جلس القرفصاء وسط الغرفة حيث كان جدي ممداً–وأجهش بالبكاء. كان يهمهمُ: كانَ جدكم حنوناً…….! كنا اطفالاً لا نعرف ما هو الموت ولماذا يبكي أهلنا هكذا .كنا ننظر إليهم بتعجب إلى أن نبهنا أحدهم: ابكوا! ماتَ جدكم!…..وبكينا.
قبل أن يموتَ جدي، كان والده قد مات وقبله جده أيضاً. كان واضحاً أن النظام الأكثر ثباتاً في عالمنا هذا هو الموت. الموت الذي يلي الحياة وليس الموت في الحياة أو قبلها.
انظروا: حتى مماته لم يفقد جدي الأمل. كان قد فر كغيره من الكثيرين بعد انتهاء ثورة الشيخ سعيد في العشرينات من القرن الماضي من تركيا الى ما وراء سكة الحديد–الخط- من بطش وهمجية الترك واستقر في قرية -جمعاية- قرب الحدود السورية – التركية التي أنُشئت فيما بعد. ما زلت اتذكر جيداً حين كان جدي يقوم واقفاً يمشي في الغرفة جيئةً وذهاباً ويعد خطواته: واحد..اثنان..ثلاثة إلى أن يصلَ إلى العشرة .يتوقف قليلاً، يخبطُ الأرضَ بقدميه قائلاً :ها هنا يوجد الذهب المخبوء! كان يعرف الأرض هناك شبراً شبراً كأنما كان يخبط بقدمه أرض الوطن لا الغرفة وكأنه كان سيمتطي–وهو الفارس-صهوة حصانه ويحمل بندقيته ويعود الى دياره بعد برهة!.
لم يعد جدي بالطبع الى الوطن مرة اخرى. لكنه عاش يحكمه الأمل حتى مماته.
أن تفقد الأمل يعني أنك ميت!
الموت ليس واحداً بل له أشكال عديدة ودرجات: البعض يولد ميتاً والبعض الآخر يموت في الحياة والأفضل من مات بعدها. الموت الأكثر إيلاماً هو موتُ القلب….موت الطموح والأمل والثقة…الإبتعاد عن الطين الأول والتوغل بعيداً في النظريات والأفكار والعقائد المختلفة…
الموت ليس أن تنام طويلا وإلى الأبد. الموت هو نسيان الجوهر وأصل الإنسان: طينه!. إخفاء المشاعر والأحاسيس الإنسانية الأولى البسيطة والصادقة بألف شكل وشكل.
هل البساطة–تلك التي أغني لها-تعني حقاً السذاجة؟ وهل بناء جدار عال مزركش أو بناية بسلالم الكترونية تعني حقاً الذكاء أوالتطور؟؟
تقول البحوث العلمية أن الطفل الذي يداعب التراب في صغره ويتحسس الأرض يكون طبيعيا أكثر في كبره. فهل نعلم كم ابتعدنا عن التراب وطيننا الأول؟ وكم توغلنا في متاهات الإيدولوجيات والمذاهب وو ؟ العقيدة الأبقى والنظرية الوحيدة هي نظرية التراب.
حين تدمن رائحة ترابك ووطنك وثم لا تنساها بعد ذلك أنّى سافرت وحيثما ذهبت. تلك الرائحة هي أنت. ذاك التراب بكل ما فيه هو ترابك. تلك المساءات المترقرقة ونرجسها المعطّر هي مساءاتك. والسماء التي لم تكن عالية كثيرا ًهي سماءك. لن تقبلك أرض أخرى، لن يضمك تراب آخر، لن تظللك سماء أخرى غيرها.
الموت ليس أن تنام طويلا وإلى الأبد: الموت هو نسيان تلك الرائحة!
………………جدي!
……………………..تعال ندخن آخر لفافة تبغ وننام!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

إلى أنيس حنا مديواية ذي المئة سنة صاحب أقدم مكتبة في الجزيرة

 

ننتمي إلى ذلك الجيل الذي كانت فيه الكتابة أمضى من السيف، لا بل كانت السيف ذاته. لم تكن ترفاً، ولا وسيلة للتسلية، بل كانت فعلاً وجودياً، حاسماً، مزلزلاً. فما إن يُنشر كتاب، أو بحث، أو مقال مهم لأحد الأسماء، حتى نبادر إلى قراءته، ونتناقش فيه…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”،…

الترجمة عن الكردية : إبراهيم محمود

تقديم : البارحة اتحاد الكتاب الكُرد- دهوك، الثلاثاء، 8-4- 2025، والساعة الخامسة، كانت أربعينية الكاتبة والشاعرة الكردية ” ديا جوان ” التي رحلت في ” 26 شباط 2025 ” حيث احتفي بها رسمياً وشعبياً، وبهذه المناسبة وزّع ديوانها: زكاة الحب Zikata evînê، الصادر عن مركز ” خاني “للثقافة والإعلام، دهوك،…

فواز عبدي

 

في نقّارة، قريتي العالقة في زاوية القلب كقصيدة تنتظر إنهاء قافيتها، لم يكن العيد يأتي… بل كان يستيقظ. ينفض الغبار عن روحه، يتسلل من التنّور، من رائحة الطحين والرماد، من ضحكةٍ انبعثت ذات فجرٍ دافئ ولم تعد ، من ذاكرة عمّتي نوره التي كانت كلما نفخت على الجمر اشتعلت معها الذكريات..

تنّورها الطيني الكبير، ذاك…