بين الإعلام والثقافة والتربية (الحلقة الثانية )

عبد الرحمن آلوجي

 

إن التداخل العميق بين هذه الحلقات تعطيها أهمية فائقة في صيانة وبناء الشخصية الإنسانية , أو وضعها في حالة اضطراب فكري ونفسي من شأنه أن يضلل مفاهيم هذه الشخصية , ويوجهها إلى فكر بائس متهاو ٍ , يعتمد الازدواجية في المعايير , فيرى في الفكرة نفسها , والمادة نفسها أكثر من رؤية في آن معا , كما يحكم على الوضع ذاته أحكاما متباينة , حيث نجد أن هذه الشخصية المركبة والمعقدة , والمحكومة بسلاسل وحلقات منحرفة

تجد مثلا في قتل النفس الإنسانية وبخاصة غير المسلمة إثما كبيرا وجريمة كبرى , في الحين تجد في قتل النفس في موطن آخر ( في عملية انتحارية وسط سوق شعبي مزدحم أو في حافلة مدنية آمنة , أو وسط عمال بناء في عمق الزحام ) عملية بطولية استشهادية , على الرغم من تحريم قتل النفس , وقتل الآخرين الأبرياء , وغير المقاتلين , والآمنين في دورهم وبين أهلهم , ليتبين لنا عمق الازدواجية , ودرجة الانحراف والوجه الشائه لفكر ضال ٍ , ينتج عن ذلك التداخل في حلقات الإعلام والثقافة والإعداد والتربية , وفق معايير وأسس تعتمد فكرا مضللا ومتناقضا ومحكوما بدوافع نفسية مسبقة وآراء مغلفة  بالأهواء والانفعالات والعواطف الراجحة على الفكر المتزن والرأي المكون عبر حلقات متكاملة , وأحكام عقلية راجحة , ورؤى علمية منهجية , تعتمد أساس الفكر المترابط , والعمق القيمي والأخلاقي , والمعيار القائم على دقة المعلومات وصوابها , وتكاملها , بعيدا عن الأهواء والغرائز .
إن الإعلام الكوردي وهو يتصدى لصنع القرار السياسي , والفكر المتزن , والرؤية المتكاملة  والقيمة الأخلاقية , ينبغي ألا يكون ضحية الأحكام المسبقة والازدواجية في المعايير ولملمة الأخبار غير الموثقة , واعتماد مصادر مشكوك فيها , ليستطيع إنجاز مهمته التاريخية والهامة , في الإعداد والتثقيف والتوجيه , وبالتالي بناء الإنسان الكوردي ورسم معالم شخصية كوردية متكاملة , تصغي إلى كل نبأ محكم , وفكر يقظ , ورؤية واعية , وإيمان بالحياة , واستشراف لمستقبل الإنسان , وهو يشد على كل ما هو موثق وصائب , مهما كانت النتائج المترتبة على الحقائق , في عملية تربية متواصلة ودائبة , بفرض إنجاح مهمة البناء والإنشاء في الصناعة الإنسانية إن صح التعبير .
إن الإعلام الكوردي وهو يخطو إلى العتبات الأولى يفترض به أن يتلافى أخطاء الإعلام المزدوج , والمضطرب في مقاييسه والخاضع لهوس ذاتي متقوقع , وفكر بائس هزيل , لا يكاد يصمد أمام الحقائق التي سرعان ما تذهل , كما حدث للصحاف في التاسع من نيسان عام 2003 في تجاهله لتقدم قوات التحالف وهي تسقط العاصمة بغداد , لتنطوي حقبة كاملة من إعلام كاذب وفقير ومضلل .
إن الإعلام المضلل لا يمكن أن يوجه توجيها مضللا , يعتمد منطق التهويل والمبالغة وإخفاء الحقائق وليّها , وإبعاد الإنسان عن كل ما هو متزن وعلمي وموثوق .. وهو ما يفترض في الإعلام الكوردي أن يرقى إليه , وينتظم فيه , ويبرمج من خلال قواعد وأسس من شأنها أن تخدم العملية التربوية , وتعد لحلقات متكاملة من الإعداد والتثقيف وإعلاء شأن الثقافة الواعية والمكتنزة .. وهو في غاية الأهمية والخطورة .. وعلى درجة كبيرة من الاستراتيجية الإعلامية التي ينبغي أن ترسم , وتدرس عواملها أكاديميا , وتوفر الشروط المناسبة ( فنيا وعلميا وتقنيا ) لإنجاز قواعد هذا الإعلام دون تعسف أو ارتجال أو خلط .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…