عمر كوجري
في الوقوف على الأطلال:
كاد قلبي أن يطير بجناح الشوق فرحاً عندما استلمت بطاقة دعوة لحضور عرس أحد الأحبة في الجزيرة ، كانت زيارة خاطفة كلمع البرق ،ورغم أنني استعدت جزءاً من حيويتي التي فقدتها من زمن طويل . فقد تناسيت أحزاني الخاصة بل تعاليت عليها – فهي لا تنتهي -. وانضممت إلى حلقات الرقص ، والفرح،ونثر الرز، والسكر، والزغاريد التي جادت بها حناجر الصبايا الكوجريات الجميلات وكأنهن قادمات للتو من سطور الأساطير والقصص الحلوة التي كانت أمهاتنا يقصصنها على مسامعنا الغضة في زمن مضى وانقضى .
ولشد ما أسعدني وأبهجني الأزاهير والورود التي نثرت ورُشَّت على موكب العروسين وهما يلوحان بأيديهما للجمع الذي حضر احتفالا ومشاركة لفرحهما الذي لا يضاهيه فرح .لكن قلبي انكمش على بعضه لأنني لم أستطع أن أزور كل الأحبة الذين وعدتهم منذ زمن طويل بأنني ماإن أزور جزيرتي الحلوة سأقبِّل الشوق في عيونهم ،وأضمهم إلى صدري وما أكثرهم ، وكنت مضطراً للعودة إلى المسقط الجديد لرأسي ، هذه الرأس التي لم تهنأ يوماً بنوم لذيذ في مسقطها الجديد.وأنَّى لها ذلك وقد اجتثت من مواطن وملاعب صباها حيث لاشئ يعوض عن المكان والحبيب الأول حتى لو شاءت أن تنقل ثقلها وما شاءت على هذا الجنب أو ذاك ،على هذه المخدة أو تلك. كيف لا أتصنع الفرح ؟؟ كيف لا أرسم ابتسامة حتى لو كانت باهتة وذابلة كأصيص ورد اصطناعي، ونحن الذين افتقدنا الفرح الحقيقي والحبور الصادق ، فخرجنا من أريافنا الوارفة وقرانا الحنونة رغماً عن رغباتنا فطال السفر و”صنعا” التي نبحث عنها والتي لابد منها قد اختفت .لهذا فالشوق ملتهب إلى أطلال الأحبة الغائبين ، فظروفنا القاسية التي نمر بها تشعل الشوق في قلوبنا وصدورنا الذبيحة ، ولا نكاد نلتقط أنفاسنا طوال اليوم بحثاً عن رزق طال المدى ولم يأتِ، ويبدو أنه في الأمد القريب لن يأتي ،والمفارقة المضحكة وبطبيعة الحال المبكية هي أن العديد من أقراننا وأحبتنا الذين تركناهم وراء الآفاق هناك مازالوا وإلى اللحظة يحسدوننا على النعيم الذي ننعم به ،ونحن نمضي أيامنا في العاصمة والمدن الكبيرة التي تبتلع كل يوم وافد أو زائر جديد . ولأنني مغرم بكل ذرة من تراب الجزيرة فلم تلعب الحرارة اللاسعة بالنسبة إلى نفسيتي دوراً سيئاً لأن حرارة الشوق للقاء الأهل والأحبة وكل البعيدين كانت أقوى من أي شئ آخر .
في وصف العرس :
أعراس الكرد في هذه الأيام تطورت بحيث تتناسب وظروف الحياة الجديدة التي تأثر بها الجميع، فعلى أيامنا كان الكوجر يحتفلون بعروسَيْهم سبعة أيام بلياليها،وكان يحيي هذه الليالي الملاح فئة من الفنانين يسمون ” المطربين ” فكان هناك مَنْ يعزف على المزمار والطبل “داهول وزرنه ” أو الكمنجة كامانشه .
وبما أن وسائل النقل الحديثة لم تكن متوفرة فقد كانت العروس تنقل إلى بيت عريسها على ظهر حصان مروَّض جيداً .وكان العريس يستضاف عند أحد أصدقائه ويسمى “برا زافا” أي الأخ غير الشقيق للعريس، ويتولى هذا الشخص بالتعاون مع صديق آخر متزوج لتعليم العريس أصول الدخول على عروسه وإنجاز المهمة بأسرع وقت ممكن لأن هذه السرعة مطلوبة ليوصف العريس بالرجل، فهناك من ينتظر الخبر – أم العروس – للاطمئنان على سلامة ابنتها من ناحية البكارة غير المفضوضة سابقاً والسيرة العطرة ، و – أم العروس – لتطمئن على فحولة ابنها ورجولته ،
والأصدقاء والصديقات الذين سيفرحون بالخبر لتصدح الزغاريد ويزداد قرع الطبل وعزف المزمار .ولتكتمل حلقة الرقص من جديد ، وتتشابك أيادي الصبايا والشباب ،وليحسوا ببعض الخدر اللذيذ يسري في عروقهم ، ويتهامسون ، وربما تبادلوا عبارات الإعجاب والتودد مع بعضهم البعض ، وكان ذلك مقدمة لأواصر علاقة جديدة غالباً ما كانت تتوج بالزواج .
أما اليوم فالأمور مختلفة كلياً فبدلاً من سبعة أيامها أصبح العرس أقل من سبع ساعات ، ويتم في القرية ، وفي الفترة الأخيرة حتى أبناء الريف صاروا يتوجهون إلى الصالات والنوادي في المدن والمناطق القريبة بسبب التكلفة القليلة مقارنة بالقرية حيث تذبح الذبائح ويُطعَم أبناء القرية والمدعوين ، وهذا مكلف مادياً .
علي الديك وأخوه حسين ووفيق حبيب في العرس :
بدأت فعاليات العرس إلى أحسن ما يرام وكنت في غاية السعادة ومنتشياً بما أسمع من أغان كردية جميلة في تلك الصالة التي حملت اسم عاشقين كرديين ، ومتعت عيني أيضاً بالرقصات الكردية عامة والكوجرية خاصة لكن هذه النفسية سرعان ماتفاجأت بما سمعت .
فقد كان الراقصون يرقصون قبل قليل بنفسية يشوبها الملل فما الذي حصل حتى ازداد هذا الهرج والمرَج ؟!فقد وقف المغني وهو يتقطر إباء وشموخاً، وقال مخاطباً المحتفلين بكلام ليس كالرحيق السلسل – كما يقول أحد الشعراء – : الآن سنستجيب لرغبة الشباب والصبايا ونغني لكم أغاني الحاصودي .فدب التصفيق والتهليل بين الموجودين وكأن أياز يوسف المرحوم عاد من قبره ، وسيتحف الحاضرين بصوته الرخيم الشجي ، وأغانيه الرائعة .
بدأ هذا المطرب الكردي بأغاني الساحل والحاصودة المشهورة هناك وليس في مضارب الكوجر، وهذه الأغاني تُغنَّى من قبل ” ملك الحاصودة ” علي الديك و زملائه في الريف الساحلي ،فللكرد أيضاً تراثهم وفلكلورهم وأغاني الحصيد ولكن الكردية، وليست العربية أو غيرها، ولا يشكو الكرد أبداً في هذا الجانب ، بل أن التراث الكردي والموسيقا الكردية والتاريخ الكردي يتعرض لسرقة وقرصنة وفي وضح النهار من قبل الآخر العربي والفارسي والتركي .
السؤال اللاهب : لماذا هذا الشعور العميق بالدونية عندنا ؟؟!!
فنحن نشعر أن كل وافد – وأياً كان مصدره – هو الصحيح ، وهو الجميل ، وكل ما لدينا متخلف وسيئ، ولا يستأهل اهتمامنا ورعايتنا ، وهو مدعاة للسخرية والاستهزاء والخجل أيضاً. فهذه عقدة النقص التي نُتَّصف بها هي المسؤولة عن كل الكوارث التي تحيق بشعبنا من كل الجهات، لماذا جميع الشعوب تتباهى وتفتخر بماضيها وتراثها إلا نحن ؟؟!! من المسؤول عن هذه العقدة الذميمة التي تغتال ظلالنا وأحلامنا وآفاقنا ؟؟ أهي المؤسسة السياسية الكردية أو قطَّاع المثقفين والمتنورين من أبناء شعبنا بدعوى الانفتاح على الثقافات الأخرى ، وفتح النوافذ والأبواب أمام كل التيارات والأهواء؟؟ اعتقد جازماً أننا جميعاً بهذا القدر أو ذاك مسؤولون عن هذا الخراب الحاصل في ذائقتنا الكردية ، لاأحد منا يمارس دوره على أتم وجه ولهذا نواجه ما نواجهه ، وإذا ظلت الحال هكذا ربما تعرضنا لنكسات ونكبات أكثر من ذي قبل .فكل واحد يرمي الكرة في مرمى الآخر و…..يقول : يا ربي السترة !!!
فواحدنا إذا أراد أن يثبت للآخر أنه مثقف نراه يُطَعِّم كلامه بكلام عربي أو تركي أو فارسي .وربما لهذا السبب نسمع الكثير من الأصدقاء العرب ينعتون لغتنا الكردية الغنية بالفقر والترهل .ويقولون أنهم يفهمون الكردية التي أكثر من نصفها يرد بالعربية من خلال كلامهم بالعربية أو غيرها من اللغات التي لاتقل الكردية شأناً أو
قوة أو قدماً عنها.
في تخوم الخاتمة :
لست متعصباً إلى الغناء بالكردية فقط ، ولامانع لدي من موضوعة تلاقح الثقافات والحضارات إذا كان الطرف الآخر ينظر إلى الموضوع بالمنظار الحضاري الذي أنظر من خلاله إلى الأشياء ، بمعنى آخر: هل فكر الأخوة العرب بتشجيع أبنائهم وبناتهم بتعلم الرقصات والأغاني الكردية في أفراحهم مثلما يوجِّهونهم نحو أغاني البوب والصرعات الأجنبية ؟؟ ولو كنت أملك مالاً لوهبت أي مطرب عربي ما يرغب ليؤدي أغنية كردية، ولكن هل سيفعل ؟؟ ولماذا سيغني مقابل المال ؟؟!!!
في وصف العرس :
أعراس الكرد في هذه الأيام تطورت بحيث تتناسب وظروف الحياة الجديدة التي تأثر بها الجميع، فعلى أيامنا كان الكوجر يحتفلون بعروسَيْهم سبعة أيام بلياليها،وكان يحيي هذه الليالي الملاح فئة من الفنانين يسمون ” المطربين ” فكان هناك مَنْ يعزف على المزمار والطبل “داهول وزرنه ” أو الكمنجة كامانشه .
وبما أن وسائل النقل الحديثة لم تكن متوفرة فقد كانت العروس تنقل إلى بيت عريسها على ظهر حصان مروَّض جيداً .وكان العريس يستضاف عند أحد أصدقائه ويسمى “برا زافا” أي الأخ غير الشقيق للعريس، ويتولى هذا الشخص بالتعاون مع صديق آخر متزوج لتعليم العريس أصول الدخول على عروسه وإنجاز المهمة بأسرع وقت ممكن لأن هذه السرعة مطلوبة ليوصف العريس بالرجل، فهناك من ينتظر الخبر – أم العروس – للاطمئنان على سلامة ابنتها من ناحية البكارة غير المفضوضة سابقاً والسيرة العطرة ، و – أم العروس – لتطمئن على فحولة ابنها ورجولته ،
والأصدقاء والصديقات الذين سيفرحون بالخبر لتصدح الزغاريد ويزداد قرع الطبل وعزف المزمار .ولتكتمل حلقة الرقص من جديد ، وتتشابك أيادي الصبايا والشباب ،وليحسوا ببعض الخدر اللذيذ يسري في عروقهم ، ويتهامسون ، وربما تبادلوا عبارات الإعجاب والتودد مع بعضهم البعض ، وكان ذلك مقدمة لأواصر علاقة جديدة غالباً ما كانت تتوج بالزواج .
أما اليوم فالأمور مختلفة كلياً فبدلاً من سبعة أيامها أصبح العرس أقل من سبع ساعات ، ويتم في القرية ، وفي الفترة الأخيرة حتى أبناء الريف صاروا يتوجهون إلى الصالات والنوادي في المدن والمناطق القريبة بسبب التكلفة القليلة مقارنة بالقرية حيث تذبح الذبائح ويُطعَم أبناء القرية والمدعوين ، وهذا مكلف مادياً .
علي الديك وأخوه حسين ووفيق حبيب في العرس :
بدأت فعاليات العرس إلى أحسن ما يرام وكنت في غاية السعادة ومنتشياً بما أسمع من أغان كردية جميلة في تلك الصالة التي حملت اسم عاشقين كرديين ، ومتعت عيني أيضاً بالرقصات الكردية عامة والكوجرية خاصة لكن هذه النفسية سرعان ماتفاجأت بما سمعت .
فقد كان الراقصون يرقصون قبل قليل بنفسية يشوبها الملل فما الذي حصل حتى ازداد هذا الهرج والمرَج ؟!فقد وقف المغني وهو يتقطر إباء وشموخاً، وقال مخاطباً المحتفلين بكلام ليس كالرحيق السلسل – كما يقول أحد الشعراء – : الآن سنستجيب لرغبة الشباب والصبايا ونغني لكم أغاني الحاصودي .فدب التصفيق والتهليل بين الموجودين وكأن أياز يوسف المرحوم عاد من قبره ، وسيتحف الحاضرين بصوته الرخيم الشجي ، وأغانيه الرائعة .
بدأ هذا المطرب الكردي بأغاني الساحل والحاصودة المشهورة هناك وليس في مضارب الكوجر، وهذه الأغاني تُغنَّى من قبل ” ملك الحاصودة ” علي الديك و زملائه في الريف الساحلي ،فللكرد أيضاً تراثهم وفلكلورهم وأغاني الحصيد ولكن الكردية، وليست العربية أو غيرها، ولا يشكو الكرد أبداً في هذا الجانب ، بل أن التراث الكردي والموسيقا الكردية والتاريخ الكردي يتعرض لسرقة وقرصنة وفي وضح النهار من قبل الآخر العربي والفارسي والتركي .
السؤال اللاهب : لماذا هذا الشعور العميق بالدونية عندنا ؟؟!!
فنحن نشعر أن كل وافد – وأياً كان مصدره – هو الصحيح ، وهو الجميل ، وكل ما لدينا متخلف وسيئ، ولا يستأهل اهتمامنا ورعايتنا ، وهو مدعاة للسخرية والاستهزاء والخجل أيضاً. فهذه عقدة النقص التي نُتَّصف بها هي المسؤولة عن كل الكوارث التي تحيق بشعبنا من كل الجهات، لماذا جميع الشعوب تتباهى وتفتخر بماضيها وتراثها إلا نحن ؟؟!! من المسؤول عن هذه العقدة الذميمة التي تغتال ظلالنا وأحلامنا وآفاقنا ؟؟ أهي المؤسسة السياسية الكردية أو قطَّاع المثقفين والمتنورين من أبناء شعبنا بدعوى الانفتاح على الثقافات الأخرى ، وفتح النوافذ والأبواب أمام كل التيارات والأهواء؟؟ اعتقد جازماً أننا جميعاً بهذا القدر أو ذاك مسؤولون عن هذا الخراب الحاصل في ذائقتنا الكردية ، لاأحد منا يمارس دوره على أتم وجه ولهذا نواجه ما نواجهه ، وإذا ظلت الحال هكذا ربما تعرضنا لنكسات ونكبات أكثر من ذي قبل .فكل واحد يرمي الكرة في مرمى الآخر و…..يقول : يا ربي السترة !!!
فواحدنا إذا أراد أن يثبت للآخر أنه مثقف نراه يُطَعِّم كلامه بكلام عربي أو تركي أو فارسي .وربما لهذا السبب نسمع الكثير من الأصدقاء العرب ينعتون لغتنا الكردية الغنية بالفقر والترهل .ويقولون أنهم يفهمون الكردية التي أكثر من نصفها يرد بالعربية من خلال كلامهم بالعربية أو غيرها من اللغات التي لاتقل الكردية شأناً أو
قوة أو قدماً عنها.
في تخوم الخاتمة :
لست متعصباً إلى الغناء بالكردية فقط ، ولامانع لدي من موضوعة تلاقح الثقافات والحضارات إذا كان الطرف الآخر ينظر إلى الموضوع بالمنظار الحضاري الذي أنظر من خلاله إلى الأشياء ، بمعنى آخر: هل فكر الأخوة العرب بتشجيع أبنائهم وبناتهم بتعلم الرقصات والأغاني الكردية في أفراحهم مثلما يوجِّهونهم نحو أغاني البوب والصرعات الأجنبية ؟؟ ولو كنت أملك مالاً لوهبت أي مطرب عربي ما يرغب ليؤدي أغنية كردية، ولكن هل سيفعل ؟؟ ولماذا سيغني مقابل المال ؟؟!!!