بلند الحيدري… هل ظلمه النقاد؟

 

حواس محمود
قد يكون الموت بمعناه الجسدي فقط ـ عادياً عندما يموت الشاعر في بلده بين أهله وخلانه، ويحتفى به، ولكن الموت في الغربة أمر صعب ومر مرارة الغربة والمنفى والتشرد، فبلند الحيدري كان من أبز ضحايا غياب الديمقراطية والحرية في الوطن الأم ـ العراق ـ ولذلك يتحسر الإنسان ذو الضمير الحي على رحيل مثل هذا الشاعر الكبير، الكبير بمواطنيته، الكبير بإنسانيته، الكبير بأخلاقه، الكبير بشعره، والكبير بصداقاته، والكبير بصبره وجلده على عذابات الحياة.
بلند الحيدري ـ مسيرة الحياة والشعر:
ولد الشاعر في أيلول 1926 في مدينة السليمانية، وهو يتحدر من أسرة كردية عريقة وكانت هذه الأسرة أرستقراطية معروفة بشغف أبنائها بالعلم والفن والأدب، أصدر الشاعر ديوانه الأول «خفقة الطين» قبل ان يصدر كل من السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ممن اعتبروا من الرواد دواوينهم الأولى، إلا أن الدراسات التي تناولت ريادة الشعر عراقياً وعربياً كانت تتجاهل اسمه لاعتبارات شتى، يقول الشاعر السوري ممدوح سكاف: «يخيل إلي أن الراحل الجديد عن دنيانا من شعراء الحداثة (بلند الحيدري) قد مات وفي قلبه غصة دقيقة أو صريحة، وحسرة مكتومة أو معلنة، قد يكون من أسبابها عدم اعتباره من قبل نقاد الشعر الحديث أو شعر التفعيلة ودارسيه الرائد الأول لهذا النوع من النهج الفني في مضمار تجديد شكل القصيدة العربية ومضمونها على الرغم من أن مجموعته الشعرية الأولى «خفقة الطين» قد صدرت في بغداد عام 1946»، واعتقاد هؤلاء النقدة أن السبق في مسألة الريادة للسياب ونازك الملائكة، ويضيف بعضهم عبد الوهاب البياتي على قلق واحتراز، ولكنه لا يطول «الحيدري» وهؤلاء النقاد المشار إليهم في كلام ممدوح السكاف ـ الآنف الذكر ـ للأسف الشديد كانوا يكتفون بذكر أسماء أنداد الحيدري بالرغم من أنهم كانوا أنفسهم يشيدون بدوره باعتباره الرائد الأول.
ويقول في هذا الصدد السياب: «هناك شعراء أكن لهم كل تقدير وإعجاب، وعلى رأسهم بلند الحيدري الذي كان ديوانه «خفقة الطين» أول ديوان صدر من ثلاثة دواوين كانت فاتحة عهد جديد في الشعر العراقي هي «عاشقة الليل» لنازك الحريري، و«أزهار ذابلة» للسياب».
ولقد دافع بلند الحيدري عن أسبقيته في الريادة للشعر الحديث، ولكن دون جدوى إذ أنه لم تتم له فرصة الجلوس في الصف الأول من قائمة النقد العربي الحديث والمعاصر، ويرى كما خير بك أن «خفقة الطين» للحيدري قصيدة سابقة لتجربة الحداثة.
لمع اسم بلند الحيدري منذ شبابه الباكر بوصفه شاعراً وفناناً تشكيلياً، وشارك مع رفيقيه الراحلين جواد سليم وجبرا إبراهيم في تأسيس تيار فني أثر في فن من جاء بعدهم من أجيال، وانصب جل اهتمام الحيدري على تثقيف نفسه ثقافة شعرية، فأخذ يقرأ بنهم ما كانت تنشره المجلات والصحف اللبنانية، وبخاصة مجلة الأديب بين
عامي (1940ـ1947من) فتأثر برمزية سعيد عقل، ورومانسية الياس أبي شبكة، كما فتن بأشعار عمر أبي ريشة ومحمد حسن إسماعيل، وراح ينسج شعره متأثراً بهذه الطائفة من الشعراء، وفي أواخر الخمسينات وأوائل الستينات الميلادية انتقل بلند الحيدري إلى بيروت ليعمل أستاذاً للغة العربية ورئيساً لتحرير مجلة «العلوم اللبنانية» ومديراً لتحرير مجلة «آفاق عربية» وبعد ذلك غادر بيروت إلى لندن وأصدر مجلة «فنون عربية» حتى عام 1982، ثم انتقل بعدها للكتابة في مجلة «المجلة» بصفة مستمرة حتى رحيله، حصل على جائزة اتحاد الكتاب اللبنانيين عام 1972، وترجم له ديوانان إلى الإنجليزية، وترجمت العديد من قصائده إلى لغات عالمية أخرى، وفي
الفترة الأخيرة من حياته انتقل اهتمامه أكثر إلى المجلات السياسية، وشارك في تأسيس اتحاد الديمقراطيين العراقيين في المنفى وشغل منصب نائب الرئيس له.
وقفة مع شعره:
تتميز فنية «أغاني في المدينة الميتة» بالبدء بتوزيع الصوت الواحد، وهو غالباً صوت الشاعر، إلى أصوات عدة، ولكن من داخل بنية القصيدة، فهو لم يستعد بعد فنياً لأن يوزع الحدث درامياً، وإنما تعامل مع التعددية من خلال توزيعات هارمونية للصوت، وما محاولته اللعب بالضمائر إلا طريقة لتأكيد هذا الانشطار الداخلي للنص، أما هوية هذه الأصوات فقد اتخذت أسماء مثل القرية، المدين، الليل، الفتاة… وكلها تستعير ضمير الأنا وتؤكده.
«أكاد أجن يا نفسي
أ أنت؟
أ أنت يا حسي
أهذا العالم الأنسي الذي ألقى به المهد
ويطوي شعثه اللحد هو الصارح… يا عبد
ماذا تريد
أنا عن الدنيا بمنأى بعيد
أخطأت
لا شك، فما من جديد تحمله الأرض لهذا الطريد»
وبلند الحيدري الذي عرفه انتماءه الوطني لقضايا المجتمع والثورة والتقدم، يجد نفسه أمام تناقضات لا حد لأبعادها، فوقف فنياً ـ كما وقف فكرياً ـ وديوانه «خطوات في الغربة» حمل كل هذه الوقفات.
«فحسبننا أعمى بلا كوة
ودربنا يوغل في الهوة
ونحن لا حول لنا ولا قوة»
وتجدر الإشارة إلى أن فكرة العماء قد سيطرت على أجواء هذا الديوان، وتقاسمتها قصائد عدة، ويمكننا أن نقرأ صوراً منها (المصابيح المطفأة ـ الأرض الصماء كالصخرة ـ العيش بلا ظل ـ السكوت الناعب ـ البيت الغارق في الظلمة… إلخ).
ونجد في الديوان «خطوات في الغربة» صوراً شعرية تتحرك في طريق الناس من وطن الشاعر وفي بيوتهم، وفي ثنايا جهدهم المكدود، وصمتهم المثير… وانتظار الغد الذي يمازجه الأسى والضجر وطعم اليأس والمرارة:
«نفس الطريق نفس البيوت يشدها جهد عميق نفس السكوت كنا نقول غداً يموت وتستفيق»
وفي آخر مجموعة شعرية له «دروب في المنفى» يقول في قصيدة بعنوان «أحلام وكوابيس» وهو يتابع مع نغم الغربة المحبب له، إلا أنها الغربة من خارج الوطن وليست من داخله:
«يا سيدي يوجعني هذا السفر الليلي
الموغل في الغربة
يوجعني وجهي، يطفئ عيني
في منفضتي
في عتمة، أظن
من أني عبر سجائري المطفأة المحروقة
أبحث عن وطن»
قالوا في رحيله
لقد أثار رحيل الشاعر العراقي الكبير بلند الحيدري في 6/8/1996م اهتمام العديد من الشعراء والكتاب والأوساط الثقافية والشعرية، ويمكننا هنا أن نورد بعض الأقوال في رحيله الموجع والمؤثر:
ـ البياتي: «رائد أصيل ومهم في بداية الثورة الشعرية في العراق».
ـ أدونيس: «بدءاً من هذه اللحظة سأحاول أن أنثر كل يوم في أثير قبره وردتين:
وردة باسم الشعر، ووردة باسم الصداقة».
ـ سعدي يوسف: «أزعم أن بلند الحيدري كان الشاعر الأكثر اهتماماً بين مجايليه بمجاولة الشعر الصافي».
ـ عباس بيضون: «بلندا لحيدري من رواد القصيدة الحديثة، وإلى الآن لا يزال في حساب الرواد مطوياً».
نتاجه الشعري:
كان بلند الحيدري زاخراً بالشعر، ومن أهم ما أنتج: خفقة الطين 1946م ـ أغاني المدينة الميتة 1952م ـ قصائد أخرى 1957م ـ جئتم مع الفجر 1961م ـ خطوات في الغربة 1956م ـ رحلة الحروف السفر 1968م ـ حوار الأبعاد الثلاثة 1972م ـ المجموعة الكاملة 1975م ـ أغاني الحارس المتعب 1997م ـ إلى بيروت مع تحياتي
1985م ـ أبواب إلى البيت الضيق 1990م ـ دروب في المنفى 1996م.

أهم المصادر:
1ـ ياسين النصير ـ مجلة الطريق ـ مقال: «ضلع المربع الدائري» ـ عدد أيار ـ حزيران ـ 1996 ـ ص96.
2ـ ممدوح السكاف ـ صحيفة تشرين السورية «شاعرية بلند الحيدري والوقت الضائع» ـ 24 أيلول 1996 ـ ص7.
3ـ مجلة الفيصل السعودية «رحيل بلند الحيدري» ـ عدد 238 ـ ص118.

العنوان سوريا القامشلي ص ب 859 حواس محمود هاتف 0096352430578

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…