آزاد أحمد علي
تحت عنوان« العمارة الذكورية: فن البناء والمعايير الاجتماعية والأخلاقية في العالم العربي»[ صدر كتاب الباحث والشاعر شاكر لعيبي. يتألف هيكل الكتاب من إحدى عشرة فرضية تشكل قوام البحث ودعائمه الفكرية، وقد لجأ إليها المؤلف عوضاً عن الفصول والأبواب، وهذا ما يوحي للوهلة الأولى بأن الكتاب ينتمي عملياً إلى نسق الافتراضات والنشاط الذهنيّ ـ المعرفيّ التحريضيّ، أكثر من انتمائه إلى الأبحاث العلميّة الحذرة والهادئة.
يبدأ الكتاب بالفرضية صفر ويتساءل المؤلف من خلال عنوانها: «هل تسعى الملاقف إلى تطويع الجغرافيا للشروط الإيديولوجية؟» ص.17 ويعتبر أن الملقف حيلة لتأمين الهواء المنعش للنساء، ليظلن داخل المنازل والقصور.
إن افتراضه الأول (صفرا) قد لا يكون موفقاً في إبراز «ذكورية» العمارة العربية المفترضة أساساً لدى الباحث. فالملقف (باد كير) أو (البرجيل) هو برج يعلو العديد من المنازل الكبيرة والقصور في منطقة الخليج وآسيا ومصر، وملقف الهواء هو ترجمة حرفية لما يوازيها (باد كير) في اللغة الفارسية، وهو منتج معماريّ إيرانيّ على الأرجح، فهو متواجد تاريخياً بكثرة في وسط إيران وخاصة مدينة (يزد) وجوارها، وما يشجعنا على هذا الاعتقاد، أننا لم نجد لها إشارة في المراجع التاريخيّة العربيّة الأولى. وبصرف النظر عن طبيعة وخصوصية المجتمع الذي أنتجه، فهو بالمحصلة عمل هندسيّ قام به المعماريّ في المنطقة منذ القدم، وربما يعود تاريخ استعمالها إلى مراحل ما قبل الإسلام. هذا العنصر المعماريّ ـ التقنيّ هدفه هو إدخال أكبر قدر من الهواء إلى داخل القصور والمنازل الكبيرة، وذلك عن طريق برج يعلو المنزل الكبير أو القصر، وظيفته الأساس هو أن يلطف الجو داخل المنزل ويكيف الهواء طبيعياً، وبذلك يخدم الذكور والإناث معاً وليست وظيفته الأساسية هي إبقاء النساء داخل البيوتات لأطول مدة ممكنة.
لذا يبدو أن هذا الافتراض ينطوي على الكثير من الإقحام والخلط بين الوظيفيّ والاجتماعيّ، بين الفيزيائيّ والفكريّ، وبالتالي بين الدلالة الرمزيّة الحسيّة للعناصر المعماريّة ووظيفتها الفيزيائية.
أما الافتراض الرقم واحدا الموسوم بإشكالية العمارة التقليدية الأولى هي «حجب النساء»، فيبدو أقرب إلى ملامسة الموضوع من الداخل، والأكثر قدرة على التأسيس للبحث اجتماعياً. حيث يؤكد على أن العمارة التقليدية نشأت في جزء طويل من تاريخها وهي تضع في اعتبارها وضعيّة النساء، أي نشأت ضمن مناخ لا يحبذ حضورهن الجسدي، ويعلن في أماكن عديدة ويكرر فرضيته المتلخّصة بأنه كانت هنالك دائماً ضرورة اجتماعيّة ودينيّة لحجب المرأة عن العيون بصفتهن عورة. ص27 ويقفز الكاتب من فكرة ونظرية حجب النساء إلى الحديث عن قصور ومساكن عائلية كبيرة تعود للملوك ورجالات الدين في عهود إسلامية متعاقبة ومدن مختلفة من العالم الإسلامي. ثم يشطح ،ها هنا، ليعتبر أن الفناء الداخلي «الحوش» في البيت العربي يستهدف العزل، أي عزل النساء عن الخارج، ناسياً أن المسكن نفسه، أياً كان بدائياً أم قصراً، تأسّس أصلاً على حاجة الإنسان لعزل نفسه عن محيطه الفيزيائيّ، وبناء فراغ محدّد ومكيف حوله، حول ذاته وخليته الاجتماعية الخاصة (العائلية).
الفرضية الثانية معنونة «بالفناءات المعزولة في العمارة بصفتها مصدّات اجتماعية للخارج المشبوه».
وعبر هذه الفرضية يشير الباحث إلى أن الدار هو سجن مريح للنساء، وأن فقه العمارة الإسلامية يستند الى ضرر الكشف، فالمدخل المنكسر في البيوت التقليدية هو أول تطبيق لهذا الفقه، وكذلك يتوجّب فصل قاعة الاستقبال عن بقية أجزاء المنزل، وعزل حجرات النساء عن قسم الرجال تماماً، وضرورة أن تكون النوافذ عالية. تعتبر الفرضية الثالثة أن «المشربيات إطلالة وحب للعالم من طرف واحد ذي أغراض تلصصية»، حيث يفترض الكاتب أن المشربية تجعل من الكائن سجين حلمه وتأملاته، الكائن الأنثوي قابع وحيداً خلف المشربيات يراقب المشهد من دون أن يلحظه أحد، في المشربيات نلتقي بفكرة (التلصص( بجميع أبعادها السيكولوجية المحض… ص.88 أما في الفرضية الرابعة فيعتبر الكاتب أن البناء الحديث يؤثر ويغير المعايير الاجتماعية التقليدية، عن طريق كسر وحدة وصرامة الفضاء التقليديّ كامل الإغلاق. ويؤكد أيضاً على أن وضع المرأة المعزول في الحوش التقليدي لم يتحسن كثيراً في الطراز الجديد للمباني السكنية والبرجية، ص.92 الفرضية الخامسة تعالج موضوع الجدران، إذ يقول فيها إن الجدران الخارجية لا تقوم بوظيفة جمالية وإنما هي سياجات وأسوار.
يستند الباحث في افتراضه هذا الى اقتطاف عدة أمثلة لفيلات ودور خليجية باذخة ومحصنة في الوقت نفسه، حيث تخفي هذه الجدران العالية جمال تصميم المنزل وواجهاته المزخرفة. وكل ذلك التحصن والعلو لغاية واحدة هي حجب النساء، وبالتالي الجمال المعماري يذهب ضحية لفكرة حجب وإخفاء النساء.
يعنون المؤلف فرضيته السادسة من الكتاب بـ «العمارة الذكورية» كأنه يظهر في منتصف متن الكتاب بأنه قد اثبت أن العمارة العربية الإسلامية هي عمارة ذكورية: (أن التغيرات المعمارية الحديثة في المنطقة العربية مقامة من أجل حرية الرجل، وحده في الحركة) ص101 ودليله القاطع في ذلك(الديوانية ـ المجلس) الذي يكون مجلساً للرجال وحدهم. ويقدم أمثلة من التراث على أن المجالس كانت للرجال فقط وصولا إلى ديوانيات الكويت الشهيرة والمعاصرة، التي أسست لدولة الكويت الحديثة، على حد تعبير الكاتب. كما انه يوضح بأن الديوانية المعاصرة هي رمز لتحديث العمارة الذكورية:«على أن تحول الديوانية إلى مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني لم يحل دون أن يؤثر بعمق في حركة المجتمع المؤدية إلى مزيد من المشكلات، خاصة بين أوساط النساء». ص .111
تدور الفرضية السابعة حول تدخلات الرجال في تصميمات المعماريين، ويبدو أن هذه الفرضية هي من أهم فرضيات الكتاب لأنها تمس الموضوع بشكل عملي ومباشر، ويقدم من خلالها أدلة على التصور المسبق لفصل قسم النساء كلياً في المنزل: «يذهب الأمر في العالم العربي إلى حد أن يفرض الملاكون تصوراتهم على المعماري من اجل إنشاء منزل مقسم تقسيما جنسوياً كاملا» ص.126 ويورد العديد من المخططات والمصورات في متن الكتاب لتثبت فرضيته هذه. أما الفرضية الثامنة فهي لفتة طريفة لمنشأة المقهى بصفتها تمثل عمارة الفحولة العربية. من خلال سرده لتاريخ وأخبار أشهر المقاهي في المدن العربية يستنتج أنها كانت مغلقة على الرجال ونافياً للنساء دون سبب منطقي مقنع، ويؤكد بذلك على أن المقهى هي عمارة الرجل بشكل مطلق، ص.134 وفي السياق نفسه يبين أن الحانة هي عمارة الطقس الذكوري الخاص والخالص.
الفرضية التاسعة من الكتاب تتطرق للحمامات بوصفها فضاء الحميمية المنغلق على نفسه. ويسرد في هذه الفرضية بعض التحفظات النصية والفقهية على ارتياد النساء للحمامات العامة في المدن الإسلامية، ويستنتج أنه لا يوجد سوى القليل من الحمامات المكرسة للنساء وحدهن، ويظل الحمام العام أيضاً منشأة خدمية من ضمن العمارة الذكورية حسب تصنيف الباحث شاكر لعيبي. الفرضية العاشرة والأخيرة، يعود الباحث فيها ليؤكد على فكرة كتابه العامة، ويعيد صياغة جوهر افتراضه الأساسي والمتمركز حول خطاب فكري يتلخص في أن التصاميم المعمارية الحديثة تنظيرات للعمارة الذكورية ونتيجة ونتاج لها. ويستند الى شهادات المعماريين والى التوثيق بالمخططات لخصائص ومواصفات الدور السكنية والفلل التي تم تصميمها من قبل مكاتب هندسية معروفة ومميزة. من خلال هذا الاستعراض الموجز للكتاب يتضح أن الفكرة الأساسية التي تطغى على مجمل النص ويشكل العمود الفقري للبحث، هي فكرة مسبقة وطاغية تتمثل في الفكرة ـ البؤرة: «يتوجب حجب المرأة فان بداهة حجب النساء هي الخلفية التي تتشكل فيها العمارة العربية الإسلامية.»ص17 وهذا لا يعني أن هذه الظاهرة تخص المجتمعات الإسلامية وإنما هنالك أنماط للحياة الاجتماعية أنتجت معادلها المعماري والعمراني، وعلى ما يبدو فإن الباحث وقع بصيغة أو بأخرى أسير عمارة شمال أوروبا البلورية المنفتحة على الخلاء، تلك العمارة المتعطشة أبداً للشمس والضوء، فاختزل الحداثة في الانفتاح على الجوار:
العمارة الأنثوية
«نظن أن الجوهري في العمارة الحديثة في العالم العربي والإسلامي هو إن الفضاء يجب أن يكون، ثانية، محكم الإغلاق رغم جميع الخدمات المتوافرة داخله. من هنا لا نرى البتة، حتى في المناطق الدافئة والباردة في العالم العربي، عمارة تقوم على إيجاد منافذ عريضة وشفافة كالشبابيك الزجاجية الواسعة المطلة على الخارج كتلك التي نراها في مدينة أمستردام التي تسمح في آن واحد بالتنافذ الروحي بين الداخل والخارج أو التنافذ الفيزيقي المحض الذي يسمح بدخول اكبر كمية من الضوء. وفي حال وجود شكل من أشكال هذه المنافذ الشفافة فإنها سوف تغطى بالستائر السميكة ذات الألوان الغامقة…» ص.93
أخيراً ورغم جدّة وطرافة كتاب الباحث والشاعر شاكر لعيبي وتميزه، إلا إننا نبدي بعض الملاحظات العامة. من الناحية المنهجية ينطوي الكتاب على إشكالٍ أساسي، حيث يتطلب تصنيف العمارة إلى ذكورية أن يقابلها عمارة أنثوية بالمقابل، وهذا لم يتأكد لنا من خلال استعراض تاريخ العمارة العام عبر مختلف الحقب، بما فيه المرحلة الأمومية من المجتمع البشري في طور نشوئه الأول، حيث لم نلمس بصمات نسائية صرف على المباني والمساكن الأولية في العصور الحجرية.
وكذلك يبدو من الخطأ إحالة جميع المسائل الاجتماعية من عادات وتقاليد التعامل وموقع المرأة في مرحلة تاريخية محددة وفي مجتمع معين إلى صيغ هندسية وفيزيائية بحتة. فالعمارة هي نتاج اجتماعي بامتياز وذكورية المجتمع تسبق كثيرا ذكورية عمارتها، خاصة أن جلّ أمثلة الكاتب المعمارية تعود إلى عمارة النخبة السلطوية الحاكمة سواء أكانت دينية أم دنيوية، وفي مراحل تاريخية متأخرة، حيث تم إهمال سكن الفقراء والعوام في المجتمعات العربية والإسلامية، هذه الجموع التي تشكل وتصوغ السمات العامة لعمارة مجتمعاتنا وتكون الغالبية المطلقة من ساكنيها، وهي لم تعمل ولم تبرز يوماً هذا الفصل والعزل بين الجنسين، سكان المنزل الواحد. وبالتالي انطلق البحث من عمارة نخبوية ضيّقة الانتشار، وتم استنتاج سماتها الخاصة والتعميم على مجمل الإرث المعماري العربي الإسلامي.
[ العمارة الذكورية، فن البناء والمعايير الاجتماعية والأخلاقية في العالم العربي.
لذا يبدو أن هذا الافتراض ينطوي على الكثير من الإقحام والخلط بين الوظيفيّ والاجتماعيّ، بين الفيزيائيّ والفكريّ، وبالتالي بين الدلالة الرمزيّة الحسيّة للعناصر المعماريّة ووظيفتها الفيزيائية.
أما الافتراض الرقم واحدا الموسوم بإشكالية العمارة التقليدية الأولى هي «حجب النساء»، فيبدو أقرب إلى ملامسة الموضوع من الداخل، والأكثر قدرة على التأسيس للبحث اجتماعياً. حيث يؤكد على أن العمارة التقليدية نشأت في جزء طويل من تاريخها وهي تضع في اعتبارها وضعيّة النساء، أي نشأت ضمن مناخ لا يحبذ حضورهن الجسدي، ويعلن في أماكن عديدة ويكرر فرضيته المتلخّصة بأنه كانت هنالك دائماً ضرورة اجتماعيّة ودينيّة لحجب المرأة عن العيون بصفتهن عورة. ص27 ويقفز الكاتب من فكرة ونظرية حجب النساء إلى الحديث عن قصور ومساكن عائلية كبيرة تعود للملوك ورجالات الدين في عهود إسلامية متعاقبة ومدن مختلفة من العالم الإسلامي. ثم يشطح ،ها هنا، ليعتبر أن الفناء الداخلي «الحوش» في البيت العربي يستهدف العزل، أي عزل النساء عن الخارج، ناسياً أن المسكن نفسه، أياً كان بدائياً أم قصراً، تأسّس أصلاً على حاجة الإنسان لعزل نفسه عن محيطه الفيزيائيّ، وبناء فراغ محدّد ومكيف حوله، حول ذاته وخليته الاجتماعية الخاصة (العائلية).
الفرضية الثانية معنونة «بالفناءات المعزولة في العمارة بصفتها مصدّات اجتماعية للخارج المشبوه».
وعبر هذه الفرضية يشير الباحث إلى أن الدار هو سجن مريح للنساء، وأن فقه العمارة الإسلامية يستند الى ضرر الكشف، فالمدخل المنكسر في البيوت التقليدية هو أول تطبيق لهذا الفقه، وكذلك يتوجّب فصل قاعة الاستقبال عن بقية أجزاء المنزل، وعزل حجرات النساء عن قسم الرجال تماماً، وضرورة أن تكون النوافذ عالية. تعتبر الفرضية الثالثة أن «المشربيات إطلالة وحب للعالم من طرف واحد ذي أغراض تلصصية»، حيث يفترض الكاتب أن المشربية تجعل من الكائن سجين حلمه وتأملاته، الكائن الأنثوي قابع وحيداً خلف المشربيات يراقب المشهد من دون أن يلحظه أحد، في المشربيات نلتقي بفكرة (التلصص( بجميع أبعادها السيكولوجية المحض… ص.88 أما في الفرضية الرابعة فيعتبر الكاتب أن البناء الحديث يؤثر ويغير المعايير الاجتماعية التقليدية، عن طريق كسر وحدة وصرامة الفضاء التقليديّ كامل الإغلاق. ويؤكد أيضاً على أن وضع المرأة المعزول في الحوش التقليدي لم يتحسن كثيراً في الطراز الجديد للمباني السكنية والبرجية، ص.92 الفرضية الخامسة تعالج موضوع الجدران، إذ يقول فيها إن الجدران الخارجية لا تقوم بوظيفة جمالية وإنما هي سياجات وأسوار.
يستند الباحث في افتراضه هذا الى اقتطاف عدة أمثلة لفيلات ودور خليجية باذخة ومحصنة في الوقت نفسه، حيث تخفي هذه الجدران العالية جمال تصميم المنزل وواجهاته المزخرفة. وكل ذلك التحصن والعلو لغاية واحدة هي حجب النساء، وبالتالي الجمال المعماري يذهب ضحية لفكرة حجب وإخفاء النساء.
يعنون المؤلف فرضيته السادسة من الكتاب بـ «العمارة الذكورية» كأنه يظهر في منتصف متن الكتاب بأنه قد اثبت أن العمارة العربية الإسلامية هي عمارة ذكورية: (أن التغيرات المعمارية الحديثة في المنطقة العربية مقامة من أجل حرية الرجل، وحده في الحركة) ص101 ودليله القاطع في ذلك(الديوانية ـ المجلس) الذي يكون مجلساً للرجال وحدهم. ويقدم أمثلة من التراث على أن المجالس كانت للرجال فقط وصولا إلى ديوانيات الكويت الشهيرة والمعاصرة، التي أسست لدولة الكويت الحديثة، على حد تعبير الكاتب. كما انه يوضح بأن الديوانية المعاصرة هي رمز لتحديث العمارة الذكورية:«على أن تحول الديوانية إلى مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني لم يحل دون أن يؤثر بعمق في حركة المجتمع المؤدية إلى مزيد من المشكلات، خاصة بين أوساط النساء». ص .111
تدور الفرضية السابعة حول تدخلات الرجال في تصميمات المعماريين، ويبدو أن هذه الفرضية هي من أهم فرضيات الكتاب لأنها تمس الموضوع بشكل عملي ومباشر، ويقدم من خلالها أدلة على التصور المسبق لفصل قسم النساء كلياً في المنزل: «يذهب الأمر في العالم العربي إلى حد أن يفرض الملاكون تصوراتهم على المعماري من اجل إنشاء منزل مقسم تقسيما جنسوياً كاملا» ص.126 ويورد العديد من المخططات والمصورات في متن الكتاب لتثبت فرضيته هذه. أما الفرضية الثامنة فهي لفتة طريفة لمنشأة المقهى بصفتها تمثل عمارة الفحولة العربية. من خلال سرده لتاريخ وأخبار أشهر المقاهي في المدن العربية يستنتج أنها كانت مغلقة على الرجال ونافياً للنساء دون سبب منطقي مقنع، ويؤكد بذلك على أن المقهى هي عمارة الرجل بشكل مطلق، ص.134 وفي السياق نفسه يبين أن الحانة هي عمارة الطقس الذكوري الخاص والخالص.
الفرضية التاسعة من الكتاب تتطرق للحمامات بوصفها فضاء الحميمية المنغلق على نفسه. ويسرد في هذه الفرضية بعض التحفظات النصية والفقهية على ارتياد النساء للحمامات العامة في المدن الإسلامية، ويستنتج أنه لا يوجد سوى القليل من الحمامات المكرسة للنساء وحدهن، ويظل الحمام العام أيضاً منشأة خدمية من ضمن العمارة الذكورية حسب تصنيف الباحث شاكر لعيبي. الفرضية العاشرة والأخيرة، يعود الباحث فيها ليؤكد على فكرة كتابه العامة، ويعيد صياغة جوهر افتراضه الأساسي والمتمركز حول خطاب فكري يتلخص في أن التصاميم المعمارية الحديثة تنظيرات للعمارة الذكورية ونتيجة ونتاج لها. ويستند الى شهادات المعماريين والى التوثيق بالمخططات لخصائص ومواصفات الدور السكنية والفلل التي تم تصميمها من قبل مكاتب هندسية معروفة ومميزة. من خلال هذا الاستعراض الموجز للكتاب يتضح أن الفكرة الأساسية التي تطغى على مجمل النص ويشكل العمود الفقري للبحث، هي فكرة مسبقة وطاغية تتمثل في الفكرة ـ البؤرة: «يتوجب حجب المرأة فان بداهة حجب النساء هي الخلفية التي تتشكل فيها العمارة العربية الإسلامية.»ص17 وهذا لا يعني أن هذه الظاهرة تخص المجتمعات الإسلامية وإنما هنالك أنماط للحياة الاجتماعية أنتجت معادلها المعماري والعمراني، وعلى ما يبدو فإن الباحث وقع بصيغة أو بأخرى أسير عمارة شمال أوروبا البلورية المنفتحة على الخلاء، تلك العمارة المتعطشة أبداً للشمس والضوء، فاختزل الحداثة في الانفتاح على الجوار:
العمارة الأنثوية
«نظن أن الجوهري في العمارة الحديثة في العالم العربي والإسلامي هو إن الفضاء يجب أن يكون، ثانية، محكم الإغلاق رغم جميع الخدمات المتوافرة داخله. من هنا لا نرى البتة، حتى في المناطق الدافئة والباردة في العالم العربي، عمارة تقوم على إيجاد منافذ عريضة وشفافة كالشبابيك الزجاجية الواسعة المطلة على الخارج كتلك التي نراها في مدينة أمستردام التي تسمح في آن واحد بالتنافذ الروحي بين الداخل والخارج أو التنافذ الفيزيقي المحض الذي يسمح بدخول اكبر كمية من الضوء. وفي حال وجود شكل من أشكال هذه المنافذ الشفافة فإنها سوف تغطى بالستائر السميكة ذات الألوان الغامقة…» ص.93
أخيراً ورغم جدّة وطرافة كتاب الباحث والشاعر شاكر لعيبي وتميزه، إلا إننا نبدي بعض الملاحظات العامة. من الناحية المنهجية ينطوي الكتاب على إشكالٍ أساسي، حيث يتطلب تصنيف العمارة إلى ذكورية أن يقابلها عمارة أنثوية بالمقابل، وهذا لم يتأكد لنا من خلال استعراض تاريخ العمارة العام عبر مختلف الحقب، بما فيه المرحلة الأمومية من المجتمع البشري في طور نشوئه الأول، حيث لم نلمس بصمات نسائية صرف على المباني والمساكن الأولية في العصور الحجرية.
وكذلك يبدو من الخطأ إحالة جميع المسائل الاجتماعية من عادات وتقاليد التعامل وموقع المرأة في مرحلة تاريخية محددة وفي مجتمع معين إلى صيغ هندسية وفيزيائية بحتة. فالعمارة هي نتاج اجتماعي بامتياز وذكورية المجتمع تسبق كثيرا ذكورية عمارتها، خاصة أن جلّ أمثلة الكاتب المعمارية تعود إلى عمارة النخبة السلطوية الحاكمة سواء أكانت دينية أم دنيوية، وفي مراحل تاريخية متأخرة، حيث تم إهمال سكن الفقراء والعوام في المجتمعات العربية والإسلامية، هذه الجموع التي تشكل وتصوغ السمات العامة لعمارة مجتمعاتنا وتكون الغالبية المطلقة من ساكنيها، وهي لم تعمل ولم تبرز يوماً هذا الفصل والعزل بين الجنسين، سكان المنزل الواحد. وبالتالي انطلق البحث من عمارة نخبوية ضيّقة الانتشار، وتم استنتاج سماتها الخاصة والتعميم على مجمل الإرث المعماري العربي الإسلامي.
[ العمارة الذكورية، فن البناء والمعايير الاجتماعية والأخلاقية في العالم العربي.
المؤلف :شاكر لعيبي. الناشر: رياض الريس للكتب والنشرـ لبنان ـ2007
——
عن جريدة السفير